Alamin Ahmed Ahmed [[email protected]] كان لقائي بالمستر أشر ممتعا ، فقد وجدت الرجل يستدفئ بشمس السودان الدافئة ذلك الصباح من شهر سبتمبر عام 2007 ، جالسا في حديقة دار ضيافة جامعة الخرطوم ببري يطالع الصحف ومادا رجليه على النجيلة الخضراء. قام من مجلسه وحياني بحفاوة بالغة وأخذ يتحدث إلي وكأنه يعرفني منذ أمد بعيد ، كان الرجل فرحا بعودته بعد طول غياب إلى السودان فكان يحكي ويروي ، والوقت يمضي دون أن نحس به. حديث المستر أشر شيق وأخباره مثيرة والرجل حلو المحيا له إبتسامة عذبة. هو في السابعة والستين من عمره ، كان قد زار السودان من قبل لما كان في الثانية والعشرين من العمر ، جاء متطوعا في بداية الستينات وأمضى عامين بمدرسة خورطقت الثانوية معلما للغة الإنجليزية، ولما أكمل مدة تطوعه عاد إلى بريطانيا. الآن وبعد مضي إثنين وأربعين عاما يعود مستر أشر ثانية للسودان ، ترى ما الذي دفعه لهذه الزيارة؟؟ يحكي أشر أنه أحب السودان وأنه في شوق لزيارة كل الأماكن والربوع التي زارها من قبل ولمقابلة أخوة أعزاء . كان قد إلتقى من قبل في بريطانيا بأحمد إبراهيم الطاهر فتلقاه أحمد بالأحضان ، ولما دهش الحاضرون من حرارة اللقاء قال لهم الطاهر إن هذا هو أستاذنا مستر أشر ، كان في الثانية والعشرين عندما وفد إلينا في خورطقت..ويؤكد أشر بقوله .. حقا لقد كنت أقرب للطلاب مني للأساتذة يومئذ. ذكر أنه سافر ضمن الفريق المراقب لإمتحانات الشهادة المتوسطة إلى حمرة الوز في أطراف شمال كردفان ، ويحكي أن تلميذا ركب معهم في الكومر وأصر أن يستضيفهم في قريتهم التي كانت في الطريق من حمرة الوز إلى الأبيض. ذلك التلميذ هو الآن البروفسور الطبيب محمد الشيخ ويقول أشر أنا الآن في ضيافته في هذه الدار الجميلة ببري مثلما كنت ضيفه يوما ما في قريتهم الصغيرة في أطراف شمال كردفان. حكيت له عن ذلك الطالب من النمسا الذي درس بكلية الزراعة بجامعة الخرطوم والذي لما عاد لدياره أخذ قومه يطلقون عليه إسم (السوداني ) ذلك لأنه أدخل على أهل تلك المدينة الصغيرة في أعالي جبال الإلب عادات لم يألفوها ، إذ كان يحي الجميع من يعرف ومن لا يعرف ، وكان يزور أهله و يتفقدهم صباح مساء، دهش مستر أشر وقال .. عجبا أنا أيضا في بلدتي يسمونني السوداني . يقيم مستر أشر الآن في بلدته كولسشتر شمالي شرقي لندن، وهو يمضي فترة تقاعده مستمتعا بإجازة مفتوحة وراحة بال، ويمضي جل وقته في أعمال خيرية ، ومن ضمن برنامجه الأسبوعي أنه خصص يوم السبت ليستقل القطار ويقطع ما يقارب السبعين ميلا ليصل إلى لندن، فيتوجه إلى المدرسة الأسبوعية السودانية حيث يقوم تطوعا بتدريس أبناء السودانيين المقيمين بلندن حصة في الأدب الإنجليزي ، وفي المساء يعود أدراجه إلى بلدته مستقلا القطار عائدا إلى كولسشتر، وما يزال المستر أشر مواظبا على عمله الجليل هذا لم ينقطع عنه يوما. هاهو أشر يعود إلى السودان مستمتعا بكل ما تقع عليه عيناه ، لكنه يقول أيضا أنه أتى في مهمة خاصة.... ما من أحد في مدينة الأبيض لا يعرف عبنر هسبند ..فهو ذاك العنبر الشهير في وسط مستشفى الأبيض والذي يحتضن كل من تجرى له عملية جراحية من الرجال أو كل من يصاب بكسر في عظامه، ومنذ أواخر الأربعينات وحتى منتصف الستينات كان الجراح هسبند هو المعالج والمشرف على مرضى هذا العنبر لذا سمي العنبر بإسمه. إبان الحرب العالمية الثانية كان الطبيب الشاب هسبند قد وفد إلى إثيوبيا ضمن قوات الحلفاء ، وقد أتي معاونا ومعالجا للجرحى والمصابين ، وكانت معه زوجته السيدة وندي ، إلا أنهما لما انتهت الحرب لم يعودا إلي بريطانيا بل غادرا إثيوبيا إلى السودان ، واستقرا بالأبيض، ولأكثر من عشرين عاما ظلا يعملان في معالجة المرضى ومصابي الكسور بكردفان، كان هسبند هو الجراح ووندي الماترون بالمستشفى. ومن فرط محبة هسبند وزوجته للسودان فهما لم يفكرا أبدا في العودة لبريطانيا ، بل كان هسبند يمني نفسه بتقاعد ممتع في أحضان جبال النوبة في مدينة الدلنج . إلا أن إصابته بمرض باركنسون جعلته يعدل عن رأيه ويعود إلى بلاده . في بريطانيا كما يذكر هسبند لصديقه