نائب وزيرالخارجية الروسي نتعامل مع مجلس السيادة كممثل للشعب السوداني    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدشن أغنيتها الجديدة (أخوي سيرو) بفاصل من الرقص المثير ومتابعون: (فعلاً سلطانة)    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدشن أغنيتها الجديدة (أخوي سيرو) بفاصل من الرقص المثير ومتابعون: (فعلاً سلطانة)    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    الانتفاضات الطلابية مجدداً    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    بالفيزياء والرياضيات والقياسات العقلية، الجيش السوداني أسطورة عسكرية    دبابيس ودالشريف    أسامة عبد الماجد: مُفضِّل في روسيا.. (10) ملاحظات    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    محمد صلاح تشاجر مع كلوب .. ليفربول يتعادل مع وست هام    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    محمد الطيب كبور يكتب: السيد المريخ سلام !!    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليس دفاعا عن عرمان ،،،،،،،،، و لكن حبا لهذا الشعب .. الهادي هباني
نشر في سودانيل يوم 06 - 03 - 2010

قلنا في الحلقة السابقة أنه ((كلما نشطت و اشتدت محاولات الأخوان المسلمين في بلادنا (علي إختلاف مسمياتهم و علي إختلاف الأنظمة الديكتاتورية التي يعملون من خلالها عسكرية كانت أم مدنية) لتنفيذ مشروع السودان العروبي المسلم، أو الدولة الدينية، كلما اتسعت و اشتدت مقاومة الشعب له)) و قد ظلت مقاومة الشعب لهذا المشروع (و منذ تاريخ مبكر) تتخذ أشكالا مختلفة صعودا و هبوطا من حيث الحدة و الاتساع تبعا للظروف الذاتية و الموضوعية التي تحكمها و بهذا القدر أو ذاك من ردة الفعل نحو اشتداد و تصاعد صور الإستعلاء العرقي و الاضطهاد القومي و السعي المنظم لفرض الثقافة العربية الإسلامية كثقافة و هوية وحيدة دون سواها علي سائر الثقافات السودانية الأخري. و لكن هذه العلاقة الطردية لا يجوز فهمها بمنطق الفيزياء الرياضية عند إسحاق نيوتن (لكل فعل رد فعل مساوي له في القوة ومضاد له في الاتجاه) فالبنيات الفوقية للمجتمعات (و علي الرغم من إرتباطها الموضوعي و الجدلي بالبنيات التحتية) إلا أنها و بحكم طبيعتها عٍصية علي قوانين الطبيعة و الفيزياء بقواعدها و حقائقها العلمية المجردة و يصعب تطويعها و تغييرها بشكل راديكالي لأنها تتعلق بالإنسان الكائن البشري الحي بمشاعره، ضميره، وجدانه، عقله، ميوله، ثقافته و درجة إرتباطه و تأثره بالعادات و التقاليد. فالأنماط الإنتاجية و الإجتماعية السائدة كبنيات تحتية تتغير بشكل أسرع من تغير البنيات الفوقية كالوعي و الثقافة و الأخلاق و العادات و التقاليد و التي تظل عالقة في ذاكرة الناس تؤثر في حياتهم لفترات طويلة. و علي سبيل المثال فإن طابع الإنتاج القائم علي علاقات العبودية و الإسترقاق بمفهومه و مدلوله الطبقي و الإجتماعي الواضح قد إختفي في بلادنا و برغم ذلك لا زالت كثير من مظاهر الإسترقاق و العبودية تمارس في حياتنا، و لا زالت ثقافة العبودية و الإسترقاق تؤثر و تلقي بظلالها علي وعينا الجمعي و عاداتنا و تقاليدنا و علاقاتنا الإجتماعية، فعلي سبيل المثال، كثير من القبائل الشمالية المستعربة تري في زواج أبنائها أو بناتها من بنات أو أبناء القبائل ذات الجذور الإفريقية عيبا و خروجا كبيرا عن السياق العام لمجتمع القبيلة و عاداتهم و