أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    شمس الدين كباشي يصل الفاو    لجنة تسييرية وكارثة جداوية؟!!    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    المريخ يتدرب بالصالة    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    سوق العبيد الرقمية!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن التخابر والمخابرات: بصّاصون لوجه الله!


غرباً باتجاه الشرق
[email protected]
(1)
هناك عقيدة راسخة عند بعض السودانيين مؤداها أن كل باحث أكاديمي أو إعلامي أو صحافي مصري يزور السودان، أو يبدي اهتماماً بالشأن السوداني، أو يكتب عن قضاياه، لا بد أن يكون بالضرورة بصّاصاً يتبع لجهاز المخابرات العامة المصرية، وأن الغرض الأساس من وراء اهتمام هؤلاء وزياراتهم للسودان هو التجسس وجمع المعلومات. وقد استقامت هذه العقيدة على أن هؤلاء البصاصين إنما يتَّخذون من الصحافة والبحث الأكاديمي سلماً ومطية للوصول الى غاياتهم الاستخبارية!
أشعر بالأسى أحياناً لحال إخوتنا من أهل المحروسة حين يقال عنهم أنهم لا يعيرون بلادنا اهتماماً، ولا يحفلون بشأنها، لدرجة أنهم يخطئون في نطق وكتابة الأسماء السودانية. فإذا نهضت المؤسسات الصحافية والمراكز البحثية لتسد جانباً من الثغرة، وعينت بعض كوادرها الصحافية والأكاديمية لمتابعة شؤون السودان وتنوير الرأي العام المصري بمجريات الأحوال عندنا، ثم جاء هؤلاء المراقبون مستطلعين، وساعين للمشاركة في الحوارات السودانية العامة، حصبناهم بالحصى، وقلنا عنهم إنهم بصاصون!
لا عجب، فنحن بلد فريد. نحن بلد الأسرار. العالم كله يتحرَّق شوقاً للتجسس علينا، وقراءة نوايانا، والتعرف على خططنا وموجهات تفكيرنا الإستراتيجي. أحياناً أتصور أن مصر لديها، بخلاف المراكز البحثية العلنية، عدد من المراكز الاستخبارية السرية التي يهتم باحثوها ومحللوها - في الخفاء - بمعالجة موضوعات سودانية بالغة الحساسية مثل (توسع نفوذ الأنجيرا الحبشية مقابل تراجع الكسرة السودانية في مُلاحات السودان، وتأثير ذلك على الأمن القومي المصري)!
(2)
من خاصة أصدقائي الذين تقلبوا في الرتب الاستخبارية، التي أنعم بها عليهم بعض السوادنة، البصّاص الأكبر هاني رسلان، مدير وحدة دراسات حوض النيل في مركز الأهرام للدرسات الإستراتيجية، والبصّاصة د. أماني الطويل، الخبيرة في ذات المركز، والبصاصة أسماء الحسيني، نائب رئيس القسم العربي بصحيفة الأهرام. وقد طلب مني صديقي هاني مؤخراً أن أسعى له بين أهل الأسافير من السودانيين لرفع رتبته من عميد الى لواء، حفاظاً على صورته الاجتماعية وحقوقه، إذ إن دفعته من ضباط الشرطة والجيش والمخابرات وصلوا فعلياً الى رتبة اللواء، وأنه أصبح يشعر بالغبن بسبب الإبقاء عليه في رتبة العميد دون الترقية التي يستحقها. وعلى العكس تماماً، فإنه عندما زعم أحد السودانيين عن صديقتنا البصاصة د. أماني الطويل أنها تحمل رتبة عميد في جهاز المخابرات المصرية، وقمت من جانبي بإرسال الرابط الإلكتروني إليها مهنئاً بالرتبة، فإنها أبدت انزعاجاً شديداً، وردّت الرتبة عن نفسها، قائلةً إنها مازالت متراوحة بين ميعة الصبا وصدر الشباب، والتمست وساطتي لتخفيضها الى رتبة الرائد!
