هيومن رايتس ووتش: الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها ارتكبت جرائم ضد الإنسانية وتطهيراً عرقياً ضد المساليت.. وتحمل حميدتي وشقيقه عبد الرحيم وجمعة المسؤولية    مصر تكشف أعداد مصابي غزة الذين استقبلتهم منذ 7 أكتوبر    لماذا لم يتدخل الVAR لحسم الهدف الجدلي لبايرن ميونخ؟    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    مقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر.. معلومات جديدة وتعليق كندي    أفضل أصدقائي هم من العرب" :عالم الزلازل الهولندي يفاجئ متابعيه بتغريدة    توخيل: غدروا بالبايرن.. والحكم الكارثي اعتذر    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    النموذج الصيني    تكريم مدير الجمارك السابق بالقضارف – صورة    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    أليس غريباً أن تجتمع كل هذه الكيانات في عاصمة أجنبية بعيداً عن مركز الوجع؟!    مكي المغربي: أفهم يا إبن الجزيرة العاق!    بأشد عبارات الإدانة !    موريانيا خطوة مهمة في الطريق إلى المونديال،،    ضمن معسكره الاعدادي بالاسماعيلية..المريخ يكسب البلدية وفايد ودياً    الطالباب.. رباك سلام...القرية دفعت ثمن حادثة لم تكن طرفاً فيها..!    السودان.. مجلسا السيادة والوزراء يجيزان قانون جهاز المخابرات العامة المعدل    ثنائية البديل خوسيلو تحرق بايرن ميونيخ وتعبر بريال مدريد لنهائي الأبطال    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل مصري حضره المئات.. شباب مصريون يرددون أغنية الفنان السوداني الراحل خوجلي عثمان والجمهور السوداني يشيد: (كلنا نتفق انكم غنيتوها بطريقة حلوة)    ضياء الدين بلال يكتب: نصيحة.. لحميدتي (التاجر)00!    شاهد بالفيديو.. القيادية في الحرية والتغيير حنان حسن: (حصلت لي حاجات سمحة..أولاد قابلوني في أحد شوارع القاهرة وصوروني من وراء.. وانا قلت ليهم تعالوا صوروني من قدام عشان تحسوا بالانجاز)    شاهد بالصورة.. شاعر سوداني شاب يضع نفسه في "سيلفي" مع المذيعة الحسناء ريان الظاهر باستخدام "الفوتشوب" ويعرض نفسه لسخرية الجمهور    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    الخليفي يهاجم صحفيا بسبب إنريكي    الولايات المتحدة تختبر الذكاء الاصطناعي في مقابلات اللاجئين    كرتنا السودانية بين الأمس واليوم)    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نظرية الصدمة: الإقتصاد السوداني ونظريات ميلتون فريدمان الشيطانية .. بقلم: سمير الطاهر سيد أحمد/خبير إقتصادي ومحلل مالي
نشر في سودانيل يوم 15 - 09 - 2018

طوال الشهور الماضية وأنا أراقب الوضع الإقتصادي المتدهور في السودان عن كثب وأفكر في كتابة هذا المقال للمساهمة في توعية السودانيين بالأهداف الخفية التي تسعي لها الحكومة بقرارات تحجيم السيولة، وحجز أموال المواطنين في البنوك، وإغلاق الحدود مع أريتريا مع مؤشرات وقتية بإعلان الحرب عليها، ثم إصطناع ظاهرة صفوف الخبز والجاز والبنزين، وأخيراً وليس آخراً هو قراري ترشيح البشير لإنتخابات 2020 وقرار حل الحكومة قبل أيام! كل هذه الأمور تبدوا للوهلة الأولي مثل أخطاء غبية تقع فيها الحكومة بكل بلاهة، لكن الحقيقة التي توصلت إليها هي أن كل هذه الخطوات الغريبة والمدهشة والمحيرة لم تأتي من فراغ وأنما بتخطيط ولأهداف سياسية وإقتصادية ربما يكون لها تأثير التسونامي المُدمّر علي السودان.