ثقافاتهم و وعيهم ((و نعني هنا الزواج بمفهومه الإجتماعي و الشرعي و القانوني و ليس العلاقات التي تنشأ و الزيجات التي تتم خارج إطار السياق العام المتعارف عليه في المجتمع، بل أن مثل هذه العلاقات أو الزيجات و علي الرقم من أنها تمثل ِفعلا من أفعال التمازج و الانصهار القومي (و لا يستطيع أحد أن ينفي عنها ذلك) إلا أنها منبوذة و محكوم عليها بالمقاطعة و العزلة الإجتماعية و فاعليها في أغلب الأحيان منبوذين و معزولين حتي من قبل أقرب الأقربين لهم و تظل فعلتهم هكذا وصمة عار علي جبينهم و علي جبين أحفادهم و أحفاد أحفادهم و الخلف من بعدهم لزمن طويل، و أن عملية تراكمها للدرجة التي يمكن أن تحدث معه تغييرا كليا لتلك المفاهيم السلبية و تحولا في وعي الناس الجمعي تحتاج بالضرورة لزمن طويل و لعملية معقدة من الصراع الإجتماعي)). فحالات التزاوج التي تمت بين بعض أفراد القبائل العربية أو المستعربة التي دخلت السودان مع إتفاقية البغط و بين بنات ملوك النوبة المسيحيات و حرايرهم إستغرقت ستة قرون (600 عام) لتٌحدِث تحولات جذرية في ثقافة الناس و في عاداتهم و تقاليدهم و برغم ذلك لا زالت قبائل النوبة (و التي إعتنقت الإسلام في خضم تلك العملية الطويلة و المعقدة من الصراع الإجتماعي) تحتفظ بلغتها الخاصة و بكثير من عاداتها و تقاليدها التي إكتسبتها خلال فترة مملكة المقرة المسيحية.
كما يصعب أيضا تحديد الفترة التي تستغرقها العادات و التقاليد و المفاهيم و غيرها من البنيات الفوقية للمجتمعات لتتغير، أو حتي وضع معيار ثابت للمدي الزمني الذي يمكن أن تتغير فيه مهما استخدمنا من طرق إحصائية و قياسية. فالعملية تعتمد بشكل أساسي علي النظام الإقتصادي و السياسي السائد فكلما كان الصراع بين الثقافات و الأعراق المختلفة قائما علي بنية خصبة من التنمية المتوازنة و المناخ السياسي الذي يتيح و يضمن مزيد من الديمقراطية و الحرية و الإحترام الكامل لحقوق الإنسان و حق كافة الثقافات في التعبير عن نفسها بحرية دون أية قيود كلما كان هذا الصراع إيجابيا و منتجا لصوراً أكثر إستحساناً و إثماراً من صور التماذج و الإنصهار القومي السلمي و الطوعي، و بالتالي كلما قصرت الفترة التي تتغير فيها إيجابا تلك البنيات الفوقية. و علي العكس تماما كلما كان الصراع قائما علي أرضية صلبة من القهر و الظلم و التدهور الإقتصادي و مصادرة الحريات كلما أخذ أشكالا أكثر سلبيةً و حدةً و أصبح منتجاً لصوراً كارثيةً من الصراعات و الحروب و التدهور الإقتصادي، و بالتالي كلما طالت و امتدت الفترة التي يمكن أن تتغير فيها إيجابا تلك البنيات الفوقية. و في هذا أورد ((الدكتور الطيب حاج عطية في دراسة له بعنوان مدخل لمفاهيم و آليات النزاع منشورة في العدد الثامن بتاريخ يوليو 2002م من مجلة محاور الصادرة عن مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية بجامعة أم درمان الأهلية في الصفحات 77/78 فهما للنزاع من أكثر المفاهيم دقةً و تعبيراً حين قال (النزاع سمة طبيعية في حياة البشر، و حذره الإختلاف في الطبائع و المصالح و الأفهام و المواقف. و لو لا بذرة التنوع و التعدد و الإختلاف ما جري تيار الحياة الصاخب، بل لركد و أسن ماؤه. إلا أنه إذا تجاوز حدود السلمية إلي العنف، و حدود المنافسة إلي الإقتتال، فقد إيجابيته و تحول إلي أداة دمار و خراب، و ما عاد مؤججا للحيوية و الديناميكية الإجتماعية، و دافعا نحو التجديد و التغيير)).