(3)
قرأت خلال الأسابيع الماضية مقالين مطولين، لكاتب وكاتبة سودانيين، جرى تكريسهما للتشنيع على صديقتنا البصاصة أسماء الحسيني، وإعادة رسم صورتها البهية في قوالب كاريكاتورية، وكشف (شخصيتها الانتهازية) و(تدخلها في شؤون السودان) و(صلاتها بالدوائر المشبوهة) و(ممارساتها الاستخبارية) وهلمجرا. جاء المقال الأول بعنوان (أسماء الحسيني.. خلي الطابق مستور)، ممهوراً بتوقيع شخصية حقيقية. وقد قامت صحيفة "السوداني" بنشره، بعد حذف أجزاء قدّرت أنها لا تصلح للنشر، لخروجها عن القواعد الأخلاقية المتعارف عليها. ولكن كاتبة المقال، وهي محررة بذات الصحيفة، حملت مقالها مغاضبةً الى صحيفة "الأهرام اليوم"، لا تلوي على شيء، فنشرتها الأخيرة كاملة بغير حذف. ولا غرابة، فمعايير النشر عند "الأهرام اليوم"، التي يرأس تحريرها حبيبنا الهندي عز الدين متسعة بعض الشيء، إذ هي من زمرة صحائف الخرطوم التي تخرج على قُرَّائها في العادة بمانشيتات وخطوط من شاكلة (القبض على أربع فتيات يلعبن الكوتشينة في منزل عزابة)! بينما حمل المقال الثاني بعنوان (أسماء الحسيني: مهنية الصحافة والمخابرات)، اسماً أكاد أظن أنه مستعار. واستعارة الأسماء والكتابة من تحتها لتصفية الحسابات الشخصية تجارة رائجة في زماننا هذا. المدخل والمضمون المشترك لإنجاز مهمة اغتيال الشخصية في المقالين - كما ذكرنا - هو إشاعة تهمات الانتهازية وتصنع الحرص على مصالح السودان والتخابر والعمل لحساب المخابرات المصرية تحت لافتة الصحافة.
اقرأ يا رعاك الله هذه المقتطفات كما وردت في المقالين المشار اليهما: (أذكر ذات يوم جمعتني طاولة مع مسؤول حكومي رفيع في وجود السيدة أسماء. كانت تحدثه عن حبها للسودان وعن حكمة المؤتمر الوطني في الوصول لاتفاقية نيفاشا مع الحركة الشعبية، وهي تعبر عن خوفها من انفصال الجنوب. وأنا لا أدري إن كان السبب هو ذلك فعلاً.. أم مياه النيل؟). ثم: (إن متابعة أسماء الحسيني لملف السودان ليس حباً في السودان أو من منطلق العمل الصحفي، إن وراءها جهات استخبارية). و(أسماء الحسيني تأتي دائماً الى السودان في مهام صحفية استخبارية تحت ستار مراسلة صحفية). ثم هذا التحليل الخطير الذي يلقي بأضواء كاشفة على دور أسماء البصاصة: (انكشف أمر أسماء الحسيني عندما بدأت تنفيذ تكليف الحكومة المصرية بأن تلعب دوراً للتقارب مع الحركة الشعبية لخلق علاقة جيدة بين جنوب السودان ومصر، هذا التقارب دافعه خوف حكومة مصر على حصتها من مياه النيل بعد انفصال جنوب السودان عن شماله)! ثم خذ عندك هذه الملاحظة الألمعية: (إن أسماء كانت تتابع مفاوضات نيفاشا وأبوجا باهتمام كبير، كيف لا وهي تمثل مرجعاً أساسياً لجهاز المخابرات المصري في الشأن السوداني). وعن أسماء أيضاً: (تريد أن تحافظ على مكانتها وسط جهاز الأمن المصري، وتواصل دورها المشبوه في التخابر على الحكومة السودانية تحت واجهة "مسؤولة الشأن السوداني" في صحيفة الأهرام)! ثم: (وفي كل زيارة لها الى السودان تكون مهمتها الفعلية – استخبارية – أكثر من صحفية، لذا تجدها حريصة على مقابلة بعض كبار المسؤولين السودانيين وعدد من الصحفيين لتزود نفسها بأكبر قدر من المعلومات)!
