مما لا ريب فيه أنه من الضروري بسط القول عن مفهوم الانتخابات ومقاصدها، باعتبارها الوسيلة المدنية السلمية التي تحدد الأُطر المنظمة للسلطة وكيفية تداولها في المجتمعات الإنسانية، وبالنسبة لنا في السودان قد تكون الانتخابات، هي الآلية الناجزة لانفاذ استحقاقات التحول الديمقراطي بعد سنين قبض سلطوي، ونُظم شمولية طوال اثنين وأربعين عاماً من استقلال للبلاد عُمره أربعة وخمسين عاماً. فلقد كانت الانتخابات في الحضارة الإنسانية القديمة تختلف كثيراً عما تعارفت عليه المجتمعات الديمقراطية المعاصرة. ففي الحضارة الإغريقية بدأت الانتخابات كأول نظام يشرع للسلطة ونظم الحكم، ثم تطورت ظاهرة الانتخابات تطوراً متسارعاً وكبيراً في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية في القرن التاسع عشر، إذ كان من مقاصدها الرئيسية تنظيم تداول السلطة بين فئات تلكم المجتمعات بأسلوب حضاري بعيد عن العنف والاعتساف، ومع مرور الزمن يتم تطور مظاهرها تطوراً ملحوظاً، ليستجيب للتطورات التي تحدث في المجتمع، وأصبحت لها شرائطها وقواعدها وقوانينها، ونظم تحدد مسارها، وتختلف هذه النظم وتلك الشرائط باختلاف الدول وتعدد أنظمتها. ولقد وطد نظام الانتخابات الديمقراطية استقرار الحكم، وذلك بمنحه الغطاء الشرعي لممارسة السلطة من خلال إرادة شعبية حرة، وترسيخ مبدأ التداول السلمي للسلطة، والإذعان بالتراضي لإرادة الغالبية. وأحسب أنه من الضروري أيضاً للأجيال الجديدة بسط القول عن الانتخابات في السودان، تعريفاً موجزاً لهم عنها، وتذكيراً لأجيال التضحيات بها. فقد عرف السودانيون الانتخابات العامة الديمقراطية لأول مرة في عام 1953، حيث شاركت خمسة أحزاب سياسية في أول انتخابات برلمانية قبيل استقلال السودان في عام 1956، وكانت هذه الأحزاب السياسية الخمسة هي: (1) الحزب الوطني الإتحادي. (2) حزب الأمة. (3) كتلة الجنوب. (4) الحزب الجمهوري الاشتراكي. (5) الجبهة المعادية للاستعمار. وتمكن الحزب الوطني الإتحادي من الحصول على واحد وخمسين مقعداً، أي أنه حصل على الأغلبية المطلقة التى خولته للحكم منفرداً. وكان عدد الدوائر المطروحة لانتخابات مجلس النواب 97 دائرة، وقد تمت العملية الانتخابية بطريقة مرضية تقبلها المواطنون ولم يحصل اعتراض إلا فى دائرة واحدة، حيث قدمت شكوى للجنة الانتخابات تتعلق بمخالفة وقعت فى الأصوات بمركز اقتراع فى هذه الدائرة. كما كانت هناك تهمة تتعلق بالتعارض فى عدد الأصوات التى ُجمعت وعدد الناخبين الذين ظهروا فى مراكز الاقتراع، غير أن التحقيق أثبت أنها لا تقوم على أساس. وبعدها كانت الانتخابات البرلمانية الثانية 1958، حيث نص دستور السودان لعام 1956 على أن تستمر جميع أجهزة الحكم التى قامت بعد انتخابات 1953، مثل البرلمان، ومجلس الوزراء، والهيئة القضائية، ولجنة الخدمة المدنية، والمراجع العام، حتى انتخاب الجمعية التأسيسية، والتى كان من المفترض أن تُجرى فى أغسطس 1957 حسب نص المادة 56 من دستور عام 1956، إلا أن مجلس