تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    بالفيزياء والرياضيات والقياسات العقلية، الجيش السوداني أسطورة عسكرية    دبابيس ودالشريف    أسامة عبد الماجد: مُفضِّل في روسيا.. (10) ملاحظات    مناوي ل "المحقق": الفاشر ستكون مقبرة للدعم السريع وشرعنا في الجهود العسكرية لإزالة الحصار عنها    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    مجلس الأمن يعبر عن قلقله إزاء هجوم وشيك في شمال دارفور    أهلي القرون مالوش حل    السودان..البرهان يصدر قراراً    محمد صلاح تشاجر مع كلوب .. ليفربول يتعادل مع وست هام    السودان يطلب عقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن الدولي لمناقشة العدوان الإماراتي    أزمة لبنان.. و«فائض» ميزان المدفوعات    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا "أدروب" يوجه رسالة للسودانيين "الجنقو" الذين دخلوا مصر عن طريق التهريب (يا جماعة ما تعملوا العمائل البطالة دي وان شاء الله ترجعوا السودان)    شاهد بالفيديو.. قائد الدعم السريع بولاية الجزيرة أبو عاقلة كيكل يكشف تفاصيل مقتل شقيقه على يد صديقه المقرب ويؤكد: (نعلن عفونا عن القاتل لوجه الله تعالى)    محمد الطيب كبور يكتب: السيد المريخ سلام !!    استهداف مطار مروي والفرقة19 توضح    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في سبيل الدموستنارة ( الديموقراطية- الاستنارة ) قراءة في كتاب " ديموقراطية بلا استنارة " لعبد العزيز الصاوي 2 - 3 أبو بكر عبد الله ادم


ملخص الجزء الاول
أوضح الجزء الاول رأي مؤلف الكتاب من أن وجود نظام الاسلاميين واستمراريته مردهما ليس فقط أحتكاره العنف المنظم وغير المنظم بل ان سلطته تستند بقدر اكبر الى قاعدة اجتماعية افرزتها طبيعة التطورات الاجتماعية خلال الاربعة عقود المنصرمة. حصيلة هذه التطورات هي اضمحلال الوزن النوعي للقوي الحديثة صانعة التغيير والتقدم التي افرزتها عملية التحديث النسبي من خلال التغييرات التي أحدثها الوجود الاستعماري واهمها تأسيس النظام التعليمي الحديث والقطاعات الاقتصادية والخدمية العصريه. ويعود هذا الاضمحلال في عوامله الاساسية بدء من اواخر السبعينيات، الي تدهور الاقتصاد وماترتب عليه من ذوبان الطبقة الوسطي مع الهجرة الريفية الكثيفة للمراكز الحضرية ثم تدهور نوعية التعليم . وهذا مع عوامل ثانوية اخري ادي الي جفاف المنبع الذى يغذي نمو الاطر التنظيمية لقوى التغيير والدمقرطة للدرجة التى تمكنها من ازالة النظام اوتوفير الشروط اللازمة لحياة حزبية متطورة وتنمية تشكيلات المجتمع المدنى بانواعها المختلفة. امام هذا الوضع كيف السبيل لآستعادة الديمقراطية؟
___________
ثانيا: الديموستنارة كأوالية ) ( mechanismلتفكيك السلطة الظلامية
بالرغم من ان تحليله للأزمة انتهي به للنتيجة السابقه, فان الصاوى لا يدعو للاستسلام للنظام ,بل انه على العكس يرسم سبيلا وعراً للوصول لديمقراطية قابلة للحياة والأستمرارية. وهو طريق يبدأ من نقطة استعادة الخصوبة للتربة الحضرية -حاضنة الديمقرطية كثقافة عامة ومؤسسات حزبية وغير حزبية- وينتهى بتفكيك تدريجى للبنى الاجتماعية الداعمة للسلطة الظلامية بطاقة الديموستنارة التى تولدها القوى الحديثة. فالصاوى يرى ان التركيز الكلى على انهاء السلطة الأنقلابية بالمواجهة العنيفة أو نظيرها السلمى, المقاطعة الكاملة, يتجاهل حقيقة انها بنية فوقية لأخرى تحتية هى عدم تجذر الوعى الديمقراطى فى المجتمع الذى يوفر البيئة الحاضنة لبذرة الأنقلابات. أنه تركيز على النتيجة دون السبب (ص30).