(4)
بالإمكان أن نصرف اهتمامنا كلياً عن مثل هذه المزاعم البلهوانية الموغلة في السخف والركاكة. على أساس أن من يروجونها هم من أصحاب الوعي المحدود والأجندة الشخصية (في حالة محررة صحيفة "السوداني"، وهي سودانية ذات جذور مصرية، كانت تعيش في مصر وتعمل في وظيفة متواضعة، قبل أن يتولاها رئيس حزب سوداني هامشي برعايته ويأتي بها الى السودان، ويقدمها الى بعض قادة العمل الصحفي فيه. وقد سعت خلال سني حياتها بمصر الى إقامة علاقة مع الأستاذة أسماء الحسيني، التي تشغل موقعاً قيادياً في صحيفة "الأهرام" وتحظى باحترام واسع في الدوائر المصرية، على أمل أن تساعدها أسماء في الحصول على وظيفة في المجال الإعلامي. ولكن محاولتها للتقرب - حتى لا نقول التزلف - لم يصادفها التوفيق، ولم تأتِ بالنتائج المرجوة).
الكاتب والكاتبة لا يعرفان أن "الجلوس الى الشخصيات الهامة والمؤثرة في الدولة" لا يصلح دليلاً لإدانة أي شخص بتهم التجسس والتخابر، لا سيما إن كان هذا الشخص صحافياً. كما إن سعي الحكومة المصرية لإقامة علاقات متميزة مع دولة الجنوب الجديدة ليس شأناً استخبارياً يستوجب خططاً سرية، بل هو عمل مشروع ومفتوح، تمارس مصر فعالياته تحت نور الشمس عن طريق مؤسساتها الرسمية. ولا شك عندي في أن كاتبي المقالين - الذين يهرفان عن هلع مصر وجزعها بسبب مياه النيل - لا يعرفان أن نسبة المكون المائي الذي تضيفه المسارات النهرية القادمة عبر جنوب السودان الى النيل لا تتجاوز أربعة عشر في المائة من المكون الكلي، وأن ستة وثمانون بالمائة من إيراد النيل يأتي من الهضبة الاثيوبية (راجع سلسلة مقالات الدكتور سلمان م. سلمان خبير قوانين المياه في البنك الدولي).
ولكن الحقيقة - مع ذلك - تظل هي أن مثل هذه المزاعم والتقولات ليست قصراً على أصحاب الفهوم الضئيلة وأهل الأجندة الشخصية. هناك قطاع مقدّر ممن نطلق عليهم "النخبة" يميلون الى ترديد ذات الخزعبلات عن الخلفية الاستخبارية للصحافيين والباحثين المصريين، ويدمنون ترديدها، بحيث دخل في روع الكثيرين أن هذه المزاعم ربما كان لها نصيب من الصحة، تأسيساً على أنه ليس هناك دخان بغير نار. وسنأتي لمناقشة هذه الظاهرة بعد هنيهة.
(5)
لفت نظري أن هناك روايات بعينها يجري تلوينها وتضمينها في سياقات المحاولات المتضافرة لاغتيال شخصية الصحافية المصرية أسماء الحسيني. على سبيل المثال حمل المقالان المشار اليهما رواية مشتركة، القصد منها إثارة الشكوك حول التكامل الخُلقي والتوازن النفسي للأستاذة أسماء. اتفق المقالان - في صياغة إيحائية خبيثة - على أن أسماء (تطلق على نفسها لقب "الشريفة أسماء"). ولو صح أنها تطلق على نفسها ذلك اللقب، لكان ذلك مثاراً للتساؤل. معلوم أن أهل المحروسة يحبون الألقاب الاجتماعية والعلمية ولا يفرطون فيها. ولكن الأنساب الدينية لها ضوابط معينة فلا ينتحلها إلا محتال. والكاتبان يجهدان لإلصاق شبهات ادِّعاء النسب الديني الرفيع بالصحافية المصرية: كيف تجروء أسماء على أن تنتحل لنفسها نسباً دينياً لا تستحقه؟! ولكن الحقيقة - لو لم تكن تعلم - غير ذلك تماماً. أسماء لا تطلق على نفسها أية ألقاب. إنما هناك دائرة صغيرة من الصحافيين والإعلاميين من أصدقاء أسماء في السودان ومصر هي التي تطلق عليها هذا اللقب. فمن أين جاء لقب "الشريفة أسماء"؟!
