أمجد فريد الطيب يكتب: اجتياح الفاشر في دارفور…الأسباب والمخاطر    الكابتن الهادي آدم في تصريحات مثيرة...هذه أبرز الصعوبات التي ستواجه الأحمر في تمهيدي الأبطال    شاهد بالفيديو.. وسط دموع الحاضرين.. رجل سوداني يحكي تفاصيل وفاة زوجته داخل "أسانسير" بالقاهرة (متزوجها 24 سنة وما رأيت منها إلا كل خير وكنت أغلط عليها وتعتذر لي)    شاهد بالصورة.. حسناء الفن السوداني "مونيكا" تشعل مواقع التواصل الاجتماعي بأزياء قصيرة ومثيرة من إحدى شوارع القاهرة والجمهور يطلق عليها لقب (كيم كارداشيان) السودان    من سلة غذاء إلى أرض محروقة.. خطر المجاعة يهدد السودانيين    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    تفشي حمى الضنك بالخرطوم بحري    بالصور.. معتز برشم يتوج بلقب تحدي الجاذبية للوثب العالي    المخدرات.. من الفراعنة حتى محمد صلاح!    خطف الموزة .. شاهدها 6 ملايين متابع.. سعود وكريم بطلا اللقطة العفوية خلال مباراة كأس الأمير يكشفان التفاصيل المضحكة    لولوة الخاطر.. قطرية تكشف زيف شعارات الغرب حول حقوق المرأة    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    مدير شرطة ولاية القضارف يجتمع بالضباط الوافدين من الولايات المتاثرة بالحرب    محمد سامي ومي عمر وأمير كرارة وميرفت أمين في عزاء والدة كريم عبد العزيز    توجيه عاجل من"البرهان" لسلطة الطيران المدني    جبريل إبراهيم: لا يمكن أن تحتل داري وتقول لي لا تحارب    حركة المستقبل للإصلاح والتنمية: تصريح صحفي    مسؤول بالغرفة التجارية يطالب رجال الأعمال بالتوقف عن طلب الدولار    لماذا لم يتدخل الVAR لحسم الهدف الجدلي لبايرن ميونخ؟    مصر تكشف أعداد مصابي غزة الذين استقبلتهم منذ 7 أكتوبر    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    مقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر.. معلومات جديدة وتعليق كندي    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    توخيل: غدروا بالبايرن.. والحكم الكارثي اعتذر    النموذج الصيني    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    مكي المغربي: أفهم يا إبن الجزيرة العاق!    موريانيا خطوة مهمة في الطريق إلى المونديال،،    ضمن معسكره الاعدادي بالاسماعيلية..المريخ يكسب البلدية وفايد ودياً    ثنائية البديل خوسيلو تحرق بايرن ميونيخ وتعبر بريال مدريد لنهائي الأبطال    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    الولايات المتحدة تختبر الذكاء الاصطناعي في مقابلات اللاجئين    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حقوق الإنسان بين الإسلام والاعلان العالمي لحقوق الإنسان (1/3) .. بقلم: أ.د. أحمد محمد أحمد الجلي
نشر في سودانيل يوم 27 - 07 - 2020


بسم الله الرحمن الرحيم
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

من القضايا التي أصبحت موضع اهتمام الناس جميعاً على اختلاف مذاهبهم وأديانهم ومجتمعاتهم ،قضية حقوق الإنسان.وهي قضية اختلفت حولها وجهات النظر وتعددت المواقف،اتخذتها بعض الدوائر لا سيما الغربية، أحد الأسس الهامة لسياساتها الخارجية،وأحد أدوات الضغط على الدول ،و سلاحاً تشهره في وجه خصومها، وسبيلاً للنيل من تلك الدول التي تتبنى سياسات، أو توجهات لا تنسجم مع مصالح تلك الدول الغربية.
وتبدو أهمية القضية أكثر ما تكون بالنسبة للمسلم المعاصر لأمرين:الأول إنَّ كثيراً من الدول الإسلامية توجه اليها تهمة التقصير في شأن حقوق الإنسان،بل تتهم بأنَّها تتعمد إنتهاك تلك الحقوق واساءة معاملة الناس والتمييز بينهم.الأمر الثاني: تحاول بعض الدوائر أن تستغل هذه الأحوال المستنكرة ،وتلقي بالتهمة على الإسلام نفسه،وتصفه بأنه السبب الرئيسي وراء قصور المسلمين عن أداء تلك الحقوق وكفالتها،ومن ثم أصبح المسلمون المعاصرون في قفص الاتهام،وانجر معهم الإسلام أيضاً.
وخير ما يمثل الواقع الملتبس بالنسبة لحقوق الإنسان وموقف الإسلام منها ،واقع حقوق الإنسان في السودان ، فقد رفع النظام البائد شعار الإسلام وتطبيق الشريعة الإسلامية ,بل تضمنت أدبياته تلك الحقوق وفصلت القول في أهميتها وضرورة الإلتزام بها ،ولكن في حقيقة الأمر لم يلتزم نظام الانقاذ بتلك الشعارات التي رفعها ،وانتهك حقوق الإنسان لدرجة عبر عنها المرحوم الدكتور الطيب زين العابدين بالقول: "إنه لم يشهد تاريخ السودان منذ الإستقلال انتهاكات لحقوق الإنسان أكثر مما شهدها تحت حكم سلطة الإنقاذ"، ( انظر: تجربة الحركة الإسلامية السودانية في مجال حقوق الإنسان بين النظرية والتطبيق. بقلم د. الطيب زين العابدين) ،ومن ثم قامت الثورة ضد الإنقاذ رافعة شعار الحرية والسلام والعدالة،وجعلت من أهدافها الرئيسة السعي الى مراعاة حقوق الإنسان،واعتبرت الوثيقة الدستورية ،التي توجه مسار الدولة في الفترة الإنتقالية،"كل الحقوق والحريات المضمنة في الإتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان والمصادق عليها من قبل جمهورية السودان جزءاً لا يتجزأ منها": الوثيقة الدستورية ،الفصل الرابع عشر (وثيقة الحريات والحقوق). بل إن من أهم المجالات التي تساعد فيها بعثة الامم المتحدة (يونيتماس) (UNITAMS" عملية الإنتقال السياسي والتقدّم نحو الحكم الديمقراطي، وحماية حقوق الإنسان وتعزيزها والسلام المستدام". ." United Nations Integrated Transition Assistance Mission in Sudan
وقد انتهزت بعض الجماعات التي تهدف الى إبعاد الدين عن مجال السياسة، إساءات الإنقاذ إلى الإسلام وأنتهاكاتها لحقوق الإنسان،وفشلها في معالجة مشكلات المجتمع، الى الهجوم على الإسلام وتحميله المسؤولية عن تجربة الإنقاذ الفاشلة، واتهام تعاليمه بمخالفتها لحقوق الإنسان. ونحاول من خلال هذه الدراسة -التي حاءت في ثلاثة محاور- بيان موقف الإسلام وتعاليمه من حقوق الإنسان، ورفع ما وقع عليه من تشويه بسبب تجربة الإنقاذ، المحور الأول، وقفة تاريخية مع نشأة حقوق الإنسان في الإسلام ، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. والمحور الثاني: مقارنة بين حقوق الإنسان في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان،وبين المبادىء التي جاء بها الإسلام في هذه الصدد.والمحور الثالث: يتناول الفروق الرئيسية بين الإسلام والنظام العالمي لحقوق الإنسان،وأسباب ذلك الإختلاف وتلك الفروق وفي المحور الاخير عولجت القضايا المتعلقة بالمرأة وما اتهم به الاسلام من أنه قلل من شأن المرأة وانتقص من حقوقها.
المحور الأول
الخلفية التاريخية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان. و حقوق الإنسان في الإسلام
حقوق الإنسان في الحضارة الغربية: إنَّ مفهوم حقوق الإنسان ،والذي تبلور فيما يعرف بالاعلان العالمي لحقوق الإنسان، و ظهر في العاشر من د يسمبر عام 1948م،قد تطور في الفكر الإنساني على مدى قرون عديدة ،ونما من خلال صراع طويل داخل الجماعات الغربية،وبين طبقاتها المتعارضة المصالح والأهداف، وفئاتها المختلفة المنطلقات،وكان نتيجة لمحاولات عدة جرت لصياغة بعض المبادئ التي تحمي حرية الإنسان وتحفظ عليه كرامته ،ولعل أقدم تلك المحاولات ما يعرف: بوثيقة أو إعلان حقوق الإنسان والمواطن ،وقد اقرت الجمعية الفرنسية هذه الوثيقة في 26 أغسطس 1789م،أثناء الثورة الفرنسية،والتي نصت المادتان الأوليان منها على أن جميع الناس أحرار ومتساوون في الحقوق التي تشمل: الحرية،وحق التملك،والأمان،ورفض الظلم.وتختص مواد الاعلان الخمس عشر الأخرى بكل من أنظمة الحكومة وحقوق المواطنين وواجباتهم.ورغم أن تلك المبادئ كانت ثمرة من ثمرات الثورة الفرنسية المشهورة،فإن تلك المبادىء، ظلت مجرد شعارات ثورية لم تنزل إلى أرض الواقع.واحتاج الناس إلى بذل جهد كبير والىصراع طويل بين الجماعات الإنسانية، وإلى وقت طويل ،حتى تصبح تلك الشعارات مبادئ يقرها المجتمع الدولي ويعترف بها ويسعى لتطبيقها. (كانت المصادر الأساسية لفكرة هذه الوثيقة هي:نظريات المفكر الفرنسي جان جاك روسو ( 1712/1778م)،واعلان حقوق الإستقلال الأمريكي الصدر في 4 يوليو سنة 1776م،ذلك الذي كتبه "توماس جيفرسون ( 1743-1826م).)
ولعل أول محاولة لإثبات مثل هذه الحقوق والسعي الى اكتساب شرعية دولية لها، بدأت حينما طالبت بريطانيا عام 1815م،بعقد معاهدة دولية لضمان توفير الحماية القانونية للأفراد. .وخلال العقود اللاحقة عقدت العديد من المعاهدات لحماية حقوق الأفراد من أن تنتهك أو يعتدى عليها.