اذن مشروع الصاوى لاستعادة الديمقراطية فى السودان ينبنى على استراتيجة لتقويض البنية القاعدية للسلطة الظلامية بأعادة الحيوية لقوى المجتمع الحضرى السودانى. و"عملية استعادة حيوية هذه القوى معقدة ومتعددة الجبهات بقدر تعقيد مسبباتها, ولكن جوهرها هو اعادة تكوين العقلية المدينية السودانية, بحيث تستعيد ملكة التّفكير والتصرف المستقل والنقدى التى تحصنها ضد الفكر والسلوك التقليديين( ص63). ولا يكون ذلك الا بتدشين عصر تنوير سودانى يشق طريق العقلية للخروج بها من غياهب العصور الوسطى, كما حدث فى أوربا, لاستحالة الديمقراطية بدون ديمقراطيين وعقلانيين (ص23).
1- نحو عصر تنوير سودانى: الحامل الأجتماعى للتنوير
خطاب التنوير والنهضة ليس جديدا على الفكر العربى الأسلامى فى مسعاه لتجاوز الانحطاط الذى تبدى بقوة مع صدمة اكتشاف الغرب. ولكن كيف السبيل لانتاج عصر تنوير سودانى و ما هى جذوره الوطنية وما هى درجة ارتباطه وقدرته للتفاعل مع تجربة التنوير التاريخية اوروبيا واسلاميا و عربيا ؟ من اين يبدأ المسلسل التنويرى السودانى وعلام يرتكز؟ هل هى دعوة للسير فى نفس المسلسل النهضوى الاوربى قبل أكثر من اربعمائة عام أم هى دعوة استيعاب مكتسبات الليبرالية اينما كان منبعها دون ان نعيش تجربتها؟ هل للتنوير الذى يدعو اليه جذور سودانية يمكن ان يقوم عليها؟ ما هي درجة الارتباط بين مشروع الصاوى و تيارات النهضة والليبرالية التى عرفها الوطن العربى والعالم الاسلامى ومنتجات روادها مثل محمد عبده و الأفغانى والطهطاوى والكواكبى وعلى عبد الرازق وطه حسين وسلامة موسى و قاسم امين و الحصرى و منيف الرزاز وغيرهم من ليبراليين واسلاميين وقوميين ؟
ان تفكيك خطاب الصاوى حول التنوير من خلال مقالات الكتاب التى تناولت هذا الموضوع من اكثر من جانب لا يمكننا من الاجابة على كل التساؤلات السابقة وغيرها الكثير غير انه يكشف لنا معالم الأجابة وبعض مقولاته حول التنوير. ما يدعو اليه الصاوى هو "عصر تنوير سودانى يستجيب الى خصوصيات واحتياجات محلية مستفيدا من عصر التنوير الأوربى وامتداداته الراهنه" ويكون المنفذ اليه تنمية الوعى الديمقراطى السياسى الذى ساهم تركيز النخب على الديمقراطية الاجتماعية على حسابه فى تعطيله كما اشرنا سابقا. و الأستنارة تعنى عند الصاوى "سيادة العقلانية والأنفتاح الذهنى والشعورى,موصولة بعصر التنوير الأوربى خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر بعموده الفقرى وهو الأصلاح الدينى (ص312). وهو ايضا : "التطور نحو اكتساب عقلية وعادات وسلوك حضرية مدينية بتأثير التعليم والمهن الحديثة والأنفتاح الذهنى والنفسى تجاه العالم الأكثر تقدما. وفى هذا السياق يتغلب لدى الفرد, ومن ثم المجاميع, الأنتماء للدولة والوطن على الأنتماء الأثنى والجهوى, وتأسيس قابلية للوعى بحقوقه وواجباته فى المجتمع ككل وهى جوهر العملية الديمقراطية(ص67 ). اذن التنوير الذى يسعى اليه الصاوى لا يكون بالقفز على الواقع بل انه يستجيب لخصوصيات محلية كما انه لا يقوم على استيراد نماذج أوروبية جاهزة يتم بعثها او اجترارها, بل انه يستفيد منها بهدف استزراع وعى ديمقراطى فى البيئة الحضرية السودانية.
