إذا كسب المرتزقة الفاشر يعني ذلك وضع حجر أساس دولة العطاوة    قائد السلام    واصل تحضيراته في الطائف..منتخبنا يؤدي حصة تدريبية مسائية ويرتاح اليوم    عيساوي: البيضة والحجر    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    ماذا قال دكتور جبريل إبراهيم عن مشاركته في مؤتمر مجموعة بنك التنمية الإسلامي بالرياض؟    دعم القوات المسلحة عبر المقاومة الشعبية وزيادة معسكرات تدريب المستنفرين.. البرهان يلتقى والى سنار المكلف    انجاز حققته السباحة السودانية فى البطولة الافريقية للكبار فى انغولا – صور    والي الخرطوم يصدر أمر طواريء رقم (2) بتكوين الخلية الامنية    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    شاهد بالفيديو.. في مشهد خطف القلوب.. سيارة المواصلات الشهيرة في أم درمان (مريم الشجاعة) تباشر عملها وسط زفة كبيرة واحتفالات من المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء أثيوبية تخطف قلوب جمهور مواقع التواصل بالسودان بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها مع إبنها على أنغام أغنية وردي (عمر الزهور عمر الغرام)    في اليوم العالمي لكلمات المرور.. 5 نصائح لحماية بيانات شركتك    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    جبريل: ملاعبنا تحولت إلى مقابر ومعتقلات    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليس دفاعا عن عرمان ،،، و لكن حبا لهذا الشعب ... بقلم: الهادي هباني
نشر في سودانيل يوم 14 - 02 - 2010

لا يخلو تاريخ و حاضر بلادنا من محطات حالكة السواد تعجز كل معايير الوصف عن التعبير عنها ،،، تجارة الرقيق، الحرب الأهلية، التطهير العرقي، و الإبادة الجماعية. فالتاريخ كما يقول الدكتور منصور خالد في مؤلفه الموسوعي "قصة بلدين" (ليس جوهراً صافياً، اذ فيه الزكى الطيب، وفيه الفاسد العطن). و لا مكان هنا لمغالطة من شاكلة "هل البيضة من الدجاجة أم الدجاجة من البيضة"، أو "هل الحي من الميت أم الميت من الحي"، فالعلاقة بين هذه المحطات جدلية واضحة و جلية فجرائم الإبادة الجماعية و التطهير العرقي هي إحدي نتائج الحروب الأهلية و مآلاتها الطبيعية و التي هي بدورها نتاج لعدة عوامل من أهمها و أبرزها تجارة الرقيق بكل ما تحمله من معاني الإستعباد و الإستغلال، و ما أنتجته من إستعلاء عرقي و نعرات عنصرية تكاد لا تنتهي بل و تتفاقم و تتشعب، تسري و تنتشر في تراب بلادنا و تعرجاته كالسرطان الخبيث من إقليم إلي إقليم و من منطقة إلي أخري في ظل سيادة الفكر الظلامي المفروض علينا قسرا من قبل دعاة الدولة الدينية و المشروع الحضاري، و الذي تصبح معه حظوظ حلها و تجاوزها بعيدة المنال تماما مثل حظوظ شاعرنا الراحل إدريس جماع كدقيق فوق شوك نثروه ثم قالوا لحفاة يوم ريح أجمعوه.