لو سألت معظم السودانيين ماهي أسوأ أيام حياتك لقال لك بكل بساطة: (أسوأ أيام حياتي هي هذه الأيام)! هذه الإجابة توضح الفرق بين الحقيقة والخيال، أو بين الرد النفسي العاطفي وبين الواقع التحليلي المجرّد من العواطف، فالحقيقة المجردة هي أن الشعب السوداني مرّ بأيام أسوأ من هذه بكثير في الماضي، وكان يُفترض بنا الخطو خطوات كبيرة للأمام لكن المؤسف أننا تراجعنا خطوات كثيرة للوراء، والمؤسف أكثر أننا موعودون بالمزيد من السوء والشقاء في المستقبل القريب الموعود حسب (نظرية الصدمة) التي سيواصل تنفيذها رئيس الوزراء الجديد معتز موسي.. سأعرض عليكم (تفاصيل) هذه الصدمة ومدي خطورتها لاحقاً في هذا المقال، لكن قبل ذلك دعونا نعرض نبذة عامة عن نظرية الصدمة، فمعظم الناس لا يؤمنون بنظرية إقتصادية بهذا المسمّي المخيف أصلاً مع أنها نظرية إقتصادية حقيقية.
ماهي نظرية الصدمة..؟
هي نظرية إقتصادية رأسمالية من بنات أفكار عالم الإقتصاد الأمريكي ميلتون فريدمان Milton Friedman* الذي إشتهر بإثارته لجدل واسع النطاق بنظرياته الإقتصادية المحيرة للعقول والتي يراها الكثيرون نظريات رأسمالية شيطانية مدمرة لا تهتم بحياة الفقراء والشرائح الضعيفة في المجتمع، ولكن برغم ذلك كان لنظرياته تلك حضور عالمي مقدر للدرجة التي أهلته، وبشكل غريب وشاذ جداً، للحصول علي جائزة نوبل في الإقتصاد في العام 1976.
عمل (فريدمان) كمستشار إقتصادي للرئيس الأمريكي دونالد ريغان في الفترة من 1981 إلي 1988، وحصل علي عدة جوائز رئاسية أهما وسام الحرية الرئاسي Presidential Medal of Freedom ووسام العلوم الوطنية National Medal of Science*.. (فريدمان) هو مؤسس المدرسة النقدية Monetarism* وهي مدرسة الفكر الإقتصادي التي تؤكد علي دور الحكومات في السيطرة علي الأموال المتداولة في أيدي الناس وتحجيم حركتها بدعوي أن الحرية المطلقة في الإقتصاد هو أمر سلبي، وهو يري أن زيادة عرض النقود له تأثيرات سلبية كبيرة علي الناتج القومي في المدي القصير ومستوي الأسعار، وفي هذا الصدد فقد ألّف (فريدمان) كتاباً شهيراً بعنوان A Monetary History of the United States 1867–1960 * (بالعربي: تاريخ النقد في الولايات المتحدة 1867-1960)، وقال في كتابه هذا أن التضخم هو دائماً وأبداً ظاهرة نقدية يمكن للبنوك المركزية في الدول محاربته بالحفاظ علي توازن العرض والطلب عن طريق سياسات تحجيم السيولة.
وهذا هو بالظبط ما فعلته الحكومة السودانية خلال الأشهر الستة الماضية بالحجر علي أموال المواطنين في البنوك وتعطيل الصرافات الآلية وخلق حالة من اللامبالاة تجاه إحتياجات الناس لأموالهم.
ليس هذا فحسب ما نصح به (فريدمان)، فالرجل هو أيضاً صاحب أغرب نظرية إقتصادية رأسمالية في العالم الحديث وهي نظرية الصدمة أو عقيدة الصدمة (بالإنجليزية: The Shock Doctrine *)، وهي نظرية رأسمالية تقوم علي مبدأ إستغلال الكوارث في الدول، وفي حالة عدم وجود كوارث فيجب صناعة كارثة مفتعلة ثم إستغلال نتائجها، ومن ضمن الكوارث المقصودة يقترح الإنقلابات العسكرية، والهجمات الإرهابية، وإنهيارات الإقتصاد، والحروب، والكوارث الطبيعية أيضاً من تسونامي و أعاصير وفيضانات وغيره - والهدف في النهاية هو تمرير وتنفيذ سياسات إقتصادية إجتماعية يرفضها المواطنين والسكان في الحالات الطبيعية!!
بمعني أنه إذا أرادت دولة أو حكومة تمرير قرارات إقتصادية أو إجتماعية صعبة أو قاسية أو مرفوضة من قبل المواطنين فما عليها سوي صناعة كارثة حقيقية أو مُفتعلة بهدف تغيير العقلية الجمعية للبشر بحيث يقبلوا كل القرارات تحت تأثير الصدمة والكارثة التي هم فيها، وأقرب مثال لذلك في أوقات الحرب تجد أنه من الطبيعي والمقبول جداً أن يتخلي الناس عن كل حقوقهم وأموالهم للحكومات مقابل أن يعيشوا فقط.
