ربما اعاني من أزمة النسبية ؛ حيث تتساوى كل المفاهيم. ولا اعرف ان كانت هذه عدمية ام وجودية ؛ فهي خليط من هذا وذاك... ان كل شيء حقيقي وكل شيء وهمي. انه حقيقي لأنه ينبعث من ذوات الناس ، وهو بالتالي انتاج انساني بدءا من الله وحتى العدم. وهو وهمي حين نحاول تفكيك الاطروحات داخل ترمومتر المنطق المادي. هذا وضع غريب جدا ، ولا يمكن ان افهم الاحساس الذي يعتريني بسببه ان كان جيدا ام سيئا. انني اتغير بشكل مستمر وهذا جيد ؛ ولكن اتغير الى ماذا ؟ لا ادري... ولا اعرف ان كان هذا جيدا ام لا. لقد حاولت كثيرا ان اتجنب النسبية ؛ لأن النسبية تفضي بك -اكثر من اي عقيدة أخرى - الى افتقاد كامل للمعنى وتخلصك من كل مطلق بل تحل هي محل كل مطلق ، وهكذا لا تمتلك القدرة على اتخاذ موقف محدد (حكم بالجيد والسيء) مما حولك. دعنا نتعرض لقضية مثيرة للجدل ؛ وهي الدموقراطية كشكل من اشكال حكم الانسان لنفسه. ذهب المناهضون لها والمدافعون عن الدكتاتوريات الى ان الدموقراطية تعني انتهاك حق الاقلية ، وانها قد تفضي الى فظائع كما افضت لحكم هتلر... فضلا عن أن الدموقراطية تعرقل سرعة اتخاذ القرارات الحاسمة والتي تحتاج اليها الحكومة عند الخطر. كانت هذه اهم مجادلات رافضي الدموقراطية. لكن هذا الاتجاه انزوى بخجل بعد ان تمتعت الدموقراطية بسمعة جيدة حول العالم والتي سوق لها الاعلام الغربي كطوق نجاه للشعوب من القمع والقهر والتسلط. اصبحت جملة (حكم الشعب لنفسه) تحمل بعدا روحيا ذو قداسة ، بل وصارت كلمة سحرية ، وشعارا لتحشيد الجماهير التي في الغالب لا تعرف ماذا تعني هذه الكلمة على نحو دقيق. استطاع الغرب عبر سطوة نفوذه الاعلامي والعسكري والثقافي ان يتحول الى ملاك ينقل الحقيقة من الرب مباشرة... الدموقراطية ، حرية التعبير ، مكافحة الارهاب ، حقوق الانسان ، العهد الدولي ، حرية العقيدة .....الخ. كل هذه وغيرها من مفاهيم تم تسويقها بشكل دعائي جدا بعد ان تم تخليصها من اي امكانية للنقاش حولها او تم اهمال وتهميش متعمد لنقد بعض جوانبها المظلمة او على الاقل بعض اشكالياتها. صار اي طعن في الدموقراطية وصمة عار ودليل على الرجعية والتخلف حتى صار اي نقاش حول جدواها او اشكالها او مظاهرها مؤديا الى تكفير واهدار الدم على نحو ليس مجازي لأنه بالفعل يتم اهدار الدم ولكن عبر اغتيالك معنويا وأدبيا. فكرة ان نناقش الدموقراطية كشكل نسبي من اشكال الحكم ، يحتاج في الواقع ان نمهد لها تمهيدا طويلا ، أو ان نستخدم منهج سقراط الذي يطرح اسئلة على صاحب الرأي المخالف تفضي اجاباتها في النهاية الى نقض الآخر لرأيه بنفسه وبدون ان يهرق سقراط نقطة عرق واحدة في سبيل فرض هذا الاقناع. لكن ليس كل الناس هم سقراط. بل ولم يعد الكثير من الناس يتحملون الاسئلة لأنهم في الواقع يعتقدون بأن ما يمتلكونه من اجابات كاف جدا لأن يحكموا على كل شيء (كحسن او كقبيح). كما ان اغلب من يملكون الاجابات المستقرة لا يرغبون في التشويش عليها. اسأل أحدهم مثلا هذا السؤال: هل بالفعل تؤدي الدموقراطية الى أن يحكم الشعب نفسه؟ ، هذا سؤال مربك جدا ويخلخل اساس رؤيتنا للدموقراطية ومن ثم فهو مرفوض منذ البداية. لكن هناك من قد يحاول التملص من هذه المعضلة عبر استصحابه للدموقراطية اليونانية ، تلك الدموقراطية التي تسمى دموقراطية مباشرة ، ويخبرك بأن تعقدات المنظومات الاجتماعية ، والادوار ما بعد التنظيمية التي تلعبها الحكومة ، افرزت تغير الشكل الدموقراطي الى ما هو عليه الحال الآن. وهو الى حد كبير افضل من لا شيء. انها حقيقة اجابة مقنعة جدا ، لكنها مخاتلة ، مخاتلة لأنها في الواقع -وبقليل من التأمل- تفضي الى نفي الدموقراطية باعتبارها حكم الشعب لنفسه. ولكنه نفي مبطن ومجمل بالتحايل اللغوي. لقد سألت -في منتدى خاصة بالفلاسفة الامريكان ' هذا السؤال: هل الشعب الامريكي مسؤول عن الحروب التي شنتها الادارات الامريكية المتعاقبة على الشعوب الأخرى؟ اذا كانت الاجابة (لا) ألا يعني هذا وجود خلل في الدموقراطية الأمريكية؟ وضعت السؤال ؛ وتمت الموافقة على نشره ؛ وحتى الآن لم يجب أحد. هذه مسائل يجب أن نناقشها على مستوى النخب المفكرة ؛ وربما يطالب البعض كما طالب الغزالي المتكلمة- بأن يقتصر النقاش على النخبة المفكرة. لكن هذا في حد ذاته سيطرح تعقيدا جديدا وأزمة خطيرة : وهي : هل تحولت الدموقراطية الى عقيدة وحصلت على قداسة ، وصارت وثنا لا يجوز نقده. اذا كان الأمر كذلك فقد تجاوزت الدموقراطية هدفها لتتحول بذاتها الى سلاح للقمع او للامبريالية. الم يحدث هذا بالفعل! نعم حدث ، بل يحدث كل يوم حين يتم الضغط على الانظمة الدكتاتورية او الانظمة الملكية او الانظمة الشيوعية لفرض دموقراطية ذات شكل غربي بامتياز. هذا في الواقع مخيف جدا ، فبدلا من ان تستند الدموقراطية الى الحرية تعود وتتحول الى اداة قمع للحرية ، لا اقصد حريات الانظمة غير الدموقراطية ، ولكن حرية التطور والصيرورة التاريخية الطبيعية للشعوب وأنظمة الحكم. اذا كانت هناك شعوب او مجتمعات قبلية تمجد حكم الملك او السلطان بكل اطمئنان ، وتقبل انتقال السلطة منه الى ابنائه واحفاده ، فهل نمتلك حق تغيير هذا النسق الثقافي السياسي لنفرض مفهوم الجمهورية او الشعبوية داخل محيط دموقراطي؟ هذا تساؤل مفصلي ؛ لكن غالبا ما يتم تجاهله ، لأن الاجابة عليه ستؤدي الى احد افتراضين: اما اننا نمتلك ذلك الحق ومن ثم نمارس في الواقع قهرا وقمعا باسم الدموقراطية ، او لا نملكه فتنفضح هشاشة القداسة التي احيطت بها الدموقراطية. لقد قلت كثيرا بأن عالم النظريات نسبي ، وكما اوردت في المقدمة فإن هذه النسبية مقلقة جدا لأنها تميد الارض التي نقف عليها. ولو تتبعنا -بشكل ارتدادي- تلك المقدسات التي انتجتها الحداثة ؛ فسينفطر قلبنا على ما نعيشه من وهم. والانسان لا يحب ابدا أن يرى الحقيقة اذا لم تكن في صالحه. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.