يرجع الصاوى جذور الأستنارة سودانيا الى الحقبة الاستعمارية التى فتحت مدخلا " للتحديث الذى شمل البنى الأقتصادية والتعليمية والسياسية بصورة خاصة. فخلال المرحلة الاستعمارية " تشكلت القوى الحديثة كفئات اجتماعية لها مصالحها ورؤاها ومفاهيميها التنويرية المتعارضة مع الفئات التقليدية التى كانت فى الفترة المهدية وما قبلها تهيمن على المجال السياسى والاجتماعى فى السودان. وان تصاعد التحديث " المضطرد افقيا وراسيا بعد هذه المرحلة , كان متوقفا على تبيئة مفاهيم الأستنارة والعقلانية الغربية محليا باضطراد تصاعد الوزن القيادى للنخب غير التقليدية,لكونها أكثر انفتاحا وقادرة بالتالى على التفاعل الأيجابى والنقدى مع هذه المفاهيم,مما يتطلب تراكما للخبرات والمعارف شرطه الأساسى هو التنمية الديمقراطية كثقافة سياسية ونظام للحكم"( ص78). ويرد الصاوى العوامل التى ادت الي اضعاف هذا الشرط فى هذه المرحلة التمهيدية ,الى " فعل مصدرين متناقضين ولكنهما موحدى الحصيلة,هما استمرار النفوذ السياسى للنخب التقليدية الطائفية والميل المتزايد للحزبية غير الطائفية الى ايدولوجيات حرق المراحل ,ثم جاءت الأنقلابات العسكرية لتقوم بتبديد الرصيد الديمقراطى وتوليد عوامل استزراع آلية التراجع التحديثى بالحد من قدرة المجتمع, ممثلا فى قطاعاته الحضرية, على احتضان وتعظيم تيارات الأستنارة النهضوية"( ص78
من خلال هذا التحليل المكمل للعرض السابق حول جذور ألازمة الديمقراطية والتى قمنا بفصلها لضرورات منهجية, يظهر الترابط الموضوعى بين التحديث و الديمقراطية والأستنارة لوحدة حاملها الأجتماعى وهو الفئات غير التقليدية/الحديثة. فمع اختلال التوازن بين القوى الحديثة و التقليدية لصالح الاخيرة تراجع مد التنوير والوعى الديمقراطى . ومنذ السبعينات اصبحت البيئة الاجتماعية غير مواتية لهم حيث ان التراجع الديمقراطى يؤدى لتراجع تنويرى وبالعكس ." القدر المتحقق من (النهضة التنويرية) منذ عشرينات القرن الماضى تبخر كلية تقريبا الآن حتى اصبحت العقليات واساليب الحياة الفردية والجماعية المتفتحة ابتداء من اساليب الترفيه وحتى أكثر الأنشغالات جدية, جزرا معزولة فى بحر من التقليدية ذات القشرة العصرية"
اذن هذه الحالة السودانية البائسة تستدعى بشدة حركة اصلاح دينى تحدث ثورة علمية على مستوى بنية الفكر وتغيير جذرى فى النظام التعليمى كما حدث فى اوروبا والتى ادت بالنتيجة للانفكاك من الافق الابستمى القروسطى غير ان تباين التجربة التاريخية يحد من قيمتها الأقتدائية سودانيا مع ملاحظة ان عمليات التحديث المحدودة فى ظل الحقبة الاستعمارية خلقت اطارات ثقافية وسياسية تحمل قيم الاستنارة ولكن هذه القيم لم تتغلغل كعقلية وسلوكيات فى المجتمع الذى كان وما زال مشبعا بقيم تقليدية ساهمت فى تعطيل الاستنارة.