وقد ألّفت ناعومي كلاين Naomi Klein * الكاتبة الكندية المناهضة للسياسات الرأسمالية والعولمة الإقتصادية كتاباً في 2009 بعنوان (عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث) علي هدي نظريات (فريدمان)، وقد وُصف الكتاب بأنه موسوعة ضخمة من السياسات الإقتصادية والإجتماعية المطبقة من قبل الدول العظمي منذ إنهيار الإتحاد السوفيتي وإلي الآن. شرحت (ناعومي) في كتابها أسطورة إنتصار إقتصاد السوق الحرة عالمياً بطريقة ديموقراطية، وكشفت عن أفكار ومسارات المال، وخيوط تحريك الدُّمي، وكيف تُسيطر الولايات المتحدة علي أزمات وكوارث وحروب العالم خلال الأربعة عقود الماضية. أيضاً شرحت ما جري في بلدان مثل أندونيسيا وتشيلي والأرجنتين والبرازيل وروسيا وصولاً للعراق - وكيف إستثمرت الرأسمالية العالمية الأوضاع وعملت علي إستغلال الكوارث من أجل خلق تغييرات إقتصادية وإجتماعية كبري - وهو ما أسمته العلاج بالصدمة Shock Therapy *.
ثم نعود للسودان..
بالعودة للسودان نلاحظ أن كل المعطيات الإقتصادية خلال الأشهر الماضية تدلل بوضوح علي إنتهاج الحكومة لسياسات (ميلتون فريدمان) بحذافيرها، والحكومة السودانية تؤمّل أن يكون العلاج بالصدمة هو الحل الجذري لمشكلة الإقتصاد السوداني، ورغم أن رئيس الوزراء الجديد معتز موسي قد صرّح قبل أيام بإنتهاج (برنامج صدمة قصير المدي) إلأ أن كل المعطيات تشير إلي أن هذا البرنامج كان يعمل فعلياً ببطء وبدون إعلان منذ حوالي العام أو يزيد، وأن الشعب السوداني ظل يعاني دون حتي أن يعرف سبب معاناته، فالحكومة إفتعلت وإصطنعت الكثير من المشاكل والكوارث عن قصد وإلتزمت الصمت الحذر حولها، ويبدوا أن أحدهم نجح في إقناعهم بنظرية (فريدمان) وبدأ التطبيف الفعلي لها مع بدايات حكومة الوفاق الوطني المنبثقة عن مخرجات الحوار الوطني، حتي تتحمل حكومة الحوار وأحزاب المعارضة أي نتائج سلبية محتملة.
لتوضيح الأمر أكثر دعونا نأخذ مثالين فقط لبرنامج الصدمة السوداني وهما (تحجيم السيولة) و(صفوف الخبز والمحروقات).
المثال الأول: تحجيم السيولة:
نفذت الحكومة سياسة تحجيم السيولة وحجزت أموال المواطنين في البنوك بدعوي أن الأموال تذهب في شراء الدولار.. بطبيعة الحال أثبت هذا التبرير عدم منطقيته بدليل إستمرار إنهيار الجنيه أمام الدولار، والحكومة منذ إعلانها عن سياسة التحجيم كانت تعلم - علم اليقين - أن الأموال المودعة في البنوك ليست هي التي تذهب لشراء الدولار، حيث أن الكتلة النقدية المتداولة خارج البنوك تقدر بأكثر من 80% بينما الموجودة في البنوك لا تزيد عن 20% فقط، أي أن قدرة البنوك المالية أصلاً ضعيفة مقارنة بقدرة الجمهور.. بالإضافة لذلك فإن الجنيه السوداني لم يتهاوي أمام الدولار إلأ بعد وبسبب قرار مضاعفة الدولار الجمركي بنسبة 300%، وبالتالي كان طبيعياً أن يرتفع الدولار في السوق أكثر من ثلاثة أضعاف في ظرف شهر أو شهرين فقط.. الحكومة السودانية تعلم هذه الأبجديات جيداً لكنها لم تكن تهدف أساساً لمحاصرة الدولار بذلك القرار وإنما كانت تريد إنتهاج سياسة (الصدمة) التي تبدأ بصناعة كارثة، والكارثة الآن ليست فقط فقدان ثقة المواطنين في البنوك، بل الكارثة الأكبر تكمن في توقيت فك تحجيم السيولة وإطلاق رأس المال - وحينها سيهجم الناس علي البنوك لسحب أموالهم، وهو ما سيؤدي - بلا أدني شك - لإنهيار عدد من البنوك السودانية.. نفس هذا السيناريو حدث في عدد من دول العالم وربما يكون المثال الأشهر والأكبر عند خبراء الإقتصاد الدوليين هو حالة الكساد الكبير Great Depression * في أمريكا في العام 1929 بعد إنهيار سوق الأسهم الأمريكية في ما يُسمي بيوم الثلاثاء الأسود Black Tuesday *، وهو اليوم الذي هجم فيه الأمريكان علي البنوك لسحب أموالهم مما تسبب ليس فقط في كساد الإقتصاد الأمريكي وإنما حدث كساد إقتصادي عالمي هائل في كثير من الدول وإستمر لسنوات، ولم يتوقف إلأ مع بداية الحرب العالمية الثانية.