و لعل في ظهور الإسلام في قلب جزيرة العرب مكة، لعبرة، و هي تخوض غمار تغيير ثوري جديد، و تعيش واقعا إجتماعيا (تتجلي فيه كل مظاهر العبودية و الإستعلاء العرقي و الفوارق الإجتماعية الحادة،) يشكل أساسا واقعيا و موضوعيا لإنتصار الإسلام. فقد كان العبيد من أوائل الذين آمنوا برسالة الإسلام و لعبوا فيما بعد دورا تاريخيا بارزا في الجهاد في سبيله و إنتصاره لما طرحه من مبادئ المساواة بين الناس و عدم التفرقة بينهم علي أساس اللون أو العرق أو المكانة الإجتماعية، و قد جاء القرآن الكريم و سنة الرسول محمد عليه الصلاة و السلام زاخرة بالعديد من الآيات و التعاليم التي تؤٍصل لهذا المبدأ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا فرق بين عربي و أعجمي الا بالتقوى)، و قال أيضا (الناس سواسية كأسنان المشط) و غيرها العديد من الآيات القرانية و الأحاديث المؤكدة و التي في جوهرها و محتواها تشٍرع لمحاربة الإستعباد و تشجيع الخلق لعتق الرقبة و لنا في رسول الإسلام محمد عليه السلام أسوة حسنة في العتق و التحرير. فالإسلام و إن لم يمنع بعض الأشكال و المظاهر التي تصنف في عصرنا الحالي ضمن مفهوم الإسترقاق كالتسري و الإماء إلا أن الشرع حث على العتق وجعله كفارة لأعمال كثيرة فالرق ليس محبباً في الأصل بل المحبب هو عتق الأرقاء. و علي العكس تماما فلم يشرع الإسلام للتفرقة العنصرية و الإستعلاء العرقي و لا توجد لا في القرآن أو السنة نصوص تبيح ذلك. و لعل مقصد الإسلام في ذلك هو ترسيخ أهمية النظرة الواقعية الشمولية للأمور التي تضع في الإعتبار الجانب الغيبي و المثالي في علاقته الجدلية بالجانب المادي. فالعبودية و تجارة الرق في جزيرة العرب سبقت ظهور الإسلام بحقب ضاربة في القدم و أصبحت سمة من السمات الراسخة و التي لا يمكن إلغاؤها أو محوها من الوجود بشكل راديكالي أو بمجرد إصدار مراسيم و قرارات فوقية (خاصة و أن الدعوة الإسلامية بدأت بظروف ذاتية ضعبفة محدودة علي القليل من الإمكانيات المادية و علي نفر قليل من الذين آمنوا بها و كانوا يجتمعون بالرسول الكريم سرا في دار الأرقم) و لكنه بدأ بآيات و أحاديث تحرم التفرقة بين الناس علي أساس اللون و العرق و أخري تشجع علي تحرير و عتق الرقبة مقابل كفارة لبعض كبائر الذنوب و كانه قصد معالجة الأمر بشكل تدريجي دون تخطي المراحل و تجاوز الظروف الموضوعية و الذاتية و السمات الخاصة التي تعيشها جزيرة العرب آنذاك.
و هنالك الكثير من عادات جزيرة العرب عالجها الإسلام بنفس منطق الواقعية و التدرج و علي رأسها تحريم الخمر الذي تم بشكل نهائي في السنة الثالثة بعد الهجرة كما يقول إبن تيمية. و بما أن الناس في جزيرة العرب كانوا مولعين بشربها، فأول ما نزل صريحاً في التنفير منها ، قوله تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) فتركها بعض الناس، وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعضهم، وقالوا: نأخذ منفعتها، ونترك إثمها، فنزلت الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) فتركها بعض الناس، وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها بعضهم في غير أوقات الصلاة حتى نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). فصارت حراماً عليهم، حتى صار يقول بعضهم: ما حرم الله شيئاً أشد من الخمر و صارت فيما بعد تكني بأم الكبائر.
و علي الرغم من أن تجارة الرقيق من أفريقيا للشرق الأوسط قد سبقت ظهور الإسلام بعهود قديمة و أن تاريخها في السودان كذلك يرجع إلي تاريخ الممالك القديمة إلا أنها، و للأسف الشديد، بكل قبحها و عدم إنسانيتها إرتبطت بهجرة العرب المسلمين و إكتسبت طابعها القانوني مع إبرام إتفاقية البغط و التي كان أحد أهم بنودها إلتزام ملك المغرة بدفع 400 رأس من الرقيق سنوياً مقابل مؤن غذائية.(راجع: تاج السر عثمان - التركيب الاجتماعي لفترة النوبة المسيحية في السودان(500م- 1500م)). و لن نخوض هنا في الحديث عن تاريخ تجارة الرقيق في السودان فقد سبق و قتلت بحثا من قبل كثير من المؤرخين و المفكرين و الساسة السودانيين و غير السودانيين علي إختلاف إتجاهاتهم و مللهم و لم تعد من الجرائم التاريخية التي تحتاج إلي إثبات فهنالك إجماع علي حدوثها و علي قبحها و علي الآثار الإجتماعية و الإقتصادية و السياسية الناجمة عنها.