فالسودان- يقول الصاوى- لم يقدر له توفير البيئة الملائمة لتنمية الديمقراطية عقلية وتصرفات تلقائية حتى بمقياس الحدود الضيقة التى شهدت فيها مصر ما يشبه عصر النهضة والتنوير". ويضيف " فى غياب هذا الشرط الموضوعى سودانيا اصبح الدور الأهم موكلاّ للارادة الذاتية ممثلة في المجموعة التى شكلت نواة ما عرف فى الفكر السياسى السودانى بمصطلح القوى الحديثة وارتبط نشوؤها بالحاجة الأستعمارية لادارة جهاز الدولة واستثمار موارد البلاد لمصلحتها "( ص313)
تدشين مسلسل التنوير سوف يعتمد على الارادة الذاتية للقوى الحديثة لكونها الاكثر تأهيلا للاضطلاع بهذا الدور باعتبارها : "الفئة الأجتماعية التى استفادت من عصر التنوير الاوروبى بامتداداته فى السودان من خلا التحديث الذى ادخله الأستعمار". وبأرادة هذه القوى يمكن تهيئة الارضية الملائمة لتوليد الديموستنارة والتى بدورها تعطيها قوة دفع فكري واجتماعى عن طريق التغذية الأسترجاعية. ويحدد الكاتب استراتيجية محددة المعالم عبرها فقط يمكن لهذه القوى تحقيق ذلك واعادة المشروع الديمقراطى. وتقوم الأستراتيجية من جهة على وقف تأثير الزلزال الذى دمر فئات الطبقة الوسطى وتعطيل مفعوله من خلال اصلاح النظام التعليمى وتفعيل المجتمع المدنى بتنميته. ولتحقيق هذين الهدفين واهداف التغيير الاخري تنبنى الاستراتيجية على حاملين اثنين هما التحالف مع الغرب من جهة وبعض الاسلاميين من جهة ثانية.
2- نحو عصر تنوير سودانى: الأستراتيجية والبرنامج
أولا أهداف وبرنامج الأستراتيجية:
تقوم استراتيجية الصاوى على هدفين مركزيين متلازمين يجب ان تكون لهما الأولوية ضمن منظومة العمل المعارض و هما اصلاح النظام التعليمي وتنمية المجتمع المدنى:
فيما يتعلق بالهدف الأول يقول الصاوى : بما "ان المصدر الأساسى لتطور العقلية السودانية التقليدية نحو الحداثة ونشوء الكتلة التاريخية كان النظام التعليمى العصرى, فان أهم مدخل – بل المدخل الذى لا مدخل غيره لأستعادة هذه العقلية استناريا ومن ثم اعادة بناء قوى التغيير وأجوائها، هو اصلاح النظام التعليمى كمناهج ثم كمكونات اخرى للعملية التعليمية( انظر ص70 وص33 وص162). ولذلك يعطى الكاتب أولوية قصوى لهدف التركيز على المنظومة التعليمية كمحدد اساسى لأستراتيجية المجتمع المدنى السياسى الحزبى وغير السياسى تشتق منه كافة التكتيكات...(ص18). ان ما يركز عليه الكاتب فى هذه المرحلة هو اصلاح لا تغيير النظام التعليمى. وبالرغم من ان الكاتب يعترف بان " المدخل الأهم لمعالجة ازمة قوى التحضير والاستنارة هو التغيير الجذرى للمناهج التعليمية بكافة مستوياتها والبيئة التعليمية عموما" الا انه يرى ان ذلك غير ممكن حاليا لاختلال ميزان القوى لصالح السلطة الظلامية. واصلاح النظام التعليمى هو الوسيلة الممكنة لغرس بذور العقلانية الذى يمكن هذه القوى من تجاوز ازمتها بالعودة التدريجية للانتعاش بوتائر متزايدة. ويحدد الكاتب بتفصيل كيفية تحقيق الاصلاح التعليمى بتحويله لقضية رأى عام بابتكار وتنفيذ اساليب لنشر الوعى والتعبئة.
