kairi_2win@ yahoo.com ظل التَكلُفْ اتهاماً يطال الدراما السودانية و متعاطيها منذ أن أمدٍ بعيد. و قد صدَّق ذلك الشكل الرتيب للدراما المقدمة من خلال الشاشة الصغيرة "الوحيدة", آنذاك, ألا و هي التلفزيون القومي. و كان التبرير لغير العارفين يُعزَى لقلة تجربة الممثل السوداني مصحوبةً بضعف الإمكانات المادية المتاحة لصناعة الدراما. فالدولة لا تعتمد في ميزانيتها بنداً يعنى بالارتقاء بالعمل الفني على الرغم من أهميته البالغة. فالدراما التلفزيونية هي مدرسة مفتوحة ينهل منها العالم و المحروم على السواء. و هي أداةً للتغيير الإيجابي في المجتمعات من خلال غرس الفضائل و تبيين النواقص الواجب تفاديها. لكن هذه المدرسة إن عازها التشويق و الجاذبية فسينصرف عنها طلابها, وهو ما حدث حين انزوت الدراما السودانية لصالح الدراما المستوردة و التي قد تعالج قضايا موغلة في المحلية بالنسبة لمجتمعها و لا تخصنا بشيء. ثم جاءت حكايات سودانية, التي أطلت علينا من خلال شاشة قناة الشروق الفضائية, أطلت علينا بنصوص تُمتِعُ العقل و منظر يسر القلب. لقد حققت حكايات سودانية إلى حد كبير الغرض الرامي للجمع بين اللذة و المعرفة, فكان الإتحاد المتسق بين الجمال و الإصلاح حتى استبانت الفواصل بين الفضيلة و ما جانبها في شكل مستساغ و جاذب يفضح أفعال الأدنياء و يرفع من شأن الفضلاء. لقد جذبتنا هذه الحكايات السودانية حتى صارت جداول مواعيدنا تتجنب الثامنة من مساء الخميس خوفاً من فقدان دفقات الإمتاع و المؤانسة التي تقدمها لنا. لكن السؤال المُلِحْ هو من أين أتى هؤلاء الممثلون بهذه العفوية اللدنة التي تدخل مباشرة إلى القلب دون أي حواجز. أليسوا هم ذاتهم من قدم لنا دراما رتيبة من قبل؟ أليسوا هم من افتقر أداؤهم لنبض التشويق و الإثارة فلا تحققت المتعة و لا الغرض المعرفي. قد تغيم الرؤية عنا لكن النتيجة تُنبئ عن معطياتها التي تقودنا إلى جواب واحد و هو "بيئة العمل". فالإمكانات المتاحة مازالت على قلتها مقارنةً بما يصرف على الدراما في دول لا تفوقنا بشيء في إمكاناتها المادية لكنها تجيد صناعة الدراما و تسويقها. قد تغيم الرؤية عن عوائق إدارية لا تُدرك الجوانب الفنية التي يتطلبها العمل الدرامي و القرارات الفوقية التي لا رابط بينها و واقع الحال. و هي سمة كل عمل إداري يفتقر للرؤية الرابطة بين ما تقتضيه مصلحة العمل الفني و بين تكريس الروتين القاتل للإبداع فتكون النتيجة هي التشتت بين مراعاة عناصر الجمال و الإتباع الحرفي للقرارات الإدارية فيخرج العمل الفني ماسخاً و بلا طعم. إن الإمتاع المُشبَّع بالمضمون هو الرسالة الحقيقية للدراما و هذا أمرٌ يتطلب إداريين مبدعين, و طاقم فني لا يتعامل مع الأمر على أنه مجرد تكليف وظيفي يتقاضى عليه راتباً و ساعات إضافية في آخر الشهر, و بيئة عمل تجعل شرايين الإبداع تنبض بالعفوية. و هذا لا يكون في مؤسسة تدار بعقلية الاتجاه الواحد و لا يراعى فيها اختلاف الأمزجة و تباين الحدود المعرفية فيتولد احتكار المكان و الرأي لصالح أولئك الذين ينظرون بعين واحدة و يفكرون بشكل واحد. فقد وثق منتجو مسلسل عثمان دقنة بخبرة مصرية لممثلين هم من الصف الثالث هناك, أملاً في خلق عمل جاذب و بكلفة بلغت المليون دولار فكانت النتيجة رتابةً و تكلفاً لا يستساغ. أنَّى لهم الإحساس بعثمان دقنة. و اليوم تثبتت الشروق بحكاياتها أن معضلة العمل الدرامي لا تكمن في قدرات الممثل السوداني, الذي ثبتت قدراته الإبداعية بشكل كبير, بل في بيئة العمل التي تحقق الراحة النفسية لطاقم العمل بجانب الإدارة الواعية بالرصيد الكبير لضرورات العمل الفني و السعي لتوفيرها. شكراً لقناة الشروق التي عرفت كيف تختار الأمكنة لتصوير مشاهد تعكس للعالم صوراً مضيئة عن السودان تمحو بها صوراً قاتمة سابقة, و شكراً لاختيار نصوصاً تحترم عقل مشاهديها, و شكراً لمبدعي بلادي.