ثم ظهرت قضية حقوق الإنسان على المستوى العالمي فدخلت مضامينها في ميثاق "عصبة الأمم" عام 1920م بعد الحرب العالمية الأولى،ثم أفردت دولياً بوثيقة خاصة هي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ،الذي أقرته الأمم المتحدة في 10 ديسمبر عام 1948م.
حقوق الإنسان في الإسلام: أما في الإسلام فإنَّ حقوق الإنسان شأنها شأن التشريعات التي تنظم حياة الناس ومسار حياتهم ،لم تأت منحة من أحد ،أو وضعت نتيجة لصراع الإنسان مع الآخر ،بل هي تشريع إلهي جاء من عند الله تعالى، وتضمنتها مبادىء الشريعة الإسلامية ،ووضعت أسسها وقواعدها ،وجعلت لها من الضمانات ما يحميها ويقوم عليها،طالب بها صاحبها أم لم يطالب، سعى إليها أم لم يسع.
وتأسيساً على هذه القاعدة ،فإنَّ حقوق الإنسان في المنظور الإسلامي ،هي حقوق الله يترتب على الوفاء بها وأدائها على خير وجه،خلوص العبودية لله،والطاعة له سبحانه،والقيام بتكاليف شرعه الحنيف،وبذلك يرتقي المفهوم الإسلامي لحقوق الإنسان،إلى مقام العبادة الرفيع،باعتبار أن هذه الحقوق ،في الشريعة الإسلامية، واجبات دينية،ومن الفروض الشرعية.وهذه درجة من التكليف تطوق الإنسان بمسؤولية كبرى،أمام ربه سبحانه وتعالى،ثم أمام نفسه ومجتمعه والإنسانية جمعاء.( حقوق الإنسان في التعاليم الإسلامية "عبد العزيز التزيجري" ص:15)
ولعل هذا هو السبب في أنَّ هذه الحقوق، أو ما تعارف عليه الناس اليوم بحقوق الإنسان ،لم تفرد لها الشريعة الإسلامية تقنيناً خاصاً،لأنها في جملتها جزء من العمل العبادي الذي يطالب به المسلم ،كما يطالب بالصلاة والصيام والزكاة والحج،والتفريط فيها وتضييعها من المحرمات ،كحرمة الربا والسرقة والقتل. ولعل كل ملم بشيءٍ من الشريعة الإسلامية يعرف أنَّ للشريعة الإسلامية مقاصد يتأتى من خلالها قيام مصالح الناس في الدين والدنيا،وحماية تلك المصالح من أن يعتدى عليها أو تنتهك. وقد روعي في كل حكم من أحكام الشريعة، إما حفظ شيء من الضروريات الخمس وهي:( الدين،والنفس،والعقل،والنسل،والمال)،والتي تعد أسس العمران المرعية في كل ملة.وإما حفظ شيء من الحاجيات كأنواع المعاملات، والتي قصد منها الى رفع الضيق المؤدي الى الحرج والمشقة عن حياة الناس ،وإما حفظ شيء من التحسينات التي ترجع إلى مكارم الأخلاق والعادات الحسنة،وإما تكميل نوع من هذه الأنواع بما يعين على تحققه.
وحفظ هذه الأنواع الثلاثة( ما يعرف في الإصطلاح الإسلامي: الضروريات، الحاجيات، والتحسينيات) ،يعني اقامتها وتحقيقها من ناحية،و حمايتها من أي اعتداء عليها من ناحية أخرى،وهذه الحماية حق لكل فرد ،فهي إذن تمثل حقوقا للإنسان بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى.
وهذه المقاصد هي الإطار العام لحقوق الإنسان، في الإعتقاد ،وفي حفظه للحياة وما تتحقق به من وسائل ،وحفظ العقل وما يتعلق به من تعليم وحرية تفكير وتعبير،وفي حفظ النسب وما يقتضيه من حق إقامة الأسرة .. وفي حفظ المال وما يترتب عنه من حقوق إقتصادية وإجتماعية،إلى جانب ما يقتضيه تحقيق المقاصد الحاجية والتحسينية من حقوق الإنسان.( الحريات العامة في الدولة الإسلامية " راشد الغنوشي" ص:39.).
وهكذا نجد أنًّ الإسلام قد سبق بمبادئه وتشريعاته ،كل القوانين الوضعية والمواثيق العالمية فأحق للإنسان حقوقه كما سنرى،وأقر للآدميين حياة كريمة لا ظلم فيها و لا إجحاف.وأصبحت تلك الحقوق جزءاً من منظومة القيم الإسلامية وتعاليم الشريعة الإسلامية ،في حين أنَّ المجتمعات البشرية التي لم تصلها رسالة الإسلام، انتظرت أربعة عشر قرناً،لتقر تلك الحقوق فيها ،وتلتزم بتطبيقها.
المحور الثاني
مقارنة بين حقوق الإنسان في الإعلان العالمي ،وبين المبادىء التي جاء بها الإسلام2 /3
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان:
إنَّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة وأقرته في العاشر من ديسمبر عام 1948م،يضع المبادىء الرئيسية للحقوق المهنية،والإقتصادية ،والسياسية ،والإجتماعية،والحريات الفردية.وقد قدم له بديباجة تضمنت الدوافع والأهداف من وراء هذا الإعلان.ثم جاء الإعلان مشتملاً على ثلاثين مادة من أهمها النص على أنه:" يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق."،وأنَّ " لكل إنسان حق التمتع بكل الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان ،دون تمييز بسبب العنصر أو اللون ،أو الجنس،أو اللغة،أو الدين،أو الرأي السياسي،أو الأصل الوطني،أو الاجتماعي،أو الثروة،أو الميلاد،او أي وضع آخر ودون أيَّ تفرقة بين الرجال والنساء"،كما جاء في الإعلان أيضاً،النص على أنَّه:"لكل فرد الحق في الحياة والحرية،وسلامة شخصه"،وأنَّه:" لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص"، وأنه :" لا يعرض أي إنسان للتعذيب ،و لا للعقوبات أو المعاملات القاسية،أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة"،وأنَّ:" الناس سواسية أمام القانون، ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة دون تفرقة"،و أنَّ :" لكل فرد حرية التنقل واختيار محل اقامته داخل حدود كل دولة،،وأنَّ لكل فرد الحق في أنْ يلجأ الى بلاد أخرى،أو يحاول الإلتجاء إليها هرباً من الإضطهاد"،وأنَّ لكل فرد حق التمتع بجنسية ما، و لا يجوز حرمان شخص من جنسيته تعسفاً أو إنكار حقه في تغييرها.وأنَّ :" لكل شخص حق التملك بمفرده أو بالاشتراك مع غيره"،و ان :" لكل شخص الحق في حرية التفكير ،والضمير والدين، وحرية الرأي والتعبير ،كما نص الاعلان على حق الانسان في الزواج وتكوين أسرة،وحق العمل،وأنْ يكفل له مستوى لائقاً من العيش ،والضمان الاجتماعي ،والمشاركة في الحياة العامة، وأنْ يكفل له حق التعليم،الى غير ذلك من الحقوق والتفاصيل المتعلقة بها.الى غير ذلك من الحقوق التي تضمنتها الوثيقة او الإعلان العالمي لحقوق الانسان.وبمرور الزمن الحق بذلك الإعلان حقوق اخرى تتعلق بالمرأة والطفل وغيرها من الاوجه التي استدركها الوثيقة الاصلية .
حقوق الإنسان في الإسلام.
إن حقوق الإنسان في الإسلام تنطلق من تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية ،وتستند الى دعامتين أو أصلين هما:1- وحدة الأصل الذي ينتمي اليه الناس جميعاً. 2- كرامة الإنسان وتميزه على كثير من الكائنات،واختصاصه بميزات لم تتوفر لغيره من الكائنات.
وحدة الأصل الذي ينتمي إليه الناس جميعاً. إنَّ وحدة الخلق الإنساني حقيقة مقررة في ابتداء الخلق، سعت الأديان السماوية كلها، وخاصة الإسلام، إلى احيائها في نفوس الناس وازالة كل ما يؤدي إلى اضعافها من حقد وخصام وافساد بين الناس. فالناس جميعاً، في المنظور الإسلامي،يعودون إلى أصل واحد، وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة ،قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) ،وبين أنَّ الناس جميعاً شركاء في الإنسانية،و أنَّ معيار التفاضل بين الناس هو مقدار ما يحمل كل منهم من قيم إنسانية،أو يتحلى به من تقوى كما عبر القرآن الكريم،(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) ،ويؤكد الرسول  هذه الحقيقة فيقول: "أيها الناس، إنَّ ربكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلاَّ بالتقوى..".
أما الأساس الثاني: الكرامة الإنسانية ، فالإنسان،وفقاً للتصور الإسلامي، بصرف النظر عن دينه وأصله ،كائن مكرم عند الله تعالى، وهو مفضل ومميز على كثير من المخلوقات. (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء:70)، (لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين:4) ومن الأمثلة العملية على هذا التكريم ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:"مر بنا جنازة فقام لها النبي:فقمنا معه فقلنا:يا رسول الله إنَّها جنازة يهودي فقال:إذا رأيتم الجنازة فقوموا"، وفي حديث آخر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد قاعدين بالقادسية،فمروا عليهما بجنازة فقاما.فقيل لهما :إنها من أهل الأرض=أي من أهل الذمة=فقالا:إنَّ النبي مرت به جنازة فقام ،فقيل له:إنَّها جنازة يهودي.فقال:أليست نفساً".وسخر الله للإنسان،جنس الإنسان، ما في الأرض والسماء: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) (لقمان:20) . واستخلفه في الأرض: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) (الأنعام:165) وعلى الانسان أن يتحمل مسئولية عمله ثواباً وعقاباً،والتي عبر عنها القرآن بالأمانة،كما في قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب:72).
والخطاب في هذه الآيات جميعها، موجه للإنسان من حيث كونه إنساناً، دونما اعتبار للونه، أوعرقه، أولغته، أوديانته، لا فرق في ذلك بين مسلم وغير مسلم.