و المتتبع لكثير من الصراعات التي شهدها العالم في مناطق عدة مثل التاميل في سيريلانكا، الصرب و الكروات في يوغسلافيا، فلسطين، الشيشان و الأنقوش في القوقاز، الأكراد في تركيا و العراق، و الأمازيق في شمال غرب إفريقيا، التوتسي و الهوتو في رواندا، الصومال، و غيرها من النزاعات الممتدة في كثير من البلدان يجدها (و برغم ما تحمله من خصائص و سمات خاصة) متشابهة في عمومياتها من ناحيتين الأولي: في أن أسبابها واحدة تقريبا و لا تخرج (كما حددها د. الطيب حاج عطية في المرجع السابق ذكره صفحة 83) عن (الأعراق و المواطنة، الدين و المواطنة، الحقوق القبلية و التقليدية، الصراع بين الجماعات المحلية و السلطة، و القضايا الإقتصادية و الآيدلوجية و الطبقية اللصيقة). و الثانية: في أنها تنشأ و تقوم في ظل أنظمة سياسية دكتاتورية (مدنية أو عسكرية) تصادر الديمقراطية و الحرية و حق القوميات و الثقافات في التعبير عن نفسها و تفرض نظما إقتصادية غير عادلة و لا تهتم بالتنمية المتوازنة.
و بلادنا واحدة من أهم البلدان التي شهدت و لا زالت تشهد مثل هذه الصراعات الممتدة التي خلفت الملايين من الضحايا و المشردين و اللاجئين و أنتجت الفقر و الدمار و فاقمت منهما و أججت النزعات العنصرية و روح الكراهية بين أبناء الوطن الواحد و أثرت سلبا و لا زالت تؤثر في علاقات الجوار مع معظم الدول المحيطة بالسودان جنوبا و شمالا، شرقا و غربا بل و علي مجمل علاقات السودان الخارجية.
و كغيرها من النزاعات التي شهدتها مناطق عدة من العالم (المذكورة سابقا) و التي تطورت و امتدت و ازدادت عمقا و تعقيدا في ظل الأنظمة الديكتاتورية، فقد وجدت أيضا الصراعات القومية في بلادنا (بجانب فترة الإستعمار) أرضية صلبة و تربة خصبة في الأنظمة العسكرية التي حكمت السودان لأكثر من ثلاثة و أربعين عاما تمثل حوالي 78% من مجمل السنوات التي مرت علي إستقلال بلادنا و البالغة حوالي 55 عاما بينما تمثل سنوات الديمقراطية (التي لا تتجاوز ال 12 عاما) ما نسبته 22% فقط من مجمل السنوات التي مرت علي الإستقلال. (و لعل هذه المؤشرات تمثل إجابة قاطعة و كافية لأية تساؤلات حول أسباب التردي و الانحطاط الذي آلت إليه أحوال السودان). و بدلا عن قضية الجنوب و التي ظلت منذ عام 1955م تشكل أحد أهم المحاور المفصلية في قضايا الصراع السياسي و حتي عشية إنقلاب الأخوان المسلمين المشئوم في يونيو 89م إتسع نطاق الصراعات القومية و الحروب الأهلية في الشرق و الغرب و امتدت و تداخلت مع بعض دول الجوار و أصبحت بلادنا بموجبها ناقصة للسيادة، مسرحا و مرتعا للتدخلات الإقليمية و العالمية في شئوننا الداخلية و أصبح السودان متربعا علي عرش قوائم الدول الراعية للإرهاب و مافيا تبييض الأموال، و المنتهكة لحقوق الإنسان، و المرتكبة لجرائم الحرب و التطهير العرقي و الإبادة الجماعية.