السيادة تدخل مستخدماً صلاحياته وأجل إجراء الانتخابات حتى فبراير 1958 تفادياً لهطول الأمطار الغزيرة فى شهر أغسطس موعد الانتخابات المحدد وما يليه من أشهر الخريف. ومثل هذا التأجيل حدث في العام الماضي من قبل المفوضية القومية للانتخابات، حيث تم تأجيل الانتخابات إلى أبريل 2010. ويذكر أنه في انتخابات 1958 كانت بداية عهد الحكومات الائتلافية فى السودان إذ لم يحصل أي من الأحزاب الستة التى شاركت فى تلك الانتخابات على أغلبية مقاعد تؤهل حزب بعينه على تشكيل حكومة منفردة. وكانت الانتخابات البرلمانية الثالثة في عام 1965، حيث شاركت فيها ستة أحزاب سياسية. وكانت الانتخابات البرلمانية الرابعة في عام 1968، حيث شارك فيها 22 حزباً سياسياً وتكتلاً إقليمياً أو قبلياً. ولم يحصل أي من هذه الأحزاب على الأغلبية التي تمكنه من تشكيل الحكومة لوحده. أما الانتخابات البرلمانية الخامسة في عام 1986، جاءت بعد أن حكم نظام مايو البلاد بقيادة الرئيس الراحل جعفر محمد نميري فى الفترة من 25 مايو 1969 حتى 6 أبريل 1985. ولما لم يحصل أي حزب على الأغلبية في هذه الانتخابات، فقد تشكلت عدد من الحكومات الائتلافية خلال الفترة من أبريل 1986 إلى يونيو 1989. ومما لا بد من ذكره والإشارة إليه في هذا السرد التاريخي الموجز لإجراء الانتخابات في السودان، أن حكومة مايو طوال الستة عشر عاماً من حكمها، أجرت ستة انتخابات، لما عُرف بمجالس الشعب. وكذلك حكومة الانقاذ أجرت انتخابات على مرحلتين الأولى في عام 1996 والثانية في عام 2000. أخلص إلى أن انتخابات أبريل المقبل ستكون مختلفة تماماً عن كل تلك الانتخابات السابقة من حيث الأهداف والمقاصد. كما أن الخارطة السياسية السودانية اليوم أظهرت معالم جديدة وتضاريس متعددة وصور مختلفة، بالإضافة إلى أن هناك اتفاقية نيفاشا وترتيباتها الأمنية وتبايناتها السياسية، ومشكلة دار فور التي استعصى حلها محلياً وإقليمياً ودولياً. فهكذا نجد أن انتخابات أبريل المقبل تواجه تحديات جديدة وتصارع أمواجاً متلاطمةً، بحثاً عن مواقف متقاربة ومعالجات مؤتلفة ومخارجات مضمونة، وصولاً إلى بر الأمان، وتحقيقاً لسودان مستقر ومزدهر. يتساءل المرء عن جدية خوض الأحزاب والقوى السياسية وبعض الأفراد للانتخابات، إذ لم تبدأ هذه الفعاليات السياسية في طرح برامجها الانتخابية، بما في ذلك المؤتمر الوطني، إذ أن الحديث عن الحملات الانتخابية لم يأخذ صوراً جادةً، على الرغم من أنه تبقى لأيام الاقتراع أسابيع معدودة، وأيام محدودة، ولم يتبين الناخبون الخيط الأبيض من الخيط الأسود للبرامج الانتخابية لهؤلاء المرشحين في المستويات الانتخابية المختلفة. فأحاديثهم ما زالت في مرحلة شعارات تخرج من ثنايا تصريحات أحياناً تكون متضاربة. وتدور أحاديث المدينة (العاصمة المثلثة) هذه الأيام، التي تصل كفاحاً إلى عواصم ومدن أخرى، حول سيناريو يخطط له من قبل بعض الأحزاب والقوى السياسية المعارضة للانسحاب أو المقاطعة في اللحظات الأخيرة بحجة أن الانتخابات