انطلاقا من هذين الأصلين ،وتلك النظرة للإنسان،تضمنت الشريعة الإسلامية وتعاليم القرآن جملة من الحقوق والضمانات التي تحفظ على الإنسان حياته وتصون كرامته ،ومن تلك الحقوق والضمانات ما يلي:
حق الحياة :
يترتب على تكريم الإنسان حفظ حياته من الإعتداء من طرفه أو من طرف غيره ،ووفقاً لذلك أكد الإسلام أنَّ حياة الإنسان مقدسة لا يجوز الاعتداء عليها الا بحق،قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) (النساء:29) ويقول أيضاً: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً) (الإسراء:33) .وقال تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) (المائدة:32) ،ويقول الرسول  "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق". وقال عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع : "فإنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا."، ومنع النبي كل عمل ينتقص من حق الإنسان في الحياة، والعيش بطمأنينة وأمان، سواء أكان هذا العمل تخويفاً أو إهانة أو ضرباً أو اعتقالاً، أو تطاولاً، أو طعناً في العرض،وجَعَلَ حياة الإنسان المادية والأدبية موضع الرعاية والإحترام.
وتقرر السنة النبوية المطهرة أنَّ تعريض مسلم لأي فزعٍ جريمة. وحق الحياة الآمنة من المخاوف والمظالم لا بد من إثباته في حياة الجماعة، وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: "لا يحل لمسلم أن يروّع مسلماً".وفي رواية: "لا تروعوا المسلم فإنَّ روعة المسلم ظلم عظيم".
وعندما يكون التخويف مقروناً بالسلاح، فإنَّ الإثم يتضاعف: "لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنَّه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار".
وقد ضرب الرسول أروع الأمثلة كي يغرس في النفوس تقديس حق الحياة عندما قال مخاطباً الكعبة – البيت الحرام -: "ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك،والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمةً منك، دمه وماله،وأن نظنَّ به إلاَّ خيراً ".
ويمتد هذا الحفظ ليتضمن وقاية النفس من كل ما يعرضها للخطر كالجوع ،والمرض والتشرد ، أو المهانة والسخرية والإستعباد.،بل إن الإسلام عمل على حماية كيان الإنسان المادي والمعنوي ، في حياته ومماته، وأوجب حسن التعامل مع جثمانه: "إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه".،كما أوجب ستر سوءآت الميت وعيوبه الشخصية، لأنَّ كرامة الإنسان تلازمه حياً وميتاً فقال: "لا تسبوا الأموات، فإنَّهم قد أفضوا إلى ما قدموا".
حق الفرد في حماية خصوصياته وحماية مسكنه :نتيجة لذلك التكريم، صان الإسلام الحياة الخاصة للإنسان من أنْ تنتهك ،وحمى عرض الإنسان وسمعته من أنْ يعتدى عليها، فنهى عن سوء الظن بالناس، ومنع التجسس عليهم، كما حرم تتبع عورات الناس ومحاولة النيل منهم،يقول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (الحجرات:12) ويقول أيضاً: (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) (الحجرات:11)، وورد في حديث أبي هريرة عن الرسول أنه قال: ( إيَّاكم والظن فإنَّ الظن أكذب الحديث،و لا تحسسوا،و لا تجسسوا،و لا تناجشوا، و لا تحاسدوا و لا تباغضوا و لا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً). ،وفي حديث آخر يقول النبي : " يا معشر من آمن بلسانه ،ولم يدخل الإيمان إلى قلبه،لا تغتابوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم،فانه من تتبع عوراتهم ،تتبع الله عورته ،ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في بيته".
وبيت الإنسان هو سكنه فلا يدخل بغير اذنه كما وردت بذلك الآيات الكريمة وأحاديث الرسول عليه السلام. فقد شرع الاستئذان لدخول البيوت،قال تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النور:27) وعن أبي ذر  قال:قال رسول الله : "أيًّما رجل كشف ستراً، فأدخل بصره قبل أنْ يؤذن له، فقد أتى حداً لا يحل له أن يأتيه، ولو أنَّ رجلاً فقأ عينه لهُدرت".
حق الحرية:
الحرية حق أساسي للإنسان لا يجوز الإخلال به، أو التعدي عليه،والقرآن يقرر أنَّ الحرية من الفطر التي فطر الله الإنسان عليها دون سائر الكائنات،يقول تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (الحج:18) وفي الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة عن رسول الله  قال قال الله تعالى::"ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة،: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره. "
فالناس في الإسلام أحرار لا يجوز الاعتداء على حرياتهم أفراداً أو شعوباً،وحرية البشر التي هي حق طبيعي، لا يحق تقييده الا بنص صريح من القرآن الكريم أو السُنَّة النبوية،وقد أكد هذه الحرية عمر في قولته الشهيرة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، والتي كان لها صدى واضح في أول مادة من مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ويتضمن حق الحرية:
- حرية العقيدة: تمثل حرية العقيدة قاعدة كبرى من قواعد الإسلام، وركناً هاماً من أركان سماحته ،اذ لا يجيز الإسلام إكراه أحد على الدخول فيه،واعتناقه،ولم يحدث في تاريخ الإسلام أن أجبر فرد أو جماعة على الدخول في الإسلام،كما لا يسمح لأحد أن يكره شخص على الخروج من معتقده ،بل كان شأن المسلمين دوماً،الدعوة إلى الله وبيان الحق للناس ،مهتدين بقول الحق تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:256) ،واضعين نصب أعينهم الحقيقة التي عبر عنها القرآن الكريم : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس:99) ، فالإيمان مبني على الإختيار ،وتحمل الأمانة: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف:29) ،ولو دخل أحد الإسلام مكرها ما تقبل منه.
- حرية العبادة: قد ضمن الإسلام حرية العبادة لرعاياه من غير المسلمين: ويمكن الإشارة إلى ضمان عمر  لأهل ايلياء:" أنه لاتسكن كنائسهم و لا تهدم،ولا ينتقض منها و لا من حيزها و لا من صليبهم و لا شيء من أموالهم،و لا يكرهون على دينهم ،و لا يضار أحد منهم"،كما يمكن الإشارة الى امتناع عمر عن الصلاة في كنيسة القيامة وصلاته خارجها، واعتذاره عن ذلك بأنه إنْ يفعل يتبعه المسلمون على تعاقب القرون،إذ يرون عمله سنُّة مستحبة ،فإذا فعلوا أخرجوا النصارى من كنيستهم وخالفوا عهد الأمان. .
وقد كانت أرض الإسلام أرض الحرية الدينية التي فاء الى ظلها أبناء كل الطوائف المضطهدة من اليهود والنصارى ،ووجدوا من المسلمين الحماية لهم .ووجود الأقليات المسيحية واليهودية وغيرهم من اصحاب المعتقدات ،خلال القرون في العالم الإسلامي، خير شاهد على تسامح المسلمين .
- حرية التفكير والإعتقاد والتعبير: حفظ الإسلام الحق لكل شخص في أن يفكر ويعتقد ويعبر عن فكره ومعتقده،دون تدخل أومصادرة ما دام ملتزماً بحدود الشرع،وبما لا يمثل تعدياً على حق الآخرين.فلا يجوز اذاعة الباطل ،و لا نشر ما فيه ترويج للفاحشة أو تخذيل للأمة.كما لا يجوز لأحد أن يسخر من معتقدات غيره،أو يستعدي المجتمع عليه. وفي ظل الدولة الإسلامية ،سيكون لغير المسلمين-كما يقول المودودي – في الدولة الإسلامية ،من حرية الخطابة والكتابة والرأي والتفكير والإجتماع ،ما هو للمسلمين سواء بسواء،وسيكون عليهم من القيود والإلتزامات في هذا الباب ما على المسلمين أنفسهم... سيكون لهم الحق في انتقاد الدين الإسلامي مثل ما للمسلمين الحق في انتقاد مذاهبهم ونحلهم. ويجب على المسلمين أن يلتزموا حدود القانون في نقدهم هذا كوجوب ذلك على غير المسلمين. وسيكون لهم الحرية كاملة في مدح نحلهم . وان ارتد - أي المسلم-فسيقع وبال ارتداده على نفسه،و لا يؤخذ به غير المسلم،ولن يكره غير المسلمين في الدولة الإسلامية على عقيدة أو عمل يخالف ضميرهم ،وسيكون لهم أن يأتوا كل ما يوافق ضميرهم من أعمال ما دام لا يصطدم بقانون الدولة" ."نظرية الإسلام وهديه في السياسة،والقانون والدستور، المودودي ص:361."
- حرية الرأي و الحرية السياسية :تمثل حرية الرأي التي عبر عنها القرآن بالشورى،أصلاً من أصول الإسلام،وعدها الإسلام سمة من السمات التي يتميز بها المجتمع المسلم، ، إذ وصف الله المؤمنين بأنهم : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الشورى:38)، ورغم أنًّ الشورى مبدأ من أهم المبادئ الدستورية الإسلامية ،فإنًّها لا تقتصر على الجانب السياسي كما يتبادر الى الذهن ،بل كل أمر وشأن من شؤون الحياة في المجتمع يخضع لمبدأ الشورى ،ومن ثم ألزم بها رسوله  : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159)، ومارسها الرسول  في كثير من المواقف والأحداث، كما يتضح من استشارة الرسول  لأصحابه ،وطلبه منهم التعبير عن آرائهم، فيقول أبو هريرة :" ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من النبي . ومن تأكيد الرسول على ضرورة استقلال الإنسان برأيه والاعتزاز به،قوله:" :" لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنَّا،وإن ظلموا ظلمنا ، ولكن وطنوا أنفسكم، إنْ أحسن الناس أنْ تحسنوا، وإنْ أساؤا فلا تظلموا ".
كما حرص الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، على كفالة حرية الرأي لرعيتهم، واستمروا على سياسة الرسول  في هذا الشأن،فقام نظام الحكم لديهم على الشورى : فأبو بكر يخاطب الناس قائلا: " أما بعد أيها الناس،فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم ،فإنْ أحسنت فأعينوني،وإنْ أسأت فقوموني...،أطيعوني ما أطعت الله ورسوله،فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم".