القصة وما فيها أن مجموعة من الصحافيين المصريين، ومن ضمنهم أسماء الحسيني، زارت السودان فى زمن قديم بدعوة من المغفور له مولانا السيد أحمد الميرغني رئيس الدولة الأسبق وفي معيته، وكان قادماً من القاهرة. وعند وصول ركب السيد الميرغنى الى داره بالخرطوم بحري تصادف أن توقفت السيارة المقلة للأستاذة أسماء وسط رهط من نساء الختمية. ولأمر ما التبس على بعض النساء واختلطت عليهن الأمور فظنن أن أسماء الحسيني هي زوجة السيد أحمد الميرغني، ومعروف أن السيد أحمد كان متزوجاً من سيدة مصرية من أسرة الشبراويشي العريقة. وبدون أية مقدمات اندفع عدد كبير من النساء صوب سيارة الأستاذة أسماء، وفتحن أبوابها، وهجمن عليها هجمة "إمرأة واحدة"، ثم شرعن في تقبيل يدها ومناداتها: (حبابك يا الشريفة.. مرحب بيكي يا الشريفة.. اتفضلي يا الشريفة). ارتجَّ على صاحبتنا، إذ عجزت عن فهم الموقف وتفسير ما يحدث، ودخلت في حالة من الارتباك لم ينقذها منه إلا ظهور الصحافيين السودانيين وفك الاشتباك بين أسماء ونساء الختمية، بعد تبصير الأخيرات بأن أسماء صحافية مصرية وليست زوجة السيد أحمد الميرغني. وتحول الموقف كله الى طرفة ضمن الطرائف التي يمكن أن تمر على كثير من الناس في مسار حيواتهم اليومية. ولكن عدداً من أصدقاء أسماء من السودانيين والمصريين أخذ يُطلق عليها منذ ذلك الوقت - على سبيل التفكه والتندر - لقب "الشريفة أسماء". فهو إذن لقب لم تطلقه هي على نفسها، وإنما أطلقناه عليها نحن معشر أصدقائها. أرأيت - أعزك الله - كيف تصدر بعض النفوس المعتكرة عن الهوى، فتزيِّف الحقائق وتلوي أعناقها، وتشيع الباطل بين الناس؟!
(6)
لفظة "أمن" ولفظة "مخابرات" من الألفاظ المحببة عند عدد كبير من أدعياء المعرفة. ولهؤلاء ولع عجيب بالأمن والمخابرات. يظن بعض هؤلاء أن تضمين مثل هذه الألفاظ في أحاديثهم، وتصنّع الدراية بآليات وأساليب العمل الاستخباري، وادِّعاء القدرة على النفاذ الى شخوص الاستخباريين وتعريتهم، تزيد من قيمتهم في أذهان الآخرين، وتضيف شيئاً من السحر الى ما يقولون أمام الناس، فتحتبس الأنفاس وتعلو الحواجب. كثيراً ما تسمع عند بعضهم عبارات مثيرة للخيال من شاكلة: (من طريقة كلامو والأسئلة التي سألها عرفتو ليك بتاع أمن)!