المثال الثاني: صفوف الخبز والمحروقات:
لمدي عدة أشهر عاني السودانيين من عودة صفوف الخبر والمحروقات (الجاز والبنزين)، ولا أحد يعرف سبب هذه الصفوف علي وجه الدقة. الحكومة لم تعلن أو تصرّح بأي معلومة منطقية مفيدة.. القول أن سبب صفوف الجاز والبنزين هو أن مصفاة الخرطوم كانت قيد الصيانة وأن الحكومة تبحث عن 120 مليون دولار لصيانتها لم يكن كلاماً منطقياً، فالحكومة رغم الضائقة الإقتصادية قادرة علي توفير هذا المبلغ بجرة قلم.. كذلك فإن عودة صفوف الخبز وبشكل مفاجئ وبدون صدور أي تصريحات حكومية يؤكد أيضاً أن الأمور ليست كما يُشاع في الشارع العام من أن مطاحن الغلال توقفت أو أن بواخر القمح تأخرت.. هذه التبريرات غير صحيحة والقمح كان موجوداً في المطاحن وفي مستودعات المخزون الإستراتيجي ولا يمكن أن يحدث عجز بهذه الصورة ولتلك الفترة المتطاولة إلأ بقرار سياسي، وكل ظني أن الحكومة وعملاً بسياسات (الصدمة) قد أمرت المطاحن بتوفير نصف الكمية المطلوبة فقط من القمح حتي تحصل ظاهرة الصفوف وتدرس الحكومة وجهاز أمنها إيجابيات وسلبيات الإستمرار في برنامج الصدمة.
مشكلة الإقتصاد السوداني (المرض الهولندي):
المؤكد هو أن الإقتصاد السوداني ظل يعاني منذ عهد النفط في التسعينات وحتي الآن من حالة مرضية إقتصادية شهيرة تسمي بالمرض الهولندي Dutch Disease *، ويعرّف بأنه الزيادة والوفرة في الموارد الطبيعية مع إنخفاض حاد في الصناعات التحويلية الزراعية، وقد حدث هذا المرض لأول مرة في الإقتصاد الهولندي بعد إكتشاف حقل كبير للغاز الطبيعي في العام 1959 وظلت الدولة تعتمد علي تصدير الغاز لتوفير إحتياجات المواطنين وأهملت مجالات الصناعة والزراعة حتي ظهرت الحالة المرضية بشكل بشع في العام 1977 حينما نضبت آبار الغاز ودخلت الدولة الهولندية في ديون ضخمة لسد فواتير إحتياجاتها الأساسية وفشلت لسنوات في إستنهاض الأمة للعودة للزراعة والصناعة.. في السودان، ومنذ بداية التسعينات أهملت الدولة كل القطاعات المنتجة - الزراعية والحيوانية والصناعية - وأكتفت بالنفط فقط، حتي حدثت صدمة إنفصال الجنوب وذهاب 75% من النفط للدولة الوليدة في العام 2011، ومنذ ذلك الحين وحتي يومنا هذا ظل السودان معتمداً بشكل أساسي علي الذهب كمصدر أساسي وحيد للعملات الصعبة برغم العشوائية التي يتم العمل بها، وهو ما أدخلنا في حالة المرض الهولندي!