ووفق هذا فإنَّ مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجعل حرية الرأي وابدائه ليس حقاً فقط بل هو واجب،يقول تعالى :" (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110)،ويقول : "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإنْ لم يستطع فبلسانه، فإنْ لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".وفي الحديث القدسي أنِّ النبي قال: :"يا أيها الناس،إنَّ الله تعالى يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر،قبل أنْ تدعوني فلا أجيبكم ،وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم".
حق المساواة والعدل: قرر الإسلام مبدأ العدل والمساواة بين أتباعه وبين غيرهم من أصحاب الديانات السماوية الأخرى في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. وحقيقة فإنَّ مبدأ العدل بين الناس يعد من أبرز مبادئ الإسلام ومقاصده، وخطاب الإسلام يتوجه الى الناس جميعاً دون تمييز بينهم بسبب الدين أو اللغة أو الأصل أو الحرفة أو الطبقة الإجتماعية.فأمر الله سبحانه وتعالى بالعدل بين الناس فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء:58). وقد جعل الرسول  الإمام العادل من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، فقال :"سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاَّ ظله:الإمام العادل ،وشاب نشأ في عبادة ربه، ،ورجل قلبه معلق في المساجد،ورجلان تحابا في الله،اجتمعا عليه وافترقا عليه، ،ورجل طلبته إمرأة ذات منصب وجمال فقال: إنَّي أخاف الله،ورجل تصدق حتى أخفى، لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله ففاضت عيناه "..وحرص الإسلام على تأكيد أنَّ العداوة بين الناس لا ينبغي أنْ تحملهم على الظلم، وعدم إقامة العدل: يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8) . وأنَّ الله سبحانه وتعالى ينصر العدل أيَّاً كان مصدره،ويؤكد ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول:"فإنَّ الناس لم يتنازعوا في أنَّ عاقبة الظلم وخيمة،وعاقبة العدل كريمة،ولهذا يروى إن الله ينصر الدولة العادلة،وإن كانت كافرة،و لا ينصر الدولة الظالمة وإنْ كانت مؤمنة."
وتاريخ المسلمين يؤكد التزامهم بهذا المبدأ . ويمكن الإشارة هنا إلى قصة الإمام علي بن أبي طالب، مع خصمه الكتابي فقد فقد عليٌّ درعه فوجدها عند رجل من أهل الكتاب،فتخاصما إلى قاضيه شريح،الذي طالب علياً رئيس الدولة حينها، بالبيِّنة،ولما لم يستطع علي أن يقدم بيِنَّة ، حكم القاضي للكتابي بالدرع ،فلم يكن من الكتابي إلاَّ أنْ أسلم حينما وجد هذا النموذج العالي من العدل، فكافأه عليُّ بأن ترك له الدرع ووهبها له.
وفي نفس هذا السياق تأتي قصة اعتداء ابن عمرو بن العاص- والي مصر- على الغلام المصري الذي فاز عليه بسباق الخيل، فضربه ابن عمرو قائلاً له:خذها وأنا ابن الأكرمين.فرفع المصري أمر ه إلى الخليفة عمر الذي طلب من عمرو بأن يحضر ومعه ابنه،وأمر المصري أن يقتص لنفسه من ابن عمرو،ولما أخذ المصري حقه من ابن عمرو،قال له عمر: اجعلها(الدرة) على صلعة عمرو، فو الله ما ضربك إلاَّ بفضل سلطان أبيه،فقال يا أمير المؤمنين لقد ضربت من ضربني،فقال عمر : أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه،ثم قال قولته المشهورة مخاطبا عمرو بن العاص :متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً. ثم قال للمصري:انصرف راشداً فإن رابك ريب فاكتب إليَّ.
كما قرر الإسلام مبدأ المساواة كأساس متين تقوم عليه المعاملة بين الناس جميعاً داخل المجتمع المسلم ووفقاً لتعاليم الإسلام،فالناس جميعاً خلقوا من أصل واحد، فالأب آدم ،والأم حواءُ ،يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) .وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله :"لينتهين أقوام يفتخرون بفحم من فحم جهنًم أو يكونون شراً عند الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها،كلكم من آدم وآدم من تراب،إنَّ الله أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالأباء،الناس مؤمن تقيٌّ، وفاجر شقيٌّ." .
والله لاينظر إلى صور الناس و لا إلى ألوانهم ولا إلى أموالهم ،ولكن ينظر إلى قلوبهم وما تنطوي عليه من خير أو شر،وما يصدر عنهم من أعمال طيبة خالصة،أو خبيثة شريرة،وقد ورد عن أبي هريرة أن رسول الله  قال:" إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم،ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم:.
ووفقاً لهذه التعاليم القرآنية ،والقيم النبوية، سادت روح المساواة في المجتمعات الإسلامية، وأصبحت حقيقة مستقرة بين الناس،تؤكدها مواقف الحكام،وتصرفات العامة، وتسندها أحكام الإسلام من عبادات ومعاملات تبرز من خلالها، المساواة بين الناس بشكل واضح.
حق العدالة:
ضمن الإسلام للناس المساواة بينهم أمام القانون،قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (النساء:135) ،ويقول تعالى: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8) ،ويقول الرسول  :" إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه،واذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد،وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"،ويكتب عمر لعامله عبد الله بن قيس فيقول:" آسي بين الناس في وجهك،وعدلك، ومجلسك، ،حتى لا يطمع شريف في حيفك،و لا ييأس ضعيف من عدلك".
ومن حق كل فرد،كما يقرر الإسلام، أن يتحاكم إلى الشريعة وأن يحاكم إليها دون سواها: قال تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (النساء:59) (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (المائدة:49)
ومن حق الفرد أن يدفع عن نفسه ما يلحقه من ظلم، قال تعالى: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً) (النساء:148)
وتقرر السنة النبوية المطهرة أن من واجب الفرد أن يدفع الظلم عن غيره بما يملك، وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: "ولينصر الرجل أخاه ظالماً أو مظلوماً، إن كان ظالماً فلينهه فإنه له نصر، وإن كان مظلوماً فلينصره".
كما تقرر أن من حق الفرد أن يلجأ إلى سلطة شرعية تحميه وتنصفه، وتدفع عنه ما لحقه من ضرر أو ظلم، وعلى الحاكم المسلم أن يقيم هذه السلطة ويوفر لها الضمانات الكفيلة بحيادتها واستقلالها: "إنما الإمام جنة، يقاتل من ورائه، ويتقى به،فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل كان له بذلك أجر،وإن يأمر بغيره كان عليه منه.".
وقررت السنة أيضاً أن من حق الفرد، ومن واجبه في الوقت نفسه أن يدافع عن حق أي فرد آخر، وعن حق الجماعة حسبة وتطوعاً: "ألا أخبركم بخير الشهداء ؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها".
كما بينت أنه لا يجوز مصادرة حق الفرد في الدفاع عن نفسه تحت أي مسوغ: "إنّ لصاحب الحق مقالاً".وبين الرسول  للقضاة المنهج الذي ينبغي اتباعه توخيا للعدل وعدم الحيف في الحكم،فعن عليt قال:" بعثني رسول الله  إلى اليمن قاضياً فقلت: يا رسول الله ترسلني وأنا حديث السن لا علم لي بالقضاء،فقال: إن ألله سيهدي قلبك ويثبت لسانك،فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول،فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء..قال: فما زلت قاضياً أو ما شككت في قضاءٍ بعده." ".
كما أنه ليس لأحد أن يلزم مسلماً بأن يطيع أمراً يخالف الشريعة، وعلى الفرد المسلم أن يقول (لا) في وجه من يأمره بمعصية، أياً كان الآمر: " على المرء السمع والطاعة،فيما أحب أو كره،إلاَّ أن يؤمر بمعصية،فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".ومن حق الفرد على الجماعة أن تحمي رفضه تضامناً مع الحق: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه.."
حق الفرد في محاكمة عادلة:
والعدل يستلزم ضمان حق الإنسان في محاكمة عادلة حينما يتهم ،وقد ضمنت الشريعة الإسلامية هذا الحق وذلك بتقريرها ما يلي:
1. البراءة هي الأصل." كل أمتي معافى الا المجاهرين"،وهذا الأصل مستصحب ومستمر مع اتهام الشخص ما لم تثبت ادانته أمام محكمة عادلة .
2. لا يحكم بتجريم شخص أومعاقبته إلا بعد ثبوت ارتكابه للجريمة. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6) .
3. لا يجوز تجاوز العقوبة المقررة شرعا ًللجريمة. لقوله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة:229).
4. لا يؤخذ إنسان بجريرة غيره. (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الزمر:7) ،( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور:21)
حق الحماية من التعذيب: لا يجوز تعذيب من ارتكب جرماً فضلاً عن المتهم، فقد روى هشام بن حكيم أنه مر بالشام على أناس من الأقباط وقد أقيموا في الشمس ،وصب على رؤوسهم الزيت،فقال : ما هذا،قالوا يعذبون في الخراج ،فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله  يقول :" إنَّ الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا" .
كما لا يجوز حمل الشخص على الإعتراف بجريمة لم يرتكبها.كل اقرار انتزع بالقوة فلا قيمة له ،و كل ما ينتزع بالاكراه فهو باطل: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ،وما استكرهوا عليه".
حق اللجوء: من حق كل مضطهد او مظلوم أن يلجأ الى حيث يجد الأمن ،وعلى المسلمين واجب توفير الحماية والأمن لمن لجأ إليهم. يقول تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (التوبة:6)
حق المشاركة في الحياة العامة:لكل فرد في الأمة أن يلم بأحوال أمته،وأن يساهم في مسيرتها وفقاً لطاقته ومقدراته ومواهبه تحقيقاً لمبدأ الشورى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الشورى:38) ،وتوافقاً مع هدي الرسول الداعي إلى الإهتمام بأمر المسلمين.ولكل فرد الحق في أن يشارك في حياة الجماعة دينياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً، ويصطنع من الوسائل المشروعة ما يحقق ذلك. كما له الحق في بذل النصح، بل من واجبه أن يقوم بذلك إعمالاً لمبدأ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر على حسب وسعه وطاقته.