ما نود قوله هو أن هذا الإرتباط التاريخي بين هجرة العرب المسلمين و بين تجارة الرقيق أسهم في تطورها و رواجها خلال الفترات التي شهدت قيام الممالك الإسلامية مرورا بفترة الحكم التركي و المهدية و الفترات التي أعقبتها. و أنها خلال مسيرتها و تاريخها الطويل المعقد قد بذرت بذور الإستعلاء العرقي لدي الجلابة و القبائل السودانية المستعربة في الشمال في نظرتهم و تعاملهم مع سكان السودان الأصليين من قبائل الجنوب و الغرب و جنوب النيل الأزرق و كل مناطق الهامش (مسلمين، مسيحيين، و لا دينيين) علي أساس أنهم مواطنين من الدرجة الثانية. و لا تزال صور الإسترقاق و العبودية ماثلة في الحضر و الأرياف و مناطق تركز شبه الإقطاع القبلي و لا زالت بعض مفردات حقب العبودية و تجارة الرقيق في السودان مثل ("عب" ، "فِرخ" ، "ِسِرية" ، "فيهو عرق" ، "قرقور" ، "عب جعليين" ، "خدم" و غيرها من المفردات) شائعة الإستخدام و يتم تداولها بشكل يومي. و لا زالت آثارها مترسبة في وجدان أقسام كبيرة من سكان السودان و علي رأسهم قبائل الجنوب، دارفور، الأنقسنا و غيرهم و محفورة في ذاكرتهم و ستظل كذلك إلي أزمان طويلة ما لم يتم الإعتراف بهذه الجرائم في تاريخنا و حاضرنا و إدانتها بشكل جماعي و الإعتذار لكل قبائل السودان التي عانت منها لقرون طويلة و تعويضهم عن كافة الأضرار المادية و المعنوية التي تكبدوها تعويضا يرضيهم و يعيد لهم كرامتهم و عزتهم. و كذلك إدانة كل الأنظمة الحاكمة التي لم تسعي لمعالجتها بل سعت بنفسها لتكريسها و مفاقمتها و الإتفاق علي نظام ديمقراطي يحقق العدالة و التنمية المتوازنة و يساوي بين الناس علي أساس المواطنة و يضمن لهم حرية المعتقدات و التعبير و يفتح المجال لكل الثقافات السودانية للإنطلاق و التعبير عن نفسها.
لا يختلف دعاة الدولة الدينية و المشروع الحضاري اليوم كثيرا عن تجار الرقيق و لعل الدعوة التي أشرنا لها في الحلقة السابقة لإعادة كتابة التاريخ هي في الحقيقة هادفة إلي التآمر علي التاريخ و تزييفه و تبرئة العرب المسلمين الذين هاجروا للسودان منذ إتفاقية البغط و أحفادهم من الجلابة و القبائل السودانية المستعربة من جرائم الإستعباد و تجارة الرقيق. و للأسف الشديد فإن هذه الدعوة قد بدأت بالفعل من قبل الطيب مصطفي و الكثيرين غيره من رواد الإستعلاء العرقي و دعاة الحرب و الإنفصال و يجدون و تجد معهم دعوتهم كل الرعاية و الإهتمام من قبل الدولة و أجهزتها الإعلامية و يقدمون للناس بوصفهم مفكرين و علماء.
و من الطبيعي أن يتفق موقف دعاة الدولة الدينية اليوم المدافع عن جرائم الإستعلاء العنصري و التطهير العرقي في دارفور و عن الذين قاموا بإرتكابها مع موقفهم من تاريخ تجارة الرقيق النافي لوجود أي صلة بينها و بين هجرة العرب المسلمين للسودان فالإستعلاء العنصري موقف شمولي، كلي، لا يتجزأ. و كما يقول الدكتور منصور خالد في مؤلفه الضخم ("قصة بلدين") صفحة (30) (صحيح أن التاريخ ليس بريئا من كل عيب لأنه لا يعبر إلا عن رؤية كاتبيه) و قد استدل علي ذلك في نفس السياق بقول المؤرخ (E. H. Carr) (ليس للتاريخ وجود مستقل عن الذين يترجمونه (history has no free-standing from those who interpret it).