الدكتور آدم فضل الله أنه وجد نفسه مديرا لمستشفى فاخر في إحدى أطراف بريطانيا ، لكنه يحكي في أسى للبروفسور فضل الله ويقول له .. إني لأفضل قبرا في الأبيض على هذا المكان الفاخر. لما حضرالمتطوع الشاب أشر إلى الأبيض كانت بها أسرتان فقط من بريطانيا ، إحداهما كانت أسرة الدكتور هسبند. ولم يرزق آل هسبند بذرية فنذرا حياتهما لعملها ، وكان هسبند بجانب عمله يعمل على تربية ومساعدة كثير من الأطفال السودانيين ممن هم في حاجة إلى رعاية وكان يعلمهم كيف يصنعون له معداته التي يحتاج إليها في معالجة مرضاه. أما أشر فكان يزورهم كل نهاية أسبوع ونشأت بينهم علاقة حب وود ، ولما زارت ملكة بريطانيا الملكة أليزابيث السودان في العام 1965كان من ضمن مستقبليها في مدينة الأبيض الجراح مستر هسبند وزوجته وندي وذلك المتطوع الشاب مستر أشر... في بريطانيا بعد حين إجتمع شمل الأصدقاء الذين جمعتهم مدينة الأبيض يوما ما .. وصار أشر أكثر قربا من الأسرة ، وحينما أقعد المرض مستر هسبند أشار عليه الأطباء أنهم بصدد إجراء عملية له غير مسبوقة ، وتقدم هسبند طائعا لتجرى له عملية تصادف نجاحا لبعض الوقت ثم تنقلب إلى حالة أعنف من المرض فيما بعد....وتتفرغ السيدة وندي لرعاية زوجها ، لكنها أيضا تخرج لتعمل في مستشفى قريبة من دارهما ، كانت تخرج وتعود مسرعة لتتفقد الشيخ المريض .. المستر هسبند يقرر شيئا .. ويمضي في صمت في تنفيذ مخططه ، وإذا بالسيدة وندي تعود يوما من عملها لتجده قد أكمل تنفيذ مخططه ، فيعتريها حزن عميق وتقول لأشر .. كنت أتوقع ذلك، لكني ما كنت أتوقع أن يقدم على ذلك دون أن يخبرني فلربما أقنعته ألا يفعل.. تقدم العمر بالسيدة وندي وحيدة بعد فقد زوجها ، لكن برفقة صديقهما المستر أشر .. تجاوزت الثمانين .. قالت لأشر .. أجد نفسي عاجزة عن العناية بنفسي ، لعلي أصبحت في حاجة للإنضمام إلى أحد دور المسنين.. وفي يوم من الأيام وبعد ترتيبات توجهت السيدة وندي إلى غرفة صغيرة بدار للمسنين .. لا تحمل معها من مقتنياتها سوى لوحة جميلة رسمت بالألوان الزيتية ، أبدع في رسمها فنان تشكيلي سوداني. لم تكن السيدة هسبند تتلقي معاشا من الدولة ، ولم تكن تملك إلا نذرا قليلا من المال ورثته عن والدها ، إضافة إلى ما آل إليها من بيع منزلها.. ويذكر أشر أنه كان دوما يتحسس محفظته في حياء كلما احتاجت وندي شيئا ما. في نوفمبر من العام 2005 أسلمت السيدة وندي الروح .. قام أشر بكل ما يلزم من إجراءات لمواراتها الثرى ، وقال أنه عزفت لها أنغام سودانية في مراسم دفنها .. وتركت السيدة هسبند وصيتها لدى محاميها. في ذلك الصباح الدافيء في حديقة دار ضيافة جامعة الخرطوم ببري إقترب مني محدثي المستر أشر مبتسما وقال سأبوح لك بسر .. لقد أخبرني المحامي أن السيدة وندي هسبند قد أوصت لي بكل إرثها، وأنها للعجب لم تترك شيئا قليلا ، بل أوصت لي بما يقارب المليون جنيه!! إدخرت وندي هسبند ما يربو على التسعمائة ألف جنيه أسترليني وهبتها كلها لمستر أشر ... وأشرق وجه مستر أشر وقال .. ما كنت لأستطيع زيارة السودان مرة أخرى لولا هبة وندي هذه..ويقول أشر قررت أن ثروة وندي لابد لها أن تذهب إلى أعمال خيرية وأنه الآن قد شرع في التبرع بها إلى عده منظمات وهيئات ، فقد تبرع بمائتي وخمسين ألف جنيه لمنظمة أطباء بلا حدود (وهي تعادل أكثر من مليار جنيه سوداني قديم ) وتبرع أيضا بعشرين ألف جنيه لمنظمة ( فارم آفريكا ) ومبلغ مماثل لمنظمة المتطوعين بالسودان ، وما يزال لديه الكثير لينفقه فهو يعتقد أن ذلك سيسعدها كثيرا في قبرها. أخبرني أشر في اليوم التالي سوف يغادر إلى كردفان وأنه سيتوقف لساعات في كوستي ، يقول أنه في شوق لزيارة الأبيض ورؤية خورطقت ، وربما يمر على المنزل الذي كانت تقطنه أسرة هسبند بالأبيض.. وودعت الرجل وأنا أدعو الله أن يتقبل منه ، بل دعوت الله أن يشرح صدره للإسلام حتى يجعل الله أعماله كلها في ميزان حسناته ، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، كما دعوت للجراح المستر هسبند والسيدة وندي هسبند اللذان أمضيا أكثر من عشرين عاما في خدمة أهل كردفان.