الحقوق الإقتصادية: الطبيعة بثرواتها جميعاً ملك الله تعالى: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (المائدة:120) ، وهي عطاء منه للبشر ،منحهم حق الإنتفاع بها: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الجاثية:13) ومن ثم فإنَّ لكل فرد الحق في الإنتفاع بالثروات الطبيعية في بلاده. (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك:15) ،ولا يجوز لأحد أن يحرم آخر أو يعتدي على حقه في الإنتفاع بما في الطبيعة من مصادر الرزق العام . كما لا يجوز إفساد تلك الثروات أو تدميرها. (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (الشعراء:183) .
حق العمل
لكل انسان الحق في أن يعمل وينتج ما يوفر له الكفاية من الرزق. (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ) (الأعراف:10) ،ويقول تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة:10) ،ويقول الرسول "ما أكل أحد طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإنَّ نبي الله داود كان يأكل من عمل يده". ودعا النبي إلى أن يمنح العامل ما هو جدير به من تكريم المجتمع كله له: "إن الله يحب المؤمن المحترف"."
وواجب العامل إتقان عمله : يقول الرسول :" إن الله يحب اذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه". كما يجب على صاحب العمل أن يوفي العامل أجره،دون ظلم أو مماطلة،"أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه". وفي الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة عن رسول الله  قال قال الله تعالى::"ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة،: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره. ". كما يجب على الدولة أو صاحب العمل، أن توفر للعامل حياة كريمة تتناسب وجهده : فقد روى الإمام أحمد بن حنبل أن النبي قال: " ومن ولي لنا عملاً وليس له منزل فليتخذ منزلاً،أو ليست له زوجة فليتزوج،أو ليس له خادم فليتخذ خادماً،أو ليست له دابة فليتخذ دابة،ومن أصاب شيئاً سوى ذلك فهو غال" .
حق حماية الملكية:
أقر الإسلام الملكية الفردية وفقاً لضوابط شرعية معينة ،ووفقاً لأسس تحفظ للمجتمع حقه،وللفرد حريته في التصرف في ماله.ومن بين تلك الضوابط والأسس ما يلي:
لا يجوز انتزاع ملكية مشروعة،نشأت عن كسب حلال، إلاَّ للمصلحة العامة مع تعويض عادل لصاحبها. يقول تعالى:(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:188) )،ويقول الرسول:" من أخذ من الأرض شيئاً بغير حقه ،خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين". ويقول :"كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه".وقال في حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا ...".وقال عليه الصلاة والسلام: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه".
شدد الإسلام على حرمة الملكية العامة،وغلظ العقوبة علي انتهاكها،لأن ذلك عدوان على المجتمع كله،وخيانة للأمة بأسرها.فقال: " من استعملناه منكم على عمل فكتمنا منه مخيطاً فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة"،وورد في الحديث أن نفراً من الصحابة مروا على رجل يوم خيبر فقالوا : فلان شهيد،فقال رسول الله: كلا ،إنَّي رأيته في النار في بردة غلَّها، أو عباءة،ثم قال رسول الله :يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس: أنه لا يدخل الجنة الا المؤمنون،قال خرجت فناديت"ألا لا يدخل الجنة إلاَّ المؤمنون"،
وحذر الرسول  من إتلاف المال فقال: "من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله"، وقال أيضاً: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه".
حقوق الأسرة والطفل:حددت الشريعة الإسلامية جملة من الآداب والقيم ،تحكم نظام الأسرة وتحفظ تماسكها .فجعلت لكل إنسان الحق في الزواج ،وهو الطريق الشرعي لبناء الأسرة ،وانجاب الذرية واعفاف النفس، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) . وأوجبت على الدولة والمجتمع إزالة العوائق أمام الزواج ،وتيسير وسائله. وجعلت الشريعة لكل من الزوجين قبل الآخر- وعليه - حقوق وواجبات متكافئة. (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة:228) ،لكل من الزوجين على الآخر حق احترامه وتقدير مشاعره.وعلى الزوج واجب الإنفاق على زوجه وأولاده،وجعلت التراضي الأساس في عقد الزواج .وانهاءُ رباط الزوجية لا يكون إلا وفق أحكام الشريعة الإسلامية.ومن ثم لا يجبر الفتى أو الفتاة على الزواج ممن لا يرغب فيه،وقد ورد في الحديث أن فتاة جاءت الى النبي  فقالت: إنَّ أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته،قال: فجعل الأمر إليها فقالت: قد أجزت ما صنع أبي،ولكن أردت أن تعلم النساء أنْ ليس إلى الأباء من الأمر شيء.
وعلى الأبوين واجب تربية أولادهما :بدنياً وخلقياً ودينياً، واحسان التربية والتعليم والتأديب حق للطفل على والديه: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (الاسراء:24) .وتبعاً لهذا لا يجوز تشغيل الأطفال في سن باكرة ،و لا تحميلهم من الأعمال ما يرهقهم،أو يعوق نموهم،أو يحول بينهم وبين حق اللعب والتعلم.واذا عجز والدا الطفل عن الوفاء بمسؤوليتهما تجاهه ،انتقلت هذه المسؤولية الى المجتمع..
حق العلم:حث الإسلام على العلم وجعل للعلماء مكانةً عالية، وأوجب على الجاهلين أن يتعلموا وعلى العلماء أن يعلموا الجاهلين، وعلى الدولة أن تيسر الظروف المناسبة لذلك.فالتعليم حق للجميع،وطلب العلم واجب على الجميع،ذكوراً واناثاً على السواء: : "طلب العلم فريضة على كل مسلم".
والتعليم حق لغير المتعلم على المتعلم: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران:187) ،وعلى المجتمع أن يوفر لكل فرد فرصة متكافئة ليتعلم ويستنير: وفي الحديث:"من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، والله يعطي". "،ولكل فرد أن يختار ما يلائم مواهبه وقدراته.ويعد الإسلام أول نظام في التاريخ يحعل التعليم إلزامياً وفريضة على الجميع،وقد حقق المسلمون هذا في الواقع وفي ظل الحضارة الإسلامية،وقد شهد مؤرخو الحضارة أن قرطبة –مثلاً- أول مدينة في التاريخ حققت القضاء على الأمية.
حق حرية الإرتحال والإقامة والمأوى،:
فالإنسان له الحق في أن يأوي إلى أيِّ مكان،وأن يسكن في أيِّ جهة،وأن ينتقل في الأرض دون حجر عليه او وضع عقبات في طريقه، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك:15) ،(أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) (النساء:97) ، و لا يجوز نفي أي فرد أو ابعاده أو سجنه إلا في حالة إذا ما اعتدى على حق غيره،ورأى القانون أن يعاقبه بالطرد أو بالحبس،ويكون ذلك في حالة الاعتداء على الغير والاخلال بالأمن،وارهاب الأبرياء.: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ) (البقرة:217).
حق الضمان الإجتماعي: تتمثل الأسس التي يقوم عليها النظام الإجتماعي الإسلامي في: الوحدة الإنسانية،والأخوة الإيمانية،والتكافل الإجتماعي،والعدالة الإجتماعية.وتتضافر هذه الأسس في توفير الضمان الإجتماعي لأفراد المجتمع جميعا سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.
الوحدة الإنسانية :إنَّ وحدة الخلق الإنساني، ووحدة الأصل الذي ينتمي إليه الناس جميعاَ، حقيقة مقررة في ابتداء الخلق، سعت الأديان السماويةكلها، وخاصة الإسلام، إلى إحيائها في نفوس الناس، وإزالة كل ما يؤدي إلى إضعافها من حقد وخصام وإفساد بين الناس.ويؤكد ذلك ما يلي:
1. الناس جميعاً، في المنظور الإسلامي،يعودون الى أصل واحد، وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) .
2. إنَّ معيار التفاضل بين الناس هو مقدار ما يحمل كل منهم من قيم إنسانية،أو يتحلى به من تقوى كما عبر القرآن الكريم،(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) ،وبين الرسول r هذه الحقيقة بقوله: "أيها الناس إنَّ ربكم واحد،وإنَّ أباكم واحد،لا فضل لعربي على أعجمي،و لا لعجمي على عربي،و لا لأحمر على أسود،و لا لأسود على أحمر إلاَّ بالتقوى. "
3. الناس جميعاً شركاء في الإنسانية.والإنسان، بصرف النظر عن دينه وأصله، كائن مكرم عند الله تعالى. وهو مفضل ومميز على كثير من المخلوقات.يقول تعالى:) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء: 70) (لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين: 4)،ومن الأمثلة العملية على هذا التكريم ما رواه البخاري من إن النبي مرت به جنازة فقام فقيل له:إنَّها جنازة يهودي.فقال:"أليست نفساً".
الأساس الثاني : الأخوة الإيمانية : وهي علاقة أقوى من الوحدة الإنسانية،ولكنها لا تتناقض معها، بل تدعمها ،وتجعل منها واجباً دينياً تجب رعايته.
والأخوة الإيمانية ليست مجرد عاطفة ،ولكنها عقد بين أفراد الأمة على مستويات متراتبة ،تبدأ بالأسرة حيث أوجب الله على أفرادها التكافل في الإرث،والوصية والنفقة: (ْ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (لأنفال:75) ،ثم الجيران: (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ) (النساء:36) ،و في الحديث: " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنَّه سيورثه" وفي حديث آخر:" ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه "، ثم يأتي أهل الحي ثم المجتمع كله، عن طريق الزكاة وهي فريضة ملزمة،ثم النفقة التطوعية " في المال حق سوى الزكاة"
. وقد أحاط الإسلام الأخوة بمجموعة من التدابير الوقائية:فنهى عن السخرية والتنابز بالألقاب ،والتجسس والظن والغيبة،وغيرها من الأمور التي تفتت المجتمعات وتخلخل بنيانها،( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(الحجرات:11).كما نهى عن العصبية وتبرأ من كل من يدعو إليها،فقد قال رسول الله r:" ليس منا من دعا إلى عصبية،وليس منا من قاتل على عصبية،وليس منا من مات على عصبية".