و حتي خلال تجاربنا الديمقراطية الثلاثة السابقة وجدت قضية الجنوب التي كانت تمثل محور قضايا الصراع القومي الإهمال و المماطلة و المعالجات الخاطئة من قبل العناصر اليمينية داخل الحزبين الكبيرين التي تلتقي مع فكر الأخوان المسلمين و مشروع الدولة الإسلامية في السودان في عمومياته. فمع بداية الاستقلال نكصت الأحزاب اليمينية الحاكمة وعدها للجنوبيين بالفيدرالية، التنمية الإقتصادية، الأجر المتساوي للعمل المتساوي، مناصب ضمن مشروع سودنة الوظائف، إلغاء ضريبة الدقنية، و غيرها من الوعود. (راجع: تاج السر عثمان - الحوار المتمدن - العدد: 2395 - 5/9/2008م - الجذور التاريخية للتهميش في السودان – الحلقة الخامسة). و حاولت خلال نفس الفترة فرض الهوية العربية الإسلامية من خلال تقديمها لإقتراح جمهورية السودان الإسلامية و الدستور الإسلامي التي عرضت على لجنة الدستور عام 1957 و لكن تم إسقاطه تحت ضغط و صعود حركة الجماهير بأغلبية 21 صوتاً مقابل 8 أصوات و إجازة مسودة دستور 1957 بروحه العلمانية بدلا عنه و قد كان هذا من أهم الأسباب التي قادت فيما بعد عبدالله خليل لتسليم السلطة للجيش في إنقلاب قصر في نوفمبر 1958م و الذي بدأ بدوره فورا بتعطيل مسودة دستور 1957 العلمانية المجازة في لجنة الدستور. و عقب ثورة أكتوبر نجح الأخوان المسلمين ممثلين في جبهة الميثاق الإسلامي بالتعاون مع نفس العناصر اليمينية داخل الحزبين الكبيرين من إسقاط حكومة جبهة الهيئات، و فيما بعد، من إختلاق تلك الحادثة المشئومة التي نجحوا بموجبها من حشد المشاعر الدينية لدي أقسام واسعة من أحزاب اليمين و إقناعها بتعديل الدستور لحل الحزب الشيوعي و طرد نوابه من البرلمان و مصادرة أملاكه، ثم قاموا بعد ذلك في عام 1968م بالتعاون مع نفس التيارات اليمينية في الحزبين الكبيرين بتقديم إقترح مشروع الدستورا الإسلامي الذي ينص علي أن الإسلام هو المصدر الرئيسي للتشريع و أنه هو الدين الرسمي للدولة في حين أن السودان بلد متعدد الأديان, مما يعني تكريس الإستعلاء و الإقصاء لكل الأديان الأخري. و قد كان ذلك بمثابة الإجهاض الكامل لكل الشعارات و المبادئ التي وردت في برنامج مؤتمر المائدة المستديرة و قرارات لجنة الإثني عشر المنبثقة عنه و علي رأسها مبدأ حرية الأديان. مما أدي إلي تسعير نيران الحرب في الجنوب. و قد فاقم من كل ذلك تآمر نفس الحلف اليميني الداعي للدستور الإسلامي في مقتل القائد الجنوبي وليم دينق زعيم حزب سانو وستة من مناصريه في كمين نصبه لهم الجيش و هم في طريقهم من رومبيك إلى واو في مايو 1968م و ذلك بعد مرور أقل من شهر من نجاح حزبه في الحصول علي 15 مقعدا برلمانيا في إنتخابات إبريل 1968م، و ذلك لمواقفه المتمسكة بمقررات مؤتمر المائدة المستديرة و بوحدة السودان و تمتعه بإحترام واسع بين الأوساط الجنوبية و الشمالية المستنيرة، و قد أوردت (صحيفة الرائد بتاريخ 27/8/2009م) بعض مما قاله لبعض مؤيديه في نوفمبر 1967م ما نصه (هناك تكهنات هذه الأيام عما إذا كان الانتخابات العامة ستجرى في أبريل المقبل وفي تاريخ لاحق ولكن مهما يكن من أمرها فإنني أنصح مؤيدي سانو بالاستمرار في الاستعداد للانتخابات وذلك لأن مدة البرلمان هذه المرة خمسة أعوام وأنه لحري بنا وأحرى لنا أن نوجه جهودنا نحو ايصال ممثلين إلى البرلمان متميزين كما ونوعاً ومؤهلين لتحقيق النهضة في الجنوب وداخل السودان الموحد ونحن نناشد الحكومة أن تنفذ قرارات مؤتمر المائدة المستديرة التي منحت جنوب السودان حق الحكم الذاتي في إطار السودان الموحد كما يجب أن تقوم الحكومة بتنفيذ قوانين العفو العام وأن ترفع قانون الطوارئ وإذا تمت هذه الأمور فإن سانو يتوقع من كل الجنوبيين أينما كانوا أن يهدأوا ويتمسكوا بالسلام). كما قام نفس الحلف اليميني و قوي الهوس الديني و بنفس بنود الدستور الإسلامي المذكور بتدبير محاكمة ردة للمفكر الصوفي محمود محمود طه في نوفمبر من عام 1968م و التي تم إستكمال حلقاتها التآمرية مرة أخري (تحت ثوب الإمامة الذي ألبسوه السفاح جعفر نميري) و إعدامه شنقا و بدم بارد دون حياء بموجب قوانين سبتمبر 1983م البغيضة الظلامية المسماة بقوانين الشريعة و التي أرتكبوا بقوتها أبشع الجرائم التي عرفها تاريخ بلادنا بل تاريخ البشرية جمعاء.
