حسناً فعلت هيئة علماء السودان على لسان أمينها العام الأخ البروفيسور محمد عثمان صالح، بتصحيحها أو تراجعها عن فتوى تكفير موقعي وثيقة الفجر الكاذب التي وقعتها قوى معارضة سياسية، مع حملة السلاح من الخارجين والمتمردين في العاصمة اليوغندية كمبالا، وجاء خبر التكفير، المصحح أو المتراجع عنه، عقب ما تردد عن توقيع رئيس حزب الوسط الدكتور يوسف الكودة في وثيقة فجر المعارضة المنتظر، واستحساني للنفي أو التراجع ليس له علاقة بالموقف من الوثيقة، ولا الموقعين عليها، لا القدامى ولا الكودة القادم في الظلام قفزاً على منطق الأشياء وثبات المواقف، ولكنني استحسنته لأنه تراجع عن مسألة خطيرة هي التكفير الذي يعدّ أكبر آفات المسلمين اليوم، ولم نعدّ نتعامل معه بمسؤولية، ولا ورع، وكأننا نسينا قوله صلى الله عليه وسلم، من قال لأخيه (كافر) فقد باء بها أحدهما. والمسلمون كانوا يتورعون في إطلاق كلمة الكفر حتى في مسائل الدين، ولكن بانحطاط الفكر الإسلامي، صار مسلمو اليوم ينعتون بعضهم بالكفر، حتى في المسائل الدنيوية، والاجتهادية، ونسي المسلمون أن هناك مساحة واسعة بين الرأي وغيره، وحتى الكفر، قال الفقهاء أن بعض الكفر لا يُخرِج من الملة، وفي ذلك ما جاء في تفسير ابن كثير لآيات سورة المائدة التي تصف من لا يحكم بما أنزل الله بالكافرين والفاسقين والظالمين، قال إنه كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم، وهو كفر لا يُخرِج من الملة، ومن ذلك حكم تارك الصلاة، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصف ترك الصلاة بالكفر، وفي تفسير الفقهاء، تمّ التفريق بين الذي يترك الصلاة جحوداً ونكراناً، وبين الذي يتركها تكاسلاً، فحكموا على تاركها جحوداً ونكراناً بالكفر البواح الذي يُخرِج من الملّة، وهو لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، أما الذي تركها تكاسلاً وتهاوناً مع الاعتراف بوجوبها، فكفره دون الكفر الأكبر، فيصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين. وقضايا السياسة وخلافاتها كلّها اجتهادية، وليس جديداً أن يصل الخلاف الاجتهادي بالمسلمين حدّ السيف، ولقد وقع ذلك بين من هم أكرم وأبرك منا، وأقرب لعهد النبوة، وفي عهد الخلافة الراشدة، وفي الفريقين اللذين التقيا بسيوفهم مبشرون بالجنة، وبرغم أن هذه السوابق لا تبرر أن يختلف المسلمون بعدهم، ويتقاتلون، لكنها تدعونا لأن نتعامل مع الذين يفعلون ذلك، بذات المنطق الذي تعامل به المسلمون الصادقون مع الأولين السابقين، والأصل في الدين حسن الظنّ، والبحث للإخوان عن الأعذار، ولكن حالة الانحطاط التي تصيب المجتمعات الإسلامية، جعلت التكفير يصير حالة عامة، انداحت في مجالات شتى، أكثرها ليس له علاقة بالمعتقدات، وبعض الناس يكّفرون غيرهم، في توافه الأمور، وهؤلاء معلومون، ومعلوم البلاء الذي أصاب الناس من وراء هذه الأحكام الجائرة. وما قام به المعارضون السودانيون من توقيع لهذا الاتفاق القبيح مع المتمردين الخارجين يعدّ خطأً وطنياً كبيراً، وتحولاً سيئاً في مسيرة العمل السياسي بالبلاد، وخطره على الوطن كبير، إلا أن عملية التكفير التي يروّج لها البعض يمكن أن تقود إلى ما هو أخطر من خطوة المعارضين المجنونة، وهنا يجب أن يكون للعقلاء دور.