* (إن قدرة حياتنا واتساعها، وحيوية انعكاس تفكيرنا عليها هما أساس الرؤية التاريخية، أنها وحدها تمكننا من أن نعطي حياة أخرى لظلال الماضي الناضبة). - فيلهم ديلتاي، مؤرخ من القرن التاسع عشر - .. واحد (تيرا)، وهي في مصطلحات ذواكر الكمبيوتر تساوي ألفاً وأربعة وعشرين (غيغابايت)، أي سعة ذاكرة عظيمة مقارنة بحاجيات الفرد، لكن ماذا بشأن صديقي الذي اشترى منذ أيام قرصاً صلباً خارجياً بتلك المساحة (واحد تيرا بايت)؟ لقد تبين لي فيما بعدا أن صوراً خطيرة التأثير البصري وفيديوهات مضحكة ونادرة وملفات إلكترونية بمساحات خرافية، يحبّ صديقي أن يؤرشفها، ولا أعرف لماذا؟ لذلك هو بحاجة إلى تلك المساحة من الذاكرة، ولكن ماذا بشأن ذاكرتنا نحن الكائنات البشرية التي تتحول شيئاً فشيئاً إلى مجرد دلالات رقمية تعيش عبر الإنترنت والموبايل واللاب توب؟. ما الذي بقي الآن طالما أن فضاء ( الفيس بوك) كفيل بجعلنا أحراراً أكثر من اللازم، وعلى الشاشة فقط! والمسنجر المشغول دائماً ينقل ضربات على أحرف بليدة تنبض أوامرها في مربع حوار يوصلنا افتراضياً مع أشخاص لا نعرفهم، نصدّر لهم أحلاماً بالمجان، وآمالاً مزيفة، محاولات فاشلة لقتل الذاكرة وقتل مساحات الحفظ في أعماقنا المضطربة.. واحد تيرا.. لا تكفي الآن لحفظ صورة الألم التي التقطتها أحزاني وأنا أقرأ الفاتحة على قبر أبي الذي مات وأنا في بلاد الغربة والأغتراب. واحد تيرا.. ترددات صاعقة من صراخ الوحشة بين عيني شوارع الجامعة وجبرا والصحافة وسط والكلاكلة القلعة – زريبة الحطب – وبين غربة سريري القاتلة أكثر من اللازم.. واحد تيرا.. برغم أهميتها عند تجار سوق شارع البلدية وعطبرة للكمبيوترات، لكنها ليس تقنية مناسبة تتسع كسلة محذوفات لأحزان شعراء أم درمان، وقناة النيل الأزرق – مواهيم ريحة البن، و شويعرة مشوار قصيدة – الذين يكتبون قصائدهم في الهواء الركيك، ويقرؤون أفراحهم للأشجار اليابسة ويدفنون أسرارهم تحت عجلات حافلات ودفارات وركشات النقل الداخلي وباصات الوالي ذات اللون الأبيض والكبدي، المحطة الوسطى.. ميدان أبو جنزير الذي يتعرض بدوره لنسف ذاكرة مباشر.. وسمحة المهلة! واحد تيرا.. ليس إلاّ نقطة هلاك في عيون الخدامات الحبشيات والفلبينيات المتناثرات صباح كل يوم عند أبواب بنايات كافوري والعمارات والرياض.. واحد تيرا.. ستجعل صديقي فرحاً بموسوعته الصغيرة أمام صور دوخان الكؤوس وهي تسمع نغمات أنين الكتّاب الحالمين بتغيير العالم.. واحد تيرا.. ذاكرة أحزان النمل الأبيض عندما يفسخ جثث المنتحرين قهراً على هذا الفراغ والملل المؤبدين.. واحد تيرا بشرية تساوي مساحة للهروب من الذاكرة وجرّ الماضي إلى مجزرة فورمات تاريخية..! نقل اللحظات الحزينة إلى البريد العشوائي وحذفه فوراً بعد أول دمعة تبشّر بوصوله.. تعطيل الجهاز العصبي للبكاء إلى حين مجيء العمر الثاني، وتأمين الأوراق الأخيرة لدخول الأمل إلى قلوبنا.. واحد تيرا تساوي (دم ٍ ثان ٍ) عبارة للبحريني قاسم حداد تجعلني أتفاءل بمجيء الضحك في أي لحظة مع حياة ثانية، لذا هنيئاً لصديقي بأحلامه التي جمعها ضمن الواحد تيرا تلك.. وأنا سأنتظر مع العالم نزول مبيد قاتل لتذويب الذاكرة والماضي وكل مستحضرات الألم الفتاكة..