و في التجربة الديمقراطية الثالثة بعد إنتفاضة مارس/أبريل 1985م أدي تردد و عجز الحكومة عن إلغاء قوانين سبتمبر و إلغاء قرار تقسيم الجنوب (و اللذان كانا أهم الأسباب المباشرة التي أدت للتمرد في جنوب السودان عام 1983م). و كذلك تباطؤها في التعاطي مع إتفاقية الميرغني – قرنق عام 1988م تعد أحد أهم السلبيات التي صاحبت تلك التجربة و قد أدي هذا التباطؤ و ما تبعه من التفاف أقسام كبيرة من الجماهير حول هذا الإتفاق و مواصلة ضغطها علي الحكومة للقبول به مما دفع بالجبهة القومية الإسلامية للإسراع في تنفيذ إنقلابها المشئوم علي النظام الديمقراطي في منتصف عام 1989م لقفل الطريق أمام فرص نجاح تلك الإتفاقية المناهضة للمشروع الدستور الإسلامي و الدولة الدينية و التي نصت في بنودها علي تجميد قوانين سبتمبر 1983م و نقلها للمؤتمر الدستوري المزمع عقده للبت النهائي فيها.
و هكذا نجد أن مشروع الدستور الإسلامي (و الدولة الدينية) قد شكل محورا ثابتا و قاسما مشتركا في مجمل محاور الصراع السياسي التي واجهت الأنظمة التي حكمت بلادنا (عسكرية كانت أم مدنية) بل و أنها تعتبر أحد أهم أقطار الدائرة الشريرة التي ظل السودان يدور حولها فكلما فشلت قوي الهوس الديني و علي رأسها الأخوان المسلمين في تمرير مشروع الدستور الإسلامي في ظل الديمقراطية كلما حدث إنقلاب عسكري تسعي من خلاله نفس القوي إلي فرضه بالقوة و آخرها إنقلاب نوفمبر 1989م المشئوم و الذي يمثل الدولة الدينية في أبشع صورها و التي أثبتت فشلها و استحالة إقامتها في بلد متعدد الأديان و الثقافات و الطوائف.
و إذا كان الطيب مصطفي و ذمرته من دعاة الدولة الدينية بالفعل أحفادا لتلك القبائل العربية الإسلامية التي وقّعت إتفاقية البغط مع ملوك النوبة فحِريٌ بهم أن يستقوا منهم الدروس و العبر، و عليهم، قبل الجهاد في سبيل إقامة مشروعهم الواهم، أولا بالجهاد الأكبر، جهاد أنفسهم و غسلها و تطهيرها من الكره و الحقد و الغبن و التعالي و الكبر و الإدعاء و التطاول و حب السلطة و المال و الضيق و الإستعجال، و حتي لو إفترضنا جدلا أن فكرة الدولة الدينية أو الإسلام العروبي المسلم فكرة قابلة للتطبيق في بلادنا فإن تطبيقها لا يمكن أن يتم إلا من خلال الصبر و إحتمال الآخرين و التمسك بالديمقراطية و السلم و الإعتراف غير المشروط بالأديان الأخري و حرية المعتقدات، و مختلف الثقافات و حقها في التعبير عن نفسها دون قيد أو شرط، و سيادة حكم القانون، و العدالة و التنمية المتوازنة و التوزيع العادل للثروة. و بعد أن يقتنع و يؤمن بها كل جماهير الشعب السوداني بمختلف ثقافتهم و أعراقهم و انتماءاتهم بشكل طوعي و سلمي دون وصاية.
Alhadi Habbani [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.