البروفيسور الأمريكي الحاصل علي جائزة نوبل في الإقتصاد (جوزيف ستغليز *) كان قد حذر دول العالم من المرض الهولندي بالقول أن (إقتصادات الإعتماد علي الموارد الطبيعية يخلق أوطاناً غنية ومواطنين فقراء)، وهذا هو جوهر الواقع الإقتصادي السوداني الان.
ماهو التغيير المنشود من (برنامج الصدمة)..؟
لطالما تجاهلت الحكومة أن الأزمة الإقتصادية السودانية ذات طابع سياسي وأن حلها يكمن في إصلاحات سياسية وإطلاق سياسات تشجيعية للإنتاج.. تعتقد الحكومة أن الأجواء متوفرة للإنتاج الزراعي والحيواني والصناعي والإبداع العلمي لكن المشكلة هي في الشعب السوداني!! هذا القول ليس غريباً فلقد سمعناه في وسائل الإعلام من كثير من المسؤولين الذين لطالما حمّلوا مسؤولية ضعف الإنتاج للشعب السوداني، وأتهموه بالكسل وصناعة التبريرات والإتكالية بل والعيش الرغيد بدعوي أن السودانيين يأكلون البيتزا والهوت دوغ.. إلخ. وزير مالية سابق مشهور طالب الشعب السوداني بالعودة لأكل (الكسرة والعصيدة) حتي توفر الدولة فاتورة إستيراد القمح بمليارات الدولارات حيث أن السودان مكتفي ذاتياً من زراعة الذرة لكن طقسه لا يشجع علي بزراعة القمح.
الواقع أن الحكومة حاولت، كثيراً جداً، غسل دماغ الشعب السوداني واعادة هندسة المجتمع وإعادة تركيبه بالكامل من الصفر لتغيير نهج وطريقة حياته دون جدوي، وذلك هو ما دعاها الآن لإنتهاج أفكار (فريدمان) ونظرية الصدمة الإقتصادية من أجل خلق صدمة قوية في الإقتصاد، تتبعها قرارات سياسية وإجتماعية جرئية، ولا أستبعد أن يكون من ضمن القرارات ما يلي:
* الإستغناء عن الآلاف من موظفي الخدمة المدنية، ولطالما أشتكي المسؤولين أن 50% من الميزانية في البند الأول تذهب للمرتبات.
* مضاعفة الضرائب عدة أضعاف، وقد بدأت هذه بزيادة الجمارك 300%.
* تعويم الجنيه وترك السوق فريسة لسياسة العرض والطلب، ويمكن إعتبار الجنيه السوداني الان في حالة أشبه بحالة التعويم.
* حظر إستيراد المزيد من السلع والبضائع، وقد بدأت هذه بحظر أستيراد كثير من السلع حالياً.
* التقليل من فاتورة إستيراد القمح للحد الأدني، وتحاول الحكومة تغيير النمط الغذائي للمواطنين بالإتجاه ناحية الذرة بدلاً من القمح.
* التشديد في القوانين والعقوبات، وقد ظهرت قوانين مشددة بالفعل الان لتهريب الذهب تصل لحدّ السجن 10 سنوات.
وحسب نظرية الصدمة فإن كل هذه الأهداف يمكن تحقيقها بسهولة دون أي إحتجاجات شعبية بسبب حاجز الصدمة، بل ينظّر بعض الفلاسفة من مؤيدي (فريدمان) أن المواطنين أنفسهم سيطالبوا أو يدعموا كل القرارات الصعبة والقاسية أملاً في غدٍ أفضل حتي لو كان زعماً خيالياً.
