في تلك القرية المنسية وفي ذلك التاريخ الذي لا يذكره أحد ، توفيت والدة مرزوق أثناء ولادته ، وفي سن الرابعة توفى والده ومن ثم أطبق اليتم عليه وأجبره على حمل لقب "اليتيم" منذ نعومة أظافره، وعلى الرغم من الحنان الجارف الذي كانت تغمره به خالته ، إلا أن مشاهدة "اليتيم" لأترابه وهم بصحبة آبائهم وأمهاتهم كانت تثير في دواخله حزناً كبيراً لا تحتمله روحه الصغيرة! عندما بلغ "اليتيم" السابعة ، تم إرساله إلى قرية مجاورة لدراسة القرآن ، وقف "اليتيم" أمام شيخ الخلوة الذي سأله قائلاً: هل لديك كفيل من هذه القرية؟ رد "اليتيم" قائلاً: كفيلي هو الله! عقب الشيخ قائلاً: ونِعم بالله ولكن لا بد أن تحضر لنا كفيل من القرية يتكفل بمأكلك وملبسك ومسكنك إلى حين تخرجك من الخلوة ، عندها غضب "اليتيم" وغادر القرية بعد أن قال للشيخ : لا أريد علمك إذا لم تكن مقتنعاً بأن كفيلي هو الله! وصل "اليتيم" إلى قرية أخرى وسأله شيخ الخلوة نفس السؤال فرد "اليتيم" نفس الرد وعندها تهللت أسارير الشيخ وقال له: نِعم الكفيل هو الله ثم خرج الشيخ إلى أهل القرية وهو ممسك بيد "اليتيم" وطلب منهم كفالته فلم يكفله أحد! أصر الشيخ على الاحتفاظ باليتيم وعلّق قائلاً: كفيلنا جميعاً هو الله وسيرزقنا من حيث لا نحتسب! بدأت أحداث عجيبة تقع في القرية فقد توفى أحد مواطني القرية، وبدأت الصدقات تنهمر على الخلوة لمدة أربعين يوماً على عادة سكان القرية وقبل يوم واحد من موعد انتهاء الصدقة الأربعينية توفى مواطن آخر ، وهكذا استمر تسلسل الوفيات وتسلسل الصدقات الأربعينية بصورة مريبة دفعت مؤمنو القرية إلى القول بأن تلك الظاهرة العجيبة تنطوي على رسالة إلهية خفية ، بينما وصف ملاحدتها توالي الوفيات بسلسلة من الأحداث المنحوسة غير المفهومة! لاحظ شيخ الخلوة غرابة تلك الأحداث وربطها برفض القرية لكفالة "اليتيم" وهمس بتلك الملاحظة لبعض مواطنيها وسرعان ما سرت شائعة قوية وسط القرويين مفادها أن الشيخ قد حذر أهل القرية بقوله: (والله "اليتيم" دا لوما كفلتوه حتموتو كلكم واحد ورا واحد وما حيفضل في القرية دي غير الكلاب والحمير!) ذات صباح خرج الشيخ إلى الملأ وهو ممسك بيد "اليتيم" ثم طلب من أهل القرية كفالته ، عندئذ تهافت سكان القرية على كفالته وحينما أصر "اليتيم" على أن كفيله هو الله تصاعد الذعر وسط القرويين ، وبعد سلسلة من الاستعطافات الحارة فازت القرية بكفالة "اليتيم" بينما ضحك الشيخ في سره على ذلك الكرم المتأخر الذي هبط على سكان القرية على حين غرة ، وعندها فقط توقف عرض مسلسل الموت ولم يمت أي مواطن من مواطني القرية إلا بعد أن أكمل "اليتيم" دراسته وغادر خلوة القرية إلى جهة لا يعملها أحد وهو يردد في سره بطمأنينة طفولية عجيبة : كفيلي هو الله ، كفيلي هو الله! فيصل علي سليمان الدابي/المحامي/الدوحة/قطر