آفة الأخبار رواتها كما يقول المثل، ونضيف إليه وناقلوها، ولقد سبح بنا قلم الأستاذ فتحي الضو في مقاله (من يحكم السودان) المنشور بموقع (سودانيز اون لاين) في بحر من روايات كان الهدف الرئيس منها هو إثبات أن الرئيس البشير كاذب أشر، سفاك دماء، وهي روايات فتكت بها آفات النقل فأحدثت بها من الثقوب ما أحدثت، وفتقت رتقها، لو كان بها أصلا رتق. ورغم أن ناقل الكفر ليس بكافر كما يقول بعض الفقهاء، فقد كانت الفرصة متاحة للأستاذ فتحي الضو لينأي بنفسه عن سهام النقد إن استخدم ولو جزء يسير من عقله ومن خياله الخصيب ليمحص ما يسمعه من روايات ، قبل أن يقذف بها لإبصارنا وهو يؤمل أن تدلف بعد ذلك لافهامنا كحقائق لا جدال فيها. وهيهات كانت فاجعتي في مقال الضو وفي الضو نفسه كبيرة فقد كنت رغم اختلاف توجهاتنا الفكرية، كنت احسبه وأعده من الكتبة الذين أجادوا حرفتهم من نواحي اللغة والبلاغة، فهو متملك لخيوط ما يكتب حتى آخر سطر، وتنساب حروفه انسياب ماء في جدول رقراق، غير أنها يمكن أيضا – كما اكتشفت - أن تنساب انسياب أفعى تنشر سما ما كل ما يتمنى المرء يدركه، قول آخر مأثور، وما كنت أتمناه هو إلا يصيب كاتبنا الغرور يوما ما فيظن أن كل ما يكتبه سيجد طريقه للقلوب والعقول دون نقاط تفتيش تسأله عن هويته، وتلك شيمة أهل المعارضة، إذ سهت نقاط تفتيشهم ونامت أعين عسكرها عن الفحص والتدقيق فمرت بضائع مزيفة لا حصر لها، ضربت صدقهم وأكلت أطرافه فاغتالت جهيننهم ولم يعد لهم من خير يقين. لقد ابتدر الكاتب مقاله بإيراد قصة من قصص عديدة بدأت اسطرها وانتهت إلى القول بان الرئيس البشير (كضاب) ، بلعنا تهمة هذه القصة الأولى على مضض وقد أصابنا الغم فالقول قد نقله كاتب له وزنه، ولا بد من انه قد بنى نقله على حيثيات ووقائع يصغر شأننا من الوصول إليها، ولا بد أن أكمته تخفى شيئا وراءها، لكن الفرج جاء سريعا وانزاحت غمامة الشك عن أذهاننا بشأن (كضب) رئيسنا عندما أورد الكاتب النص الآتي و لا وصف له سوى انه درة في متحف الأكاذيب: ( أذكر أن أحد الذين أثق في قولهم ويمتّ له بِصِلة قربى، قال لي: إنه كلما زاره في بيته في تلك الأيام عقب الانقلاب، وجده ممسكاً ب (الريموت كنترول) يتنقل بين القنوات الفضائية باستمتاع طفولي، دون أن يطرق بابه أحد، أو حتى يحادث أحداً عبر الهاتف، وذلك طيلة الفترة التي كان يمضيها معه وتمتد لساعات) هذه لعمري (نجرة) كبرى وفرية تهد الجبال ، لسبب بسيط هو أن البث الفضائي في ذلك الوقت وتحديدا عام 1989 كان غير متاح ليس في الدول العربية والأفريقية وحسب، بل في كثير من دول العالم الحر وغير الحر، ولو افترضنا أن رئيس السودان كان دون خلق الله جميعا في العالمين العربي والأفريقي ينعم بهذه التكنولوجيا فعلينا أن نجيب على سؤال يقول بأي بنية تحتية كان يتلقى الرئيس بثه؟ فالبنية التحتية للبث الفضائي في ذلك الوقت غير متوفرة لا في السودان ولا مصر ولا افريقيا ولا الدول العربية ولا غيرهما وأن اول قناة تلفزيونية عربية وهي ام بي سي افتتحت أواخر عام 1991 في لندن. ولعل من عايش تلك الفترة من القراء الكرام يتذكر أن محادثة تلفونية بين الخرطوم وبلد خارجي تكلف الجهد الجهيد من الصراخ ورفع الصوت للتغلب على رداءة الخطوط الهاتفية. لاحظوا أيها الاعزاء الحبكة الروائية وروائع فنون القول التي تتجلى في الإمساك بالريموت كننترول والتنقل بين القنوات الفضائية وركزوا معي على (الإستمتاع الطفولي) وجملة (دون أن يطرق بابه أحد) أرأيتم كيف يتلاعب هؤلاء الكتاب بعقولنا وينقلون لنا (تريلات) من الأكاذيب؟ ومن يا ترى يكون هذا الزائر الذي يمضي ساعات مع رئيس ليس له من عمل سوى التسلى بالقنوات الفضائية! شانه شأن مراهق يسحره وجه نانسي عجرم الطفولي، وتجذبه ابتسامة مذيعة متوردة الخدين، ويظل مفتوح الفم وهو يشاهد رقصة خليجية تؤديها فتيات في رشاقة الغزلان، أو تسحره قامة ليلى علوى المكتنزة؟ ماذا يتوقع هذا المحدث وماذا يتوقع ناقل حديثه في جملة (دون أن يطرق بابه أحد) هل يتوقعان أن يكون مقر إقامة الرئيس كمنزل (داية) في قرية ما قابل للطرق في أي وقت؟ هل نصدق أن هذا هو حال رئيس يحمل هم ثورة في عامها الأول تعصف بها الأنواء من كل جانب ويصرح الكثيرون من قادة المعارضة بأنها لن تعيش أكثر من ستة أشهر، ويحمل روحه على كف قدر لا يدري في أي مكان سيلقيه؟ وعندما أقرأ ما خطه قلم الضو نقلا عن محدثه الذي طلب منه السامعون رأيه الشخصي في البشير فسألوه: (.. أها قلت العيب شِنو؟ ) فقال الرجل باقتضاب شديد: (كان كضاب!)، وأقارن بين هذه القصة وقصة الريموت كنترول أتساْءل: يا تري هو ما هو مقياس (الكضب)؟ وعلى أي درجة من مقياس ريختر نقيس كذبة التنقل بين القنوات الفضائية بالريموت كنترول في عام 1989؟ ولو قلنا أن الكاتب المسكين لا ذنب له، و أنه لا يستحق هذا التقريع فهو قد نقل ما سمع، أليس من المفروض وهو يعتبر في عرف المعارضين كاتب (قامة) أن يراعي ما تفرضه شروط (القامة) من تدقيق وتمحيص لما يسمع و ما يصله من قصص وحكايات؟ أم يغدو شأنه شأن حاطب الليل يضع حطب الصندل جنبا إلى جنب مع حطب العشر ثم يبيع الصنفين باعتبارهما صندل وارد الهند، و في رواية أخرى وارد بلاد العم سام! وما أكثر العشر الذي يردنا من تلك البلاد وما أقل الصندل! لاحظوا الجملة التالية من مقال فتحي الضو، (وكعادة بعض أهل السودان حينما يودون أن يستقر حديثهم في أفئدة وعقول سامعيهم، قال واثقاً: والله على ما أقول شهيد يا جماعة!) ل قد استخدم الضو نفس أسلوب الرجل حين قال لنا: أذكر أن أحد الذين أثق في قولهم ويمتّ له بِصِلة قربى قال لي: إنه كلما زاره في بيته في تلك الأيام عقب الانقلاب، وجده ممسكاً ب (الريموت كنترول). لا ادري لماذا يكرر لنا الحديث عن (الثقة)؟ هل تكرار حديث الثقة يشير إلى خوف كامن من ألا يصدقه الناس؟ لكن لندع أحاديث الثقات و(الكضب) جانبا ونتناول مذهب المعارضين في (الخم) واعتبار أنفسهم أنهم الشعب السوداني وأن الشعب السوداني هو هم، ففي سياق هذا (الخم) يقول الضو: (وليس لأنه استعذب الرقص على أشلائنا حتى في أقسى اللحظات التي يمر بها الوطن الجريح. ولكن ببساطة لأننا لم ننتخبه،) ولا أدري من أباح للضو القول (لأننا لم ننتخبه)، من يعنى بكلمة (أننا) هل يقصد الشعب السوداني؟ أم هل يعني المغتربين؟ إن كان يتحدث عن الشعب السوداني فقد كذب ورب الكعبة فقد انتخبت أغلبية هذا الشعب الرئيس البشير، ولو سلمنا جدلا بان إرادة الشعب في الداخل قد زورت، وأنه يعني بقوله المغتربين فما رأي الضو في نتائج انتخابات المغتربين وقد صوت معظم من في الخارج لصالح البشير، هل تلك النتائج في اوروبا وامريكا واستراليا وكندا والخليج مزورة أيضا؟ إذا قول (أننا لم نتخبه) كذبة غير مبلوعة، بل أن صحيحها أن أراد الضو توخي الدقة هو القول: (لأن البعض منا لم ينتخبه)، ولا اعتقد انه يريد توخي الدقة بإيراد كلمة (البعض) ولو أراد لفعل، لكنه (الخم). ولو كانت الانتخابات مزورة وإرادة الشعب قد غيبت، نسأل الضو: ماذا ينتظر الشعب الآن؟ ولم هو ساكت والشوارع العربية تشتعل؟ هل هذا الصمت من جانب الشعب هو خنوع وذلة وخوف من جبروت الحاكم وسلطته؟ ذلك الحاكم الذي صوره لنا الكاتب في شكل شخص أبله (كذاب) سفاك دماء! هل لنا أن نقول أن الشعب السوداني جبان بامتياز يخشى صهيل الخيل وقعقعة السلاح ويسعى للسلامة حتى لو كانت تحت أخاديد جزمة عسكري؟ هل هو شعب (غشيم) لا يفهم في ساس يسوس ولا يعرف حقوقه وليس له من الوعي ما يعصمه من الانزلاق في براثن تمجيد الفرد والافتتان بالقائد الملهم بضم الميم وفتح الهاء أو كسرها؟ على كل من يتحدث نيابة عن الشعب السوداني أن يفسر لنا وبصورة مقتعة لم لم يتجاوب هذا الشعب مع قصص وحكايات ألف ليلة وليلة التي يوردها كتاب من أمثال الضو ومعارضون آخرون يسودون بها بيض ا لصحائف وناصع الشاشات! هل يتحدثون عن شعب لا نعرفه نحن يعيش في جزر البليار أو في بلاد التتار أم يتحدث هؤلاء يا ترى عن شعب القارة المفقودة اطلس؟ الشعب السوداني موجود في قرى القش وقطاطي الطين وفي زقلونات المدن وفي أزقة الفقراء، وموجود أيضا في عمارات الأثرياء ، ويشاهد جزء غير يسير منه كل يوم القنوات الفضائية ويتجول فيها بالريموت كنترول حقيقة واقعة وليس كما تجول رئيسه فيها من قبل في خيال محدث مأفون، أو كما قال من لا نثق فيه. هذا الشعب وجه لطمة قاسية للمعارضين المتحدثين باسمه ومد لسانه ساخرا لكل أطروحاتهم فهو شعب معلم قاد من قبل ثورتين في اكتوبر عام 1964 وفي ابريل عام 1985، شعب ناضج يسخر من جملة (لأننا لم ننتخبه) فلو أحس الشعب أن أرادته زورت لانتفض في ربيع الثورات العربية ولن ينتظر من يسوق له من أحاديث الإفك ألوانا. ولن ينتظر من يسوقه سوقا نحو هاوية سحيقة من الخراب والدمار، فالفيصل هو الشعب، الشعب وحده هو الذي في حده الحد بين الجد واللعب، لا أحاديث قالوا وقلنا.