التكافل الإجتماعي: يراد بالتكافل الإجتماعي: تضامن أبناء المجتمع الواحد ومساندة بعضهم بعضاً ،وتعاونهم فيما بينهم بحيث يكون بينهم تآزر وتضامن وتعاون.
والتكافل بهذا المعنى من الركائز الأساسية للمجتمع الإسلامي،وقد عبرت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية عن أهمية هذا التكافل ودوره في ترابط المجتمع ،فقال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) المائدة:2.
وقد اهتمت الدراسات الفقهية بالتكافل بين افراد المجتمع،وصرح الفقهاء بوجوب التكافل ،وأكدوا حق الدولة في حمل افراد المجتمع عليه،فيقول ابن حزم:"وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد، أن يقوموا بفقرائهم،ويجبرهم السلطان على ذلك،إنْ لم تقم الزكوات بهم،و لا في سائر أموال المسلمين بهم.فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه،ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك،وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة،ومن كان على فضلة ورأى أخاه جائعاً عرياناً فلم يغثه ،فما رحمه بلا شك.بل يفرض ابن حزم على الجائع أن يأخذ ما يسد حاجته ولو مع استعمال القوة. (المحلى ( ابن حزم ) ج 7 ص:224،254.)
وقد رتب الإسلام على هذا التكافل حقوقاً مادية ومعنوية.وتتمثل الحقوق المادية فيما أوجبه من حقوق مالية لأفراد المجتمع المحتاجين: كالزكاة ،أو ما حبذه وحث عليه من الصدقات والكفارات والنذور والنفقات التطوعية وغير ذلك من الحقوق المالية..وقد اتخذ التكافل صوراً عدة تمثل بعضها في : كفالة اليتيم،ورعاية الجار،والفقير والمسكين ،والتكافل في مجال العمل،وغير ذلك من مجالات التكافل بين الناس.
العدالة الإجتماعية: يراد بالعدالة الإجتماعية:" تمكين كل ذي قوة من أن يعمل بمقدار طاقته،بحيث تهيأ الفرص المناسبة لكي تظهر كل القوى،وتوضع كل قوة في مرتبتها،وأن توجد الكفالة للعاجزين عن العمل لكي يعيشوا ،وينالوا حظهم من الحياة".
وتستلزم العدالة الإجتماعية المساواة بين أفراد المجتمع من حيث الجهد والطاقة والعطاء ،ومن حيث توفير الفرص المتاحة للجميع كالتعليم والعلاج والعمل.فالمجتمع الإسلامي ليس فيه تمييز بين أفراده ،وليس فيه طبقية،يتفاوت الناس فيها ،بل من حق كل فرد أن يحصل على فرصة التعليم التي تؤهله له طاقاته وامكانياته الفردية. كذلك لكل فرد أن ينال فرصته في العمل .
ولا تتوقف العدالة الإجتماعية في الإسلام عند حدود الماديات: من تكافؤ الفرص، وتوفير متطلبات الإنسان الفردية،بل تتجاوز ذلك إلى الجوانب المعنوية.إذ الإسلام دين شامل لا يعتني بأمر دون أمر،أو بجانب دون جانب ،بل تشمل العدالة الإجتماعية جميع جوانب الحياة الإنسانية الفردية منها والجماعية.فمن العدالة الإجتماعية، أن يعطى الإنسان حق التفكير وحق البحث العلمي وحق التنقل وحق المشاركة الإجتماعية،وقبل ذلك وبعده، حقه في الحياة الإنسانية،التي تلبي حاجاته وفطرته البشرية من زواج وتناسل وغير ذلك من الحقوق.
المحور الثالث
الفروق الرئيسة بين الإسلام والإعلان العالمي لحقوق الإنسان 3/3
أولاً: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أقر كما هو معلوم في العاشر من ديسمبر 1948م،وإذا علمنا أنًّ حقوق الإنسان في الإسلام تنزل بها الوحي الإلهي،وفصلت أحكامها الشريعة الإسلامية،ندرك أنَّ هذا الإعلان جاء متأخراً عما قرره الإسلام بأكثر من أربعة عشر قرناً.
ثانياً: هناك أوجه اتفاق كثيرة وملحوظة بين المواد التي جاءت في ذلك الإعلان،وما سبق أن أشرنا اليه من ضمانات حقوقية للإنسان جاءت في الشريعة الإسلامية،بل يلاحظ أن هناك تشابها بين تلك المبادئ هنا وهناك الأمر الذي قد يوحي بأن هناك تأثيرا للإسلام في مفردات ذلك الإعلان.بل ان المراجعة المتأنية –كما يقول أحد المهتمين بحقوق الإنسان –للأسس التي قامت عليها الدعوة إلى حقوق الإنسان عبر جميع المراحل التي قطعتها،منذ القرن السابع عشر والى اليوم،يثبت لنا أن أغلب المواثيق والإعلانات والعهود الخاصة بحقوق الإنسان-وهي تكاد تصل الى مائة إعلان واتفاق وعهد دولي-أخذت مبادئها الكلية ومنطلقاتها الأساس عن الأصول الإسلامية،فلقد استفاد الغرب من عطاء الحضارة العربية الإسلامية عبر الأندلس وصقلية،وإبان حروب (الفرنجة)، التي يسميها الغرب بالحروب الصليبية،في القرنين الحادي عشر والثاني عشر.وكان من نتيجة ذلك،ظهور البوادر الأولى لما يعرف بعصر النهضة،ثم عصر التنوير في أوروبا والتي تمثلت في حركات الإصلاح الديني التي عرفتها القارة الأوربية،تلك الحركات التي لم تكن بعيدة عن التأثر ،بصورة أو بأخرى ،بالفكر الإسلامي في نزوعه نحو التحرر والانعتاق من العبودية لغير الله،وفي رفعه من مقام العقل،وفي احترامه لكرامة الإنسان.
و لا يتردد الباحثون المنصفون ،بمن فيهم الأوربيون ،في الإقرار والإعتراف بأن إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي أصدرته الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر،استند في بعض مبادئه ومنطلقاته ،الى الأصول الإسلامية،وبأنَّ قانون نابليون الفرنسي،تأثر في قواعده العامة ومبادئه الكلية وفي بعض مواده بالفقه المالكي " ( حقوق الإنسان " التويجري مصدر سابق ،ص: 11.)
ثالثاً:هناك بعض الفروق بين الإسلام وذلك الإعلان تتمثل فيما يأتي:
حقوق الإنسان في الإسلام تستند إلى العقيدة والشريعة الإسلامية،ومن ثم لها ضمانة ثابتة لا تتغير بتغير الظروف والأحوال، والمسلم مطالب بالعدل ورعاية تلك الحقوق ولو تعارضت مع مصالحه القريبة ،ولا يمنعه عداوة أو خلاف مع الآخرين من أنْ يعاملهم بالقسط والعدل.بينما حقوق الإنسان في الإعلان العالمي نتاج جو حضاري معين يقوم على مبادئ الصراع ،والمصالح التي غالباً ما تكون متعارضة .وليس هناك أساس يمكن أنْ تستند اليه غير جملة من الملابسات والأنسجة التاريخية والإجتماعية والثقافية والمصالح التي قد تكون مصالح لطبقة أو جنس أو وطن ،مهما بلغ اتساعها وإنسانيتها لا يمكن أنْ تتجاوز المركزية الغربية ،حيث غلبت المادة ،و لا سلطان لغير القوة والثروة،ومن ثم فهي عرضة للإنتهاك والخروج عليها،حتى من قبل أكثر المتحمسين لها ،إذا ما تعارضت مع مصالحهم.
حقوق الإنسان في الإسلام هي نعمة من الله تعالى للإنسان ،ومن ثم تقوم على علم تام محيط بالإنسان ،وحاجاته وعلى الرحمة به ،وعلى العدل المطلق بين الناس.بينما حقوق الإنسان وفقاً للإعلان العالمي اكتسبها الإنسان خلال صراعه الطويل ومن ثم يمكن أنْ يفقدها إذا ما انقلبت موازين القوى كما هو حادث الآن في كثير من البلاد.
إنًّ الحقوق في التصور الإسلامي واجبات مقدسة ، لاحق للإنسان أن يفرط فيها أو يتهاون في الحفاظ عليها.إنَّها ليست ملكاً للإنسان بل إنَّ مالكها هو الله سبحانه وتعالى ،وما الإنسان إلا مستخلف فيها ،ومطلوب منه التصرف في تلك الوظيفة وفقاً لإرادة المالك.فمحافظة الإنسان على حياته وتوفير مقومات بقائها وتطورها وسعادتها ليست حقاً للإنسان يستطيع أن يفرط فيه بالإنتحار مثلا أو الإهمال أو التجويع أو الإنتقام أو التجهيل،بل ذلك واجب شرعي،.وكذا رفض الإستعباد ومقاومة الطواغيت والكفاح من أجل الحرية والعدل والتقدم وسعادة البشرية،ليست حقوقاً بل واجبات يثاب على فعلها ويعاقب على تركها. وهكذا تكتسي الحقوق في التصور الإسلامي قدسية تمنع التلاعب بها من طرف حزب أوهيئة أو جماعة أو حاكم إثباتاً وإلغاءوتعديلاً طالماً أنَّ مصدرها الله تعالى. هذا ،ومن جهة أخرى يصبح الدفاع عنها ،ومدافعة العدوان عنها، واجباً شرعياً،الأمر الذي يجعل الإيمان بالله خير ضمان لحقوق الإنسان من ناحية تقريرها،ومن ناحية انفاذها وتدعيمها والدفاع عنها. بينما نجد أنَّ حقوق الإنسان قد تتحول إلى مجرد أداة يتلاعب بها،وقد تستخدم كسلاح سياسي في يد حماة النظام العالمي الجديد، ضد الرافضين هيمنتهم.وفي الوقت الذي تتحدث فيه الدول الغربية ،والولايات المتحدة بصفة خاصة ،عن حقوق الإنسان،وتدافع عن تلك الحقوق في الصين الشعبية،نراها تتجاهل حقوق الشعب الفلسطيني،وحقوق الإنسان الفلسطيني،وتغمض العين على الجرائم الصهيونية ضد الفلسطينيين،ولذلك فإنَّه من الصعب القول بأنَّ مثل تلك الدول ترعى حقوق الإنسان أو تحرص على رعايتها. والحفاظ عليها.