ولكن ما الثمن الذى على قوى التغيير دفعه حتى يسمح النظام بأدخال اصلاحات قد تؤدى الى زرع بذور الاستنارة التى تتعارض مع طبيعتها الظلامية وتفك قبضتها على المجتمع؟ الصاوى يرى ان : "الثمن سيكون تنازلات سياسية للحكومة القائمة,مقابل فك قبضتها على المنظومة التعليمية. وعلى الصعيد الخارجى سيكون تحالف ثقافي- سياسي مع الغرب الأمريكى والأوروبى (ص101)23).
اما الهدف الثانى فهو تنمية المجتمع المدنى اللا سياسى باعتباره المصدر الأساسى المتاح حاليا للتدريب العملى على السلوك والوعى الديمقراطيين لكونه " معهد تدريب على اهم مقومات البنية التحتية للوعى الديمقراطى, وهى استقلالية التفكير ومحاسبة القيادات " ص66 . ولانه "أقدر حاليا من الأحزاب على اجتذاب الجمهور العام, وعلى اتاحة الفرصة لعدد أكبر منه لممارسة الآنتخابات ومساءلة القيادات وغيرها من مقومات تنمية استقلآلية الرأى والعقلية النقدية, اساس الوعى الديمقراطى." ( ص 34) ويوضح الصاوى هذه النقطة بالقول : "كما هو الحال بالنسبة لهدف الاصلاح التعليمي فأن تحويل موضوع المجتمع المدني الي قضية رأي عام يقتضي أبتكار وتنفيذ مختلف الوسائل اللازمة لتنظيم حملة تثقيف وتعبئه فعاله للتعريف به والكيفية التي يؤدي بها دوره الحيوي بدء بكوادر المعارضه نفسها باعتبارهم رأس الحربه للحملة .
.يرى الصاوى ان شرط نجاح هذين الهدفين يكون فى "تسليمه لقوي المجتمع المدني ونزع اي صفة او تصرف يجعل منه جزء من المعركة السياسية ضد السلطه" وبنجاح البرنامج يتم اصلاح العطب الذى اصاب قوة الدفع التحديثى مما يولد قوة ضغط تتخذ على المستوى السياسى الصرف شكل حياة حزبية متطورة, وعلى المستوى غير السياسى تشكيلات المجتمع المدنى بانواعها المختلفة. و "بمرور الوقت المصحوب بعمل جاد ومثابر ومدروس ستتكاثر هيئات المجتمع المدني وتتحسن نوعيتها ويتعاظم الاثر الايجابي للطبيعة الاختيارية للروابط بين اعضائها في تطوير العقلية والسلوك، وهي تمارس نشاطها من خلال علاقة الاقناع والضغط مع الدوله كأجهزة بيروقراطيه و حزب حاكم وقياده رسميه حول المسألة التي تتبناها الهيئة المعينه. وبالرغم من لاسياسية هذه الهيئات فأن كون طبيعتها تنمي قابلية التفكير والتصرف الايجابي والمستقل توفر المناخ الملائم لانتاج نوعية راقية وفعاله من العضوية الحزبيه تعيد الاعتبار للعمل السياسي الحزبي في نظر الجمهور الواسع ومن ثم الاقبال عليه".