و الفارق بين التاريخ و بين تفسير التاريخ هو أن التاريخ واحد لا يتغير بينما تفسير التاريخ يتم من قبل أفراد أو أطراف متعددة خارج هذا التاريخ نفسه لذلك يأتي تفسيره متعددا و متباينا. و معرفة التاريخ و تفسيره يمكن أن تقدم نماذجا و صورا كثيرة متشابهة أو متماثلة، كما يمكن أن تقدم صورا متباينة أو مختلفة و أن كل هذا التشابه أو الإختلاف صادر عن منطلقات إجتماعية لا فردية، موضوعية لا ذاتية لذلك فإن الموقف من التاريخ هو موقف آيديولجي و أي موقف أيديولوجي بالضرورة هو موقف طبقي له جذوره الإجتماعية التي يعبر عنها.
لذلك فإن الذين يسعون لفصل تجارة الرقيق عن دخول العرب المسلمين للسودان هم في الحقيقة من نفس الطبقة التي ينتمي لها تجار الرقيق من العرب المسلمين و الجلابة من القبائل السودانية المستعربة. و إلا فما هو المبرر الذي يدفع بشخص مثل حسن مكي (و هو من أبرز دعاة المشروع الحضاري و الذي يطل علينا دائما عبر أجهزة الإعلام السودانية و بعض الفضائيات العربية كمفكر سوداني بارز). فقد نفي حسن مكي تجارة الرقيق عن هجرة العرب المسلمين للسودان إبان إتفاقية البغط في الحلقات التي نشرتها له جريدة الرأي العام بعنوان (عهد النوبة "البقط" مع الدولة الإسلامية في مصر "31ه/651م" رؤية في التفاعل الحضاري الإسلامي/ النوبي وإسهاماته في التشكل التاريخي لشعوب السودان) و في نفس الوقت و بتناقض واضح أقر بإلتزام ملوك النوبة بتزويد الدولة الإسلامية ب 360 رأس من الرقيق لكنه حاول تبرير ذلك تبريرا متناقضا يجافي الحقائق التاريخية و لا يقبله المنطق حيث أورد ما نصه (كما دار جدل حول معاهدة البقط ومشروعية الرق، ولا صلة لعهد البقط بمشروعية الرق، لأن الإسلام شرع العتق، ولم يشرّع الرق، وذلك مبحث كبير في الثقافة الإسلامية، أكسبت معاهدة البقط النوبيين وضعية أهل الهدنة أو المصالحين أي أهل عهد، وأقامت العلاقات على الاعتراف بالكيان النوبي ويتضمن ذلك حسن الجوار وسلامة الحدود، وحرية التجارة، والحصول على سواعد النوبيين القوية لخدمة الدولة الإسلامية ونشر الثقافة العربية الإسلامية سلميا .وربما لأسباب أيدلوجية او غيرها، نظر بعض الباحثين في عهد البقط نظرة اختزالية، فاختزلوا عهد البقط في الثلثمائة وستين رأساً الذين تكفل النوبة بإرسالهم أو تسليمهم للدولة الإسلامية، ولو أن عهد البقط اقتصر على هذا النص لاختلفت قراءته ولكن هذا نص يجب أن يقرأ في إطار نصوص أخرى، بين كيانين ، وليس بين تاجري رقيق) و من النص نلاحظ التناقض حيث أنه نفي صلة إتفاقية البغط بتجارة الرقيق و في نفس الوقت أورد في نفس الفقرة "و الحصول علي سواعد النوبيين القوية لخدمة الدولة الإسلامية" أي أنه قصد تسمية تعهد ملوك المغرة بتزويد دولة الإسلام بعدد معين من الرقيق سنويا بمسمي ينفي عنها صفة تجارة الرقيق و هذا في تقديرنا تزييف واضح للتاريخ حيث أن الإتفاقية نصت علي ذلك صراحة و سمت الأمور بمسمياتها الحقيقية بأن يلتزم النوبة بتزويد 400 رأس من الرقيق سنويا للدولة الإسلامية. و التناقض الآخر هو أن المفكر الفاضل وصف نظرة غيره من غالبية المؤرخين بالنظرة الإختزالية و هذا مجرد رغبة ذاتية و فيه إستعلاء بين و إدعاء كاذب بإمتلاك الحقيقة. و كما قال المفكر اللبناني الراحل حسين مروة (ليس بالرغبة الذاتية يكون الشئ حقيقة أو لا يكون ذلك بأن الحقيقة ليست ذاتية إنها موضوعية و إلا فليست بحقيقة إطلاقا بل وهما أو تصورا أو رأيا أو رؤيا) ،،، أما الجزء الأخير من النص فلم نفهمه و لا ندري ماذا يقصد ب (بين كيانين و ليس بين تاجري رقيق) هل يعني أن تجارة الرقيق تتم فقط بين تجار أفراد فقط و لا يجوز لها أن تتم بين دول؟؟.