متطلبات وإشتراطات الصدمة الإقتصادية:
يعتقد مؤيدو نظرية الصدمة أن نجاحها له إشتراطات ومتطلبات، ومن أهم الإشتراطات هو ثقة الدولة في قوتها الأمنية والعسكرية وقدرتها علي تدارك الوضع في حالة وصوله لمرحلة الخطر أو مرحلة اللاعودة، حيث أن تنفيذ الصدمة يتطلب وجوداً شرطياً وأمنياً لضبط الشارع وتخويف المواطنين، وربما يصل الأمر لمرحلة إعلان الدولة لحالة الطوارئ في البلاد - وهذا ما لا أستبعده في حالة السودان. كذلك فإن للصدمة متطلبات تتمثل في كلمة واحدة وهي الديماغوجيا - Demagoguery *، وهي إستراتيجية لإقناع الآخرين بالإستناد إلي مخاوفهم وأفكارهم المُسبقة عن طريق الدعاية الحماسية والخطابات والمناورات والحيل السياسية لإغراء الشعب بوعود كاذبة، وقد تمظهر هذا في السودان خلال الأيام والشهور الماضية بجملة من إشارات الديماغوجيا مثل إتفاق سلام جنوب السودان الذي تم توقيعه عدة مرات في الخرطوم، وتواتر الأخبار عن إستثمارات تركية مليارية، وقروض خليجية، وقواعد عسكرية روسية علي البحر الأحمر، وآخر هذه الإشارات المُخدرة كانت هي البرنامج النووي السوداني، ولا أستبعد أن يتحدثوا مستقبلاً عن خطة السودان لإطلاق قمر إصطناعي سوداني! كل هذه تقع في طائلة المناورات والأكاذيب المُضحكة المُبكية والتي لا أري لها تصويراً سوي إحدي نصائح قائد النازية الألمانية أدولف هتلر في كتابه الشهير (كفاحي) حين قال: (أكذب علي الناس كذبات كبيرة وواضحة.. وكررها لهم مرات ومرات.. وفي النهاية سيصدقوك).
ماهو القادم في السودان..؟
تخطي الشعب السوداني بصبر شديد المرحلة الأولي من برنامج الصدمة ممثلاً في خنق الإقتصاد والتضخم وتحجيم السيولة وعودة صفوف الخبز والمحروقات ونكد الحياة العامة، ونحن موعودون بالمرحلة الثانية من ذات البرنامج، لكن بجرعات أكبر وأشد قسوة، وسيقوم رئيس الوزراء الجديد بتنفيذ برنامج صدمة قوي لا نعرف تفاصيله حتي الآن لكننا أشرنا لمؤشراته فيما سبق، وقد صرّح الرجل بذلك بنفسه قبل أيام في مسجد رئاسة مجلس الوزراء حتي قبل أدائه للقسم، وهو يعلم أنه غير مسموح له بالتنظير ولا حتي التخطيط أو الإجتهاد، وإنما التنفيذ فقط، وبنفس النسق ستكون مهمة وزير المالية القادم هي مهمة تنفيذية بحتة، وقد تواترت لنا الأنباء عن إعتذار دكتور عبدالله حمدوك عن تولي المنصب وإختار أن يهرب بجلده من حكومة الصدمة، ولا عجب أن لا يجدوا وزيراً للمالية فقد ظل منصب محافظ البنك المركزي شاغراً لأكثر من ثلاثة أشهر منذ وفاة المحافظ السابق حازم عبدالقادر رحمه الله - فحكومة برنامج الصدمة لا تحتاج لمحافظ بنك مركزي ولا لوزير مالية لأن الماكينة الإقتصادية تدار بالتعليمات الأمنية فقط.
الخلاصة:
هذا المقال هو إجتهاد شخصي من مواطن سوداني خبير في الإقتصاد والعلوم الإقتصادية والمالية، وقد أكون مخطئ أو مُصيب في هذا التحليل برغم أن كل مؤشرات الواقع تقول أن الحكومة تتجه لإتجاهات خطيرة جداً وربما تكون غير مدروسة العواقب، وإذا كان برنامج الصدمة قد نجح في عدد من الدول مثل تشيلي وأندونيسيا وروسيا فقد فشل فشلاً كارثياً في دول كثيرة أخري وأدي لتفاقم الفقر وإختلال التوازنات الطبقية بل وحتي إهتراء النسيج الإجتماعي وصولاً لحالة الحرب، وفي كل الأحوال فإن نظرية الصدمة هي نظرية محفوفة بمخاطر كبيرة قد لا يتكون مناسبة لحالة الإقتصاد السوداني، فمشكلة الإقتصاد السوداني مقدور عليها إذا صفت النوايا السياسية ونجحت الدولة في إجتثاث الفساد ومحاربة التماسيح (وليس القطط) ثم فتح السوق حراً للإنتاج والمنتجين.
وسأحاول في مقال لاحق وضع تصور عام لحل المشكلة الإقتصادية السودانية بمزيد من التفاصيل، إذا أمد الله في الآجال.
سمير الطاهر سيد أحمد
خبير إقتصادي ومحلل مالي
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
* جميع مصادر الهوامش أعلاه من الموسوعة الحرة (الويكيبيديا) ويمكن الرجوع إليها لمزيد من المعلومات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.