ثانيا: روافع الاستراتيجية:
وتحقيق البرنامج الاصلاحى باهدافه المحددة اعلاه يتطلب بالاضافة للتعبئة العامة رافعة خارجية هى التحالف الثقافى –السياسى مع الغرب الاوربى الأمريكى ورافعة داخلية هى التعامل مع النخب الأسلامية كمصدر لتوليد استنارى. ومن التأثير المشترك لفعل هاتين الرافعتين ستتولد الدفعة الاولى اللازمة لاطلاق الدينامية النهضوية والاستنارية الذاتية( ص327)
فيما يتعلق بالتحالف مع الغرب يقول الكاتب ان استخدام مصطلح تحالف يعود ضمن اسباب اخرى : "الى حاجتنا للاعتراف الصريح, دون لجلجة او تحفظات, بحاجتنا الماسة الى الغرب وبالتحديد لتقليد تجربته الديمقراطية من بين المكونات العديدة لأرثه الحضارى، نظرا لحاجتنا المصيرية لاستنبات التقاليد والثقافة الديمقراطيتين فى التربة المحلية كترياق لا ترياق غيره ضد التشرذم والانفجار الوشيكين." ص327
التحالف المقصود تحالف ثقافى ذوهامش سياسى, بما فى ذلك سياسى رسمى. وهدفه " تحقيق الهدف الانقاذى وطنيا بالذات حول التعليم والاقتصاد والتكنولوجيا, وليس الصراع حول قضايانا السودانية والعربية المشروعة معها. نحاول التوازن بين الأثنين. اما المواجهة فسيأتى اوانها عندما نصبح على قدر مسؤليتها, اى بقدر ما يترسخ النظام الديمقراطى لدينا. النموذج الذى يصلح للاقتداء هنا هى التجربة التركية.."( ص328 ),
بالرغم من المحاذير التى يراها البعض حول التحالف مع الغرب الا اننا نراه منسجما مع اهداف التنوير ورؤية الكاتب القائمة على الاستفادة من التجربة الغربية حيث كان احد المداخل للتنوير الغربى هى الاعتماد على الاخر العربى الاسلامى لأعادة اكتشاف الفكر اليونانى. ولولا انفتاح الغرب على الفكر اليونانى برافعة عربية اسلامية لما تاتى له النهل من منابع العقلانية الارسطية. غير ان المحاذير المشروعة هى فى تحديد نوعية وكيفية التحالف الرسمى مع الغرب خاصة ان الكاتب يركز على هامش تحالف رسمى فى ظل نظام السلام الامبراطورى الامريكى والامبريالية المتوحشة.
فيما يتعلق بالرافعة الداخلية ,فان غياب الشروط الموضوعية للديموستنارة وتعويل الصاوى على قوة الدفع الذاتى للنخب قاده للتنقيب عن مولدات لها فى كل مكان بما فى ذلك صحراء الاسلاميين. بالرغم من : "ان فكرة التنقيب عن مكامن الاستناره في اوساط الاسلاميين تبدو غريبه للوهلة الاولي بل ومنفرة للمجال اليساري الذي ينتمي اليه". ولكن كيف يستقيم فكرا ومنطقا ان تتولد الاستنارة من نخب تنتمى لفكر ظلامى تشكل عقلها داخل النسق الدينى الفقهى وشكلت الخطاب السياسى بمقولاته ومفاهيمه التى تتعارض بالضرورة مع الاستنارة على الاقل فى اطاره الغربى الذى يقوم خطاب الصاوى عليه.؟
تبريراً لامكانية الاعتماد على بعض الاسلاميين كمولدات ذاتية للاستناره ان وجدوا, يعطى الصاوي اسبابا فكرية وعملية. فكرياًً يقوم بمراجعة نقدية للتعريف الطبقى الذى يعتمد عليه الفكر اليساري لتعريف القوى المحركة للتغيير. فهو يري ضرورة إعادة تعريف هذه القوى " بغير المنبت الطبقي سواء كأنتماء او وعي به وانما بالتكوين الذهني الشعوري الملائم للتجاوب مع متطلبات تحديث المجتمع، بعبارة اخري النخب المستنيره بالتعليم الراقي والمهن العصريه والتفاعل مع العالم المتطور". ومن هذا التعريف ان المقومات الضرورية التى يجب ان تتوفر فى قوى التغيير فى اتجاه الديموستنارة ليست بالضرورة الانتماء والوعى الطبقى او القومى او غيرها بل ( 1) : التعليم الجيد خاصة اللغات الاجنبيه والعلوم الحديثه ( 2) مهن عصرية وحد معقول من الحياة المادية, واخيراً ( 3) الاحتكاك المباشر وغير المباشر بالغرب الاوروبي- الامريكي بتكوينه الحضري المتمدن.