إنَّ التصور الإسلامي لحقوق الإنسان يعطيها قدسية تخرج بها عن سيطرة ملك أو حزب أو طائفة أو جماعة تتلاعب بها كيفما شاءت.كما يجعل هذه الحقوق أمانة في عنق كل المؤمنين،يدافعون عنها ويسعون الى إقرارها ،على اعتبار أنَّ ذلك واجب ديني يثابون على فعله ويحاسبون ويعاقبون على التفريط فيه.كما أنَّ هذا التصور يعطي تلك الحقوق بعداً انسانياً يجعلها بمنأى عن كل الفوارق الجنسية والإقليمية والإجتماعية ،إذ يربطها بالله رب الناس جميعاً ،لا رب فئة معينة أو أقوام دون آخرين.
حرص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على إهمال الدين أو بالأحرى الخصائص الثقافية للمجتمعات غير الغربية الليبرالية،ولذلك جاءت مادتان من مواد الإعلان مناقضة للإسلام ، أوعلى الأقل ، تختلف في بعض تفاصيلها عن ما قرره الإسلام.وهما المادة السادسة عشر والمادة الثامنة عشر. اذ تنص أولاهما على ما يلي: (للرجل والمرأة ،متى أدركا سن البلوغ ،حق التزوج وتأسيس أسرة دون قيد بسبب العرق او الجنسية أو الدين.وهما يتساويان في الحقوق لدى التزوج وخلال قيام الزواج ولدى انحلاله).وتقول المادة الثامنة عشرة من الاعلان:(لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين.ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده ،وحريته في إظهار دينه او معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم،بمفرده أو مع جماعة،وأمام الملأ أو على حدة.).
و لا شك أنَّ هاتين المادتين تتضمنان بعض المسائل التي تخالف التعاليم الإسلامية وتتعارض معها ومن أهمها: حرية تغيير الدين،وحق التزوج دون أي قيد من الدين وما يتفرع عن ذلك من أمور أخرى تتعلق بالنفقة،وحق الطلاق ،وتعدد الزوجات ،والميراث وهذه كلها يختلف فيها الإعلان العالمي مع قيم الإسلام وتعاليمه.
أما تغيير الدين أو ما عرف في المصطلح الإسلامي بالرِدَّة،فهي جريمة يعاقب عليها الإسلام بالقتل على رأي الجمهور،وقد اتهم الإسلام أنًّه باقراره هذه العقوبة يصادر حق الإنسان ويحجر على حرية اعتقاده.
ولبيان موقف الإسلام حول هذه القضية،لا بد من التأكيد أولاً على أنَّ القرآن الكريم في كثير من آياته قرر حرية الإنسان في أنْ يعتقد ما يشاء، وأكد أنًّ الإيمان وعدم الإيمان ابتداء يعود الى قرار الإنسان واختياره: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف:29)، (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ،لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية: 21-22) (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) (الشورى:48) ،(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(يونس:99) (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً،إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الانسان: 2-3)
أما حكم المرتد فقد ورد في كثير من الآيات القرآنية أن المرتد اذا خرج من الدنيا من غير توبة حبط عمله،وأن عليه لعنة الله تعالى،وغضبه ،وأن مآله الى النار... الى غير ذلك من الأحكام التي لا تتضمن القتل.: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:217) ،(كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ،أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (آل عمران: 86-87) ،(وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء:115) ،(مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل:106)
ورغم أنًّ بعض العلماء يسوقون بعض الآيات التي وردت في شأن المنافقين وتشير الى ضرورة حربهم وقتلهم، كأدلة على وجوب قتل المرتد ،( انظر: أحكام الردة والمرتدين ( محمود مزروعة ص:126) ،فإنَّ جمهور الفقهاء استند الى الأحاديث التي نصت صراحة على قتل المرتد مثل ما ورد عن ابن عباس عن رسول الله أنه قال:" من بدل دينه فأقتلوه "، وما رواه البخاري أيضاًّ بسنده أنَّ رسول الله قال: " لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أنْ لا إله الاَّ الله وأني رسول الله،إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس ،والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة".
وقد دافع البعض عن موقف الإسلام من المرتد، بأنَّ المرتد ليس مجرد شخص غيَّر معتقده أو بدل دينه،بل هو شخص خرج على الإسلام عقيدةً ومجتمعاً ودولةً،وحكم الإسلام عليه ،ليس حكماً ضد حرية الإعتقاد،بل ضد خيانة الأمة والوطن والدولة،فضلاً عن الدين، والتواطؤ مع أعداء الإسلام لحربه،و لا شك أنَّ حرية الإعتقاد، لا تعني ولا تتضمن ،حرية الخيانة للوطن والمجتمع والدين،و لا حرية قطع الطريق وسلب الناس ما يملكون،و لا حرية التواطؤ مع العدو"،فإذن حرية العقيدة شيء والرِدَّة شيء آخر. فالإسلام ليس عقيدة فحسب بل هونظام حياة،الأمر الذي يجعل كل عمل يستهدفه معتقداً وشريعةً، يمثل عدواناً على النظام العام،وبما أنَّ العقيدة جوهر هذا النظام،فمن الطبيعي أن تقوم الدولة الإسلامية بحراسة الدين وصيانته،وأن تقدر مدى الخطورة على نظام الدولة في كل حركة ردة تنشأ داخلها.وفي هذا الإطار يمكن النظر الى محاربة المسلمين للمرتدين الذين خرجوا على عهد أبي بكر .فالرِدَّة إذن جريمة لا علاقة لها بحرية العقيدة التي أقرها الإسلام،وأنًّها مسألة سياسية قصد بها حياطة المسلمين ،وحياطة تنظيمات الدولة الإسلامية من كيد أعدائها.
ويرى بعض المعاصرين، أنَّ العقاب المشروع على الرِدَّة هو عقاب تعزيري،وأنَّ الرِدَّة إنْ بقيت في نطاق الإعتقاد الشخصي للمرتد،وظلت في مكنون سريرته وخبيء نفسه،فإنَّ أحداً لا يحق له البحث في السرائر أو التفتيش في الضمائر للكشف عن عقائد الناس ومدى اتفاقها أو إختلافها مع صحيح العقيدة الإسلامية. ولكن المجاهرة بإعتقاد مخالف للإسلام-بعد أن كان المرء مسلماً معلن الإسلام،أو معروفه أو ظاهره-هو الذي يعد ردة تجيز عقاب صاحبها بالعقوبة التعزيرية التي يقررها الشرع المطبق في الدولة الإسلامية التي تقع في نطاقها الرِدَّة.( انظر: الفقه الإسلامي في طريق التجديد ( محمد سليم العوا) ص: 155-156.)
والى قريب من ذلك يذهب الدكتور الترابي الذي يقرر أنَّ الأصل أنَّ الله سبحانه وتعالى منح الإنسان حرية الإختيار بين الإيمان والكفر،وأكد أنَّه لا إكراه في الدين،وكان على عهد الرسول،كما أخبر القرآن الكريم، يتردد بعض الناس بين الإيمان والكفر عدة مرات ولم يكن ذلك دافعاً لقتلهم أو قتالهم.وحديث المرتد لم يأت حكما عاماً على المرتد،بل جاء في سياق العلاقات الحربية ،والموقف من بعض من ارتد والتحق بصفوف الأعداء،وهل يعصمه إسلامه السابق من قتله،إذا قدر عليه في ميدان القتال.فجاء حديث الرسول:" من بدلَّ دينه فاقتلوه"،ولكن الناس انتزعوا هذا الحديث من أسبابه الخاصة،-كما يقول الترابي-ونسخوا به أصلاً من أصول الدين هو حرية العقيدة."انظر (حوار مع الدكتور الترابي). مجلة الدبلماسي: العدد الثاني: محرم 1417ه/1996م ص:36.
أما المادة الأخرى التي لا تتوافق مع الإسلام فهي المتعلقة بالزواج والتي تبيح أنْ تتزوج المرأة بمن ترى بصرف النظر عن إختلاف الدين أو إتفاقه.
فالإسلام يرفض زواج المسلمة بغير المسلم سواءً كان مشركاً أو من أهل الكتاب: وذلك لعدة أسباب لعل من أهمها:احترام عقيدة المرأة المسلمة ،وصيانة دينها ، وعدم تزويجها من رجل لا يعترف بدينها و لا يحترمه،بل قد يطعن فيه ويتناول نبيه بالتجريح والإساءة،بينما أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج من كتابية، لأنَّ المسلم يحترم الديانة النصرانية واليهودية، ويقدر أنبياءها ويؤمن بهم كما يؤمن بأنبياء الله جميعاً،وعليه فلن تكون هناك مشكلة في حياتهما الزوجية،لا سيما وأنَّ الإسلام لم يجعل إسلام الكتابية شرطاً في الزواج بها، بل يمكن أنْ تظل الكتابية على دينها،و لا تُحمل على تغييره أو تجبر على اعتناق الإسلام..وما دام التفاهم والتلاقي في الآراء والأفكار هو أساس استقرار الحياة الزوجية،فمن الطبيعي أنْ يطلب الإسلام حداً أدنى للإلتقاء العقدي ،وهذا ما يتوفر في زواج المسلم بالكتابية،في حين أنَّه لا يتوفر في زواج المسلمة بكتابي.،لذا منع الإسلام هذا الزواج كما في قوله تعالى: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (البقرة:221).
جعل الإسلام القوامة في الحياة الزوجية للرجل : (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ..ً) (النساء:34) ،و لا يجوز زواج المسلمة من كتابي لأنَّ القرآن ينص على أنْ لا ينبغي أنْ تكون للكفار أيَّاً كانوا ولاية على المسلمين: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (النساء:141) ،ولما ورد النهي عن ذلك في حديث الرسول " تزوجوا نساء أهل الكتاب ولا تزوجوهم نساءكم"،ولا يجوز لمسلم أنْ يتزوج مشركة سواءً كانت وثنية أو مجوسية.