إن محاولة تزييف الحقائق توقع الإنسان في تناقض و في تصادم مع الحقائق نفسها و تجعله مضطرا لإستخدام اللغة و التلاعب بالألفاظ و إستخدام تعبيرات غير مفهومة و هذا ليس من شيم المفكرين. و في نفس السياق فقد أورد كاتبنا الجليل في نفس المقال و هو يتحدث عن روح إتفاقية البغط تعبير آخر لم نوفق في فهمه و هو (معاهدة البقط في مجملها، معاهدة ذات روح حضارية، أساسها إنتقال الثقافة القرآنية والروح المسجدية في إطار الاعتراف المتبادل والمنافع التجارية المتبادلة) فما هي الثقافة القرآنية المقصودة هنا؟ و ماذا يعني بالروح المسجدية؟ و كيف شكل إنتقالهما (أي الثقافة القرآنية و الروح المسجدية) أساسا لإتفاقية البغط؟.
من الصعب علي المرء إتخاذ موقفا آيديولوجيا معينا من الحاضر و في نفس الوقت يتخذ موقفا آيديولوجيا مغايرا من التاريخ أو التراث فهذا لا يفعله إلا السحرة و هذا ما يفسر تشابه اللغة و المصطلحات المعقدة التي يستخدمها الكاتب مع المفردات التي تستخدم كعناوين لكتب و مخطوطات السحر المبهمة و التي تحمل عناوينا و محتوي ليس له في حقيقة الأمر علاقة مباشرة بحياة الناس و واقعهم مثل (نواميس الاسرار فى علوم الاخيار لإبن ميمون)، (الدر المنظوم فى كشف السر المكتوم لمحمد بن السوسى المغربى)، (بهجة اللمعة لديوان العفاريت السبعة لمحمد التلمساني المغربي)، (تسخير الشياطين في وصال العاشقين لعبد الفتاح الطوخي) ،،،
و يحضرني هذه اللحظة في باب التلاعب بالألفاظ و تحريف الكلام الأخ الفاضل عثمان كرتونة و هو أحد منشدي الإتجاه الإسلامي من أبناء جيلنا في فترة الجامعة و سمي بعثمان كرتونة لأنه كان يحمل دائما كرتونة معه في أركان النقاش ليستخدمها كإيقاع لأناشيده فقد كان ذو صوت جهور و مميز و له مقدرة عالية في تحريف الأناشيد و التلاعب بالكلمات و التأليف المرتجل. فقد كان يحِرف قصيدة (هيا بنا هيا نطوي الفلا طيا) مضيفا من عنده (يا طائر الإسلام طيري بلاد الشام ،،، سقطي صدام الطاقية البعثي) ،،، لكن و للأسف الشديد و بعد مرور أكثر من عشرين عاما و بدلا عن طائر الإسلام لم يسقط صدام علي طائرات الإف ستة عشر فقط بل شنق علي مرأي من العالم أجمع و أبنائه قتلوا و زوجاته ترملن و بناته تيتمن و لا يزال المسلمين من أهل السنة يتحسرون علي رحيله و ما بدلوا تبديلا ،،،
Alhadi Habbani [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.