تفتقد النزاهة. فكل ما نخشاه أن تكون الانتخابات الأبريلية كذبة أبريل، تداعياتها لا تقتصر على مزحة عابرة، ولكن على فوضى غامرة، ووطن في مهب الريح أضاعوه بنوه.. وأي وطن أضاعوا..! كان المنتظر أن تحدد قوى تحالف إعلان جوبا موقفها المبدئي من العملية الانتخابية، ولكن مازالت المواقف متضاربة والتنسيق شبه معدوم. والغريب أن قوى تحالف إعلان جوبا ما زالت مواقفها من المشاركة أو المقاطعة في اللحظات الأخيرة متضاربة، إذ أن بعضها بدأ يعمل جاهداً للاستعداد للعملية الانتخابية في مستوياتها المختلفة ومراحلها المتعددة، بينما البعض الآخر في انتظار الانسحاب أو المقاطعة، حتى أن الحركة الشعبية، باعتبارها الأكثر تضرراً من تأجيل أو إلغاء الانتخابات، غير مكترثة في حسم أمرها. فقد هددت بإمكانية مقاطعتها والأحزاب السياسية في جنوب السودان لانتخابات المجلس الوطني (البرلمان)، بحجة عدم حل خلافها مع المؤتمر الوطني حول نتائج انتخابات التعداد السكاني الأخير. فإذا كانت الحركة الشعبية تهدف من وراء هذا التهديد المضاغطة على الشريك (المؤتمر الوطني)، فعلى الرغم من أن الحركة الشعبية نجحت بمثل هذه المضاغطات في تحقيق بعض المكاسب باستجابة المؤتمر الوطني لمطالبها، فإنه من الضروري حسم القضايا الخلافية العالقة بين الشريكين في الأيام القليلة المقبلة، حتى يتسنى للمشاركين من الشريكين في هذه الانتخابات تقديم برامجهم في إطار الحملات الانتخابية، ليقف الناخب على حقيقة مواقف المرشحين من بعض القضايا المصيرية، وكيفية معالجة المشكلات التي تهدد الوطن والمواطن معاً. أحسب أن العالم بدأ يأخذ عملية الانتخابات في السودان مأخذاً جاداً، حيث أعلن الاتحاد الأوروبي دعمه للعملية الانتخابية من خلال إرسال مراقبين، وكذلك الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي والصين وغيرها. وقد وصل الرئيس الأميركي جيمي كارتر إلى السودان يوم الاثنين الماضي للوقوف على عملية الانتخابات. ووعد بدعم مركزه لعملية الانتخابات من خلال تدريب المراقبين المحليين، إضافة إلى تكليف 60 مراقباً للعملية الانتخابية. هكذا ينظر العالم إلى الانتخابات السودانية، باعتبارها مخرجاً مهماً لحلحلة قضايا وطنية كبرى، إضافة إلى أن من مخرجاتها الرئيسية المرتقبة انفاذ استحقاقات التحول الديمقراطي في البلاد، بينما بعض الأحزاب السياسية في انتظار سيناريو اللحظات الأخيرة بإعلان الانسحاب أو المقاطعة، دون النظر في تداعيات مثل هذا الأمر على البلاد. وندعو في هذا الصدد الأحزاب والقوى السياسية والأفراد المشاركين في الانتخابات على المستويين الرئاسي والولائي إلى الدخول في مناظرات سياسية انتخابية ثنائية أو جماعية في ندوات أو برامج تلفزيونية أو إذاعية، ليشكل هذا الاتجاه منعطفاً جديداً في احترام المرشحين بعضهم لبعض، وتمكين الحاضرين والمشاهدين والمستمعين من معرفة حقيقة مواقفهم ومعالجاتهم لقضايا الوطن والمواطنين، لتتمايز الصفوف في يوم الاقتراع. Imam Imam [[email protected]]