اما من الناحية العملية, وكما يقول الصاوى : "من البديهي، بناء علي هذا التعريف، كون المجال الارحب لنشوء النخب المستنيرة في سودان اليوم هو اوساط أهل السلطة والثروه ومشايعيهم والدائرين في فلكهم العقائدي بما فيهم المختلفين معهم سياسيا وفقهيا، أي الاسلاميين عموما، ومن هنا جاءت فكرة البحث عن الرافعة الداخليه فيها". "معني ذلك ان دافع البحث عن الرافعة الاستنارية في هذا الوسط ( غير المستنير ) اضطراري لان الوسط الاخر ( غير الاسلامي ) أقلية ضئيلة عدديا ونوعيا. الاخير لايحتاج لبرهان لان مؤشراته هي المقاييس الاولية والخام للاستناره المذكورة سابقا وهذه لاتوجد بقدر ملموس الا حيث توجد الثروه والسلطه. اما الوزن العددي فأن القراءة الامينة لنتائج انتخابات جامعة الخرطوم تبرهن عليه." (ص330 ).
بناء على التعريف الذى يمنحه الكاتب لقوى التغيير والمقاييس الاولية والخام للاستناره فان المجال الارحب للتنقيب عن الاستنارة هو وسط الاسلاميين خاصة اذا ما اخذنا بعين الاعتبار بعض الشروط الموضوعية التى تعطى قوة دفع اساسية لعملية البحث عن مولدات للاستنارة وسط الاسلاميين "اهمها التصدعات التي لحقت بالمكون الاكبر في الصف ( الاسلامي ) نتيجة فشل التجربة التطبيقيه رغم الظروف المواتية حتي الان التي جعلت منه ككل اغلبية نوعيا وعدديا. هذا يجعل سواد المؤيدين للتجربه عرضة للتشكك فيها يتطور لدي بعضهم الي شكوك حول الاساسيات الفكرية لتيار الاسلام السياسي التقليدي ويجعلهم بالتالي اكثر انفتاحا تجاه العقلانية والاستناره. تدفع في هذا الاتجاه ايضا حقيقة ان تجربة الاسلاميين الوحيدة الناجحه هي التجربة التركيه التي تقدم دليلا قاطعا علي ايجابيات مثل هذا الانفتاح كذلك فأن اضطرار المؤتمر الوطني الحاكم للتساكن سلطويا مع حركة علمانية لابد ان يؤثر علي بعض منتسبيه " (ص331 ).
اذن "عجز المجتمع السوداني راهنا عن توليد نوعية القوي والعقليات المؤهلة لكسر دائرة ازماته المتداخلة نحو التداعي الكامل" والبحث المشروع عن مولدات للديموستنارة التى بدونها لا يخرج السودان من هذه الدائرة، قادت الصاوى للتنقيب عن استنارة فى صحراء الاسلاميين . علي ان هذه صحراء لا تصلح مياهها الجوفية ولا ما يتراءى كمياه على سطحها لتوليد تيارات تؤدى الى عقلية تتعارض مع بنية العقل الاسلامى وأواليات ( (MECHANISM اشتغالها، كما سنرى فى الجزء الاخير من هذه الورقة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.