قبل أسبوعين كتبت مقالاً حول أحداث أبيي، ضمنته تحليلي الخاص وبعض رؤاي حول حقائق الموقف في المنطقة، وذلك في ضوء معلومات متوافرة في الوسائط العامة. وقد قرأت بعد ذلك تعليقاً لأحد القراء في موقع "الراكوبة" الإلكتروني، كتب تحت الاسم المستعار "متابع مهتم"، يزعم أنني لم أكتب ذلك المقال، وإنما كتبه جهاز الأمن والمخابرات، وقمت أنا بوضع اسمي عليه بهدف تحقيق أغراض استخبارية. جاء في بعض مداخلة القارئ فى صدد تثبيت نظريته وإيراد القرائن والأدلة: (مقال استخباراتي بامتياز. جبت المعلومات دي كلها من وين؟ غابت عن المقال لغة البطل وأسلوبه وعباراته. هناك عبارات كثيرة في هذا المقال لا يستخدمها البطل الذي أقرأ له باهتمام)!
ثم ماذا نقول بعد هذا.. وعندنا كل هؤلاء المحللين البواسل الذين يفلقون الصخر ويشربون النهر؟! ذكرني ذلك القارئ بخال والدتي، المغفور له توفيق أحمد إبراهيم، وكنتُ قد تعرفت عليه في مرحلة متأخرة، ووجدت فيه شخصاً ودوداً ذي عبقرية خاصة. كان يفخر بأنه تربي في أم درمان، وأنه وأفراد جيله يعرفون كل شيء في الدنيا. طافت بذهني من عباراته الطريفة: (نحن بنعرف ليك الكفتة فيها كم رزة)!
(7)
كتبنا في إحدى الفقرات السالفة: أن هناك قطاعاً واسعاً ممن نطلق عليهم "النخبة" يميلون الى ترديد ذات الخزعبلات عن الخلفية الاستخبارية للصحافيين والباحثين المصريين، ويدمنون ترديدها، بحيث دخل في روع الكثيرين أن هذه المزاعم ربما كان لها نصيب من الصحة. ولا زلنا عند قولنا. بيد أنه لا بد لنا فى ذات الوقت من أن نعبِّر عن قناعتنا بأن إخوتنا في شمال الوادي يتحملون نصيباً مقدراً من وزر المسؤولية عن استشراء تلك الرؤى والمفاهيم في أوساط النخب السودانية. لماذا؟
تاريخياً، منذ مبتدأ خمسينات القرن المندحر وعلى مدار السنوات والحقب اللاحقة، ظلت الإدارة المصرية تتعاطي مع شؤون السودان بوساطة جهاز المخابرات. وهكذا اصبح السودان - حكومةً وشعباً - بالنسبة الى الحكومة المصرية ملفاً استخبارياً، أو على الأقل هذا ما ظل يظهر للعيان من الزاوية السودانية. ومن هنا فقد كان الوجود الرسمي لعناصر المخابرات المصرية في بلادنا تقليداً معتاداً. وليت مصر - عوضاً عن ذلك - كانت قد عمدت الى ادارة شئون السودان عن طريق وزارة الخارجية، فتعاملت معه كدولة عربية أو افريقية شقيقة، شأنه شأن غيره من دول الجوار!
نصّبت مصر على سفارتها في الخرطوم وقنصلياتها، في المدن السودانية الأخرى، بعضاً من عتاة الاستخباريين. وقد ظل هؤلاء معروفون للكافة بأسمائهم ورتبهم، الى درجة أن كثيراً من السودانيين لا ينادونهم إلا بعد إيراد رتبهم العسكرية! بل انه كان يدهشني دائماً انه حتى المصريين الآخرين من الذين أقاموا بالسودان لم يجدوا غضاضة في إشهار الصفات والرتب الاستخبارية لطواقم السفارة والقنصلية المصرية. كان الأستاذ صلاح عبد اللطيف، مدير مكتب وكالة الشرق الأوسط بالخرطوم في حقبة الثمانينات، أطال الله عمره، يقول لي دون أن يطرف له جفن، كلما احتاج الى أن يشير الى شخص القنصل المصري آنذاك: (قلت لسعادة اللواء أحمد رجب)، و(سعادة اللواء قال لي..)! وعندما عاد أحمد رجب الى القاهرة فإنه تولى موقعاً قيادياً في جهاز المخابرات، ثم أصبح مديراً لمكتب نائب رئيس الوزراء.