وليس في موقف الإسلام هذا حجر على المرأة أو تقليل من شأنها،فتكريم الإسلام للمرأة ليس محل نزاع، فالشريعة الإسلامية اعتبرت المرأة مخلوقاً كامل الأهلية ومحلاً للخطاب الإلهي والمسؤلية الفردية ومساويه للرجل في الحقوق الإنسانية العامة والموالاة الإجتماعية وممارسة الإصلاح، وفي العمل والجزاء. يقول الله سبحانه وتعالى : (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97).
ولم تقم الشريعة الإسلامية، في الحقوق الإنسانية العامة، وزناً للذكورة أو الأنوثة وإنما جعلت ميزان الكرامة ،التقوى والعمل الصالح، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13).
والمؤمنة كالمؤمن سواء في ضرورة الإستجابة لكل ما أمر الله به أو أمر به رسوله ، بحيث لا يجوز لأي منهما أن يخالف هذا الأمر ولا أنْ يضيق به، قال تعالى : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب:36).
ونجد في تاريخ المسلمين استقلال المرأة في مجال التلقي والإستجابة والعمل، فقد بايعت المرأة الرسول ،كما بايعه الرجال وجاهدت كما جاهدوا وهاجرت كما هاجروا وتعلَّمت وعلَّمت كما فعلوا.
وفي اطار الحياة الزوجية أثيرت بعض المسائل التي اعتبرها دعاة حقوق الإنسان تحط من قدر المرأة وتقلل من مكانتها ،وتصادر بعض حقوقها مثل : القوامة التي جعلها الإسلام للرجل دون المرأة ،والميراث الذي جعل الإسلام نصيب الرجل فيه ضعف نصيب المرأة،في بعض الحالات ،والدية التي جعل الإسلام دية المرأة نصف دية الرجل.وسنحاول الإشارة بايجاز الى موقف الإسلام من هذه القضايا.
القوامة:. جعل الإسلام القوامة في الحياة الزوجية للرجل، يقول الله تعالى : (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ..ً) (النساء:34) .وقد ذهب البعض إلى القول بأنَّ القوامة التي قررها الإسلام تتضمن انتقاصاً من قدر المرأة ،والتمييز بينها وبين الرجل . و لا شك أنَّ هذا قول غير صحيح، لا سيما إذا نظر إلى القضية في إطارها العملي.فمما لا خلاف حوله، أنَّ نظام الأسرة، هو أساس المدنية والعمران، وبقاء النوع البشري.وتمثل الأسرة وحدة إجتماعية،وهي مهما صغرت وقل عدد أفرادها تحتاج إلى رئيس مسئول يتولى رعايتها وتوجيهها والدفاع عنها ،والقوامة عليها.و القوامة في هذا السياق، لا تعدو أن تكون تكليفاً ومسؤلية في اطار الحياة الزوجية. وقد جعلها الله تعالى لمن هو قادر عليها ومؤهل بحكم طبيعته ،ومسؤلياته للقيام بها، من غير أن ينتقص ذلك من قيمة أفراد الأسرة الآخرين.فالمساواة بين الرجل والمرأة قاعدة مقررة، كما سبق أن أشرنا،ويؤكد ذلك قول الله تعالى:( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ) البقرة:228،فالجملة الأولى من الآية تقرر مبدأ المساواة التامة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات،والجملة الثانية تشير إلى مبدأ القوامة،والذي تعبر عنه صراحة الآية: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) النساء:34. وهذا التفضيل،الذي جعلته الآية أحد أسباب جعل القوامة بيد الرجل، يتمثل في الفروق العاطفية والجسدية ،التي لا سبيل إلى انكارها.أمَّا السبب الثاني، فيتمثل في أنَّ الرجل هو المكلف شرعاً بالإنفاق على الأسرة ،فيكون هو الأولى بالقوامة. والقوامة، في الجملة ليست قوامة مطلقة،تحمل معنى الهيمنة والسيطرة، بل هي مسؤلية ،محكومة بقيم الإسلام في وجوب المودة والرحمة ،والمساواة والتناصر والتكافل بين الزوج وزوجه، في الحقوق والواجبات،ومحكومة بالشورى التي يسهم بها الطرفان، ويشاركان عن طريقها، في تدبير شئون الأسرة.ومن ثم لا يتوقع أنْ تؤدي إلى الإنتقاص من قدر المرأة ،و لا توحي بأنَّ المرأة أقل درجة من الرجل، اللهم إلاَّ إذا أُسيءَ فهمها،وتصرف فيها الرجل من غير مراعاة لضوابط الشرع وآدابه.
ميراث المرأة:أما بالنسبة للميراث ، ،فلا بد بداية من الإشارة إلى أنَّ الإسلام هو أول نظام يثبت للمرأة نصيباً من الميراث من أبيها وأخيها وزوجها وأرحامها،بعد أن لم يكن لها شيء من الميراث قبل هذا في النظم الأخرى.وبهذا أوقف الإسلام الظلم التاريخي الذي لحق بالمرأة من جراء حرمانها من الميراث وأنقذها من بعض النظم التي جعلتها هي نفسها جزءاً من الميراث الذي يتداول. يقول الله تعالى :( لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً) النساء:7.
كما لابد من بيان الفلسفة التي يقوم عليها نظام الميراث في الإسلام والمعايير التي تحكمه.ذلك أنَّ التفاوت بين أنصبة الوارثين والوارثات تحكمه ثلاثة معايير:
أولها: درجة القرابة بين الوارث –ذكراً أو أنثى-وبين المورَّث-المتوفى-فكلما اقتربت الصلة زاد النصيب في الميراث. وكلما ابتعدت الصلة قل النصيب في الميراث دونما اعتبار لجنس الوارثين.
ثانيهما:موقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال.. فالأجيال التي تستقبل الحياة،وتستعد لتحمل أعبائها،عادة يكون نصيبها في الميراث أكبر من نصيب الأجيال التي تستدبر الحياة وتتخفف من أعبائها،وتصبح أعباؤها عادة مفروضة على غيرها،وذلك بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة للوارثين والوارثات-فبنت المتوفى ترث أكثر من أمه-وكلتاهما أنثى-بل وترث البنت أكثر من الأب-حتى لو كانت رضيعة لم تدرك شكل أبيها.
ثالثها:العبء المالي الذي يوجب الشرع الإسلامي على الوارث تحمله والقيام به حيال الآخرين..وهذا هو المعيار الوحيد الذي يثمر تفاوتاً بين الذكر والأنثى.. لكنه تفاوت لا يفضي إلى أي ظلم أو انتقاص من إنصافها.ففي حالة ما إذا اتفق وتساوى الوارثون في درجة القرابة.. واتفقوا وتساووا في موقع الجيل الوارث من تتابع الأجيال-مثل أولاد المتوفى-ذكوراً وإناثاً-يكون تفاوت العبء المالي هو السبب في التفاوت في أنصبة الميراث، ولذلك لم يعمم القرآن الكريم هذا التفاوت بين الذكر والأنثى في عموم الوارثين،وإنما حصره في هذه الحالة بالذات فقالت الآية القرآنية: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) النساء:11،ولم يقل يوصيكم الله في عموم الوارثين.
والحكمة في التفاوت هنا تنطلق من القاعدة التي يقوم عليها نظام الميراث في الإسلام " الغُنْم بالغُرْم" ،بمعنى أنَّ الحقوق يجب أن تتناسب مع الواجبات وإلا اختل ميزان العدل ، فالإسلام وهو يعطي المرأة نصف ما يعطيه للرجل – هو في الواقع يفضلها على الرجل،لأنَّ الإسلام يعفي المرأة من تبعات الإنفاق على الأسرة.فالرجل هو الذي يتحمل تبعة الإنفاق على الأسرة،ومنها المرأة،سواء أكان أباً لها ،أو زوجاً أو أخاً أو إبناً،كما أنَّه هو الذي يعطي المهر للمرأة ،وما تحصل عليه المرأة من ميراث أو مهر تدخره لنفسها و لا تكلف بإنفاق شيء منه- بينما ما يحصل عليه الرجل ينفق منه على المرأة –بنتاً له أو زوجةً أو أختاً أو أماً. ( التحرير الإسلامي للمرأة النموذج والشبهات ( محمد عمارة) مجلة المسلم المعاصر،السنة الثامنة والعشرون،رجب شعبان رمضان 1424ه/اكتوبر نوفمبر ديسمبر 2003م، العدد: (110) ص:117-118.)
أمَّا إذا سقطت الواجبات في الإنفاق، وخفت التبعات والمسؤوليات المالية،عندئذ تصبح الحصة في الميراث متساوية بين الذكر والأنثى،ومن ذلك:
حال الأبوين اللذين يرثان أولادهما وكان للمتوفى ولد ذكر فلكل منهما السدس،يقول تعالى:( وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ) النساء:11.
حال الإخوة لأم إذ يسوى بينهم في الميراث ذكوراً وإناثاً.فإن كان الوارث واحد أخ أو أخت فلكل منهما السدس،وإن كانوا أكثر من واحد فهم يشتركون في الثلث يوزع عليهم بالتساوي.( وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ) النساء:12.
ففي هذه الحالات ليس على الوارثين أعباء و لا مسؤليات لذلك تساوى فيها حق الرجل والمرأة في الميراث.مما يدل على أنَّ الزيادة فبي ميراث الرجل على المرأة، ليست لتمايز جنس الرجل والمرأة ،أو للمفاضلة بينهما.
بل إنَّ استقراء حالات الميراث ومسائله يكشف ما يأتي:
1. إنَّ هناك أربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصف الرجل.
2. وهناك حالات أضعاف هذه الحالات الأربع ترث فيها المرأة مثل الرجل تماماً.
3. وهناك حالات عشر أو تزيد ترث فيها المرأة أكثر من الرجل.
4. وهناك حالات ترث فيها المرأة و لا يرث نظيرها من الرجال.
أي أنَّ هناك أكثر من ثلاثين حالة تأخذ فيها المرأة مثل الرجل،أو أكثر منه، أو ترث هي و لا يرث نظيرها من الرجال ،في مقابلة أربع حالات محددة ترث فيها