وهكذا الحال مع كثير من الدبلوماسيين والقناصل. وليس آخرهم القنصل الأسبق اللواء عمر قناوي مساعد رئيس جهاز المخابرات الحالي، والقنصل السابق اللواء حاتم باشات الذي يشغل في يومه هذا منصباً مفتاحياً في قيادة المخابرات المصرية. وقد كان اللواء باشات هو النجم الساطع في سماء قيادات وكادرات المعارضة السودانية بمصر خلال حقبة التسعينات، فكان هؤلاء يدورون في مداره، ويأتمرون بأمره، ويصطفون خلفه كلما نُوديَ للصلاة من يوم الجمعة!
بل وحتى على مستوى السفراء، فإن مصر جعلت على السودان في بعض الفترات سفراء بصاصين، من غير منسوبي وزارة الخارجية. مثل رجل المخابرات المحترف السفير أحمد تقي الدين الشربيني، وكان سفيراً لمصر عند قيام انقلاب العصبة المنقذة عام 1989م. وقد تبين لأهل المحروسة فيما بعد أن الشربيني لا يصلح لا للسفارة ولا للبصاصة، بعد أن انطلت عليه حيل البصاصين الإسلامويين، فأدت تقاريره الاستخبارية "المضروبة" الى تضليل القيادة المصرية، وإيهامها بأن انقلاب العميد عمر البشير موالٍ لمصر ومتناغم مع مصالحها. وعلى طوال السنوات كان السودانيون يشهدون على شاشات الأخبار صورا لرئيس المخابرات المصرية اللواء عمر سليمان وهو يصعد ويهبط مدارج مطار الخرطوم فيلتقي رأس الدولة وكبار المسؤولين في السودان بشأن القضايا المشتركة بين البلدين.
ثم ان جهاز المخابرات المصري كاد أن يصبح عنواناً ثابتاً في خطوط وعناوين الصحف السودانية، لا سيما فى عهد الانقاذ، فكنت تقرأ مانشيتات من صنف (اللواء حاتم باشات يترأس وفد المخابرات المصري للسودان). و(وفد من المخابرات المصرية يصل الى جوبا). وذلك على نحو يعيد الى الاذهان ما كتبه الصحافى العملاق محمد حسنين هيكل فى احدي كتبه، عن محصّل التذاكر فى بعض الحافلات التى كانت تمر بإحدى المواقع العسكرية قرب الاسكندرية، اذ كان المحصل ينادي: "حد نازل المطار السري"؟!
(8)
ومن الحق الذي لا مراء فيه أن مصر استخدمت في الزمن القديم صفة الصحافي غطاءً وساتراً للمهام والأغراض الاستخبارية. وكنت قد استعرضت من قبل صفحات من كتاب اللواء عبد الفتاح أبو الفضل، عضو تنظيم الضباط الأحرار المصري الموسوم (كنت نائباً لرئيس المخابرات). وفيه يقر بأن المخابرات المصرية كلفته بمهام استخبارية داخل السودان خلال حقبة الخمسينات، وأنه ذهب الى الخرطوم تحت غطاء صحفي، حيث عمل وعاش في الخرطوم يمارس مهنته الاستخبارية بينما هو يحمل صفة مندوب لصحيفة مصرية معروفة. وقد دهشت لهذا التصريح أيما دهشة، إذ لم يكن ليخطر على ذهني أن أجهزة المخابرات أصبحت تصرح لمنسوبيها السابقين بالكشف عن مثل هذه المعلومات وإباحتها للسابلة. ومع ذلك فإننا نتفهم تماماً أن الصراع بين الحكومة المصرية والسلطات البريطانية في الفضاء التاريخي لتلك المرحلة، ومقتضيات واقع التنافس المحتدم بين عنصري الحكم الثنائي لا سيما فى مرحلة الاستقلال، ربما أجاز استخدام مثل تلك السواتر. خاصةً وأننا نعلم أن البريطانيين كانوا يمارسون البصاصة بدورهم داخل السودان في إطار مساعيهم الحثيثة لتقليم الأظافر الوحدوية، وكسر شوكة الدعوة لقيام دولة وادي النيل، وتحجيم النفوذ والوجود المصري إجمالاً.
ونحن نعلم أيضاً أن الوجود الكثيف للعناصر الاستخبارية المصرية في السودان من خلال التمثيل الرسمي القنصلي والدبلوماسي لم يكن مرده في الأصل الرغبة في ممارسة البصاصة على السودان والسودانيين. مصر تعلم تمام العلم أن كل شيء في السودان مفتوح ومنشور في الهواء الطلق. ولا حاجة لها ولا غيرها لإرسال بصاصين محترفين لجمع المعلومات. ولهذا فإن هؤلاء لم يبالوا بالمجاهرة بصفاتهم الرسمية، والمعالنة برتبهم الاستخبارية، خلال سني عملهم في السودان. الأمر كله - كما ذكرنا آنفاً - يتعلق بمناهج وآليات الأداة التنفيذية التي اختارتها الدولة المصرية للتعامل مع السودان. وقد اختارت مصر أن تكون تلك الأداة هي جهاز المخابرات العامة. وهو اختيار جانبه التوفيق من أي جنب أتيته. لأنه يبعث على التوجس والقلق، بأكثر مما يدعو الى الاطمئنان، ويثير الوساوس والشبهات، بأكثر مما يعزز الثقة.
كان يجدر بمصر أن تفرق بين عهد الاستعمار وعهد الاستقلال، فتتعامل مع السودان المستقل عبر أداة تنفيذية ذات عقلية مدنية، لا من خلال جسم استخباري ذي عقلية أمنية. ذلك كله تاريخ مضى لشأنه. ونحن أبناء اليوم. وبوسع مصر ان تؤكد على خصوصية العلائق وتميزها عن طريق خلق أداة تنفيذية ذات ذراع مستقل، كأن تنشئ كياناً دستورياً، فى شكل وزارة دولة لشئون السودان، فيبادلها السودان بإنشاء وزارة مقابلة لشئون مصر. وتكون من شأن هذه الأداة التنفيذية قيادة وتوجيه مسارات العلائق المشتركة باتجاه الغايات المرتجاة. وقد آن الآوان للقيادة المصرية ان تعي بأن مستقبل هذه العلاقات يتطلب نقل ملفاته بكاملها من أيدى العساسين والبصاصين الى ايدى السياسيين والتنفيذيين والدبلوماسيين والاقتصاديين وأهل الفكر التنموى الوحدوي.
(9)
ظل هذا التواجد الاستخباري الرسمي التاريخي الثقيل، بكل معاني الثقل المادي والمعنوي، يلقي من حوله ظلالاً سالبة، ويكثف الغبار حول كل الشخصيات المصرية التي تهبط أرض الخرطوم وتتعاطى مع شؤون السودان. وتحت تلك السموات الملبدة بالهواجس أصبح كل مصري يعمل ويعيش في السودان، سواء كان أستاذاً جامعياً، أو معلماً، أو صحافياً، أو مهندساً للري، أو موظف طيران، أو حتى خابزاً للبقلاوة في محل للحلويات، يمشي في أرضنا ملفوفاً بغلالات الريب، محفوفاً بجذاذات البِصاصة.
لا غرو إذن إن طال همز الاستخبار ولمزه صديقتنا الاستاذة أسماء الحسيني، والرهط من الصحافيين والباحثين المصريين. ومن ثم اهتبل أصحاب الهوى تلك الثغرات الخبيثة لدفع أجندتهم المعتوهة، وتصفية حساباتهم المشبوهة. وقد جاء في "شرح كتاب السنة" للإمام البهبهاري: (صاحب الهوى أشد خطراً من صاحب المعصية). كما جاء على لسان شيخ الإسلام ابن تيمية: (صاحب الهوى لا حكمة له ولا زمام)!
عن صحيفة "الاحداث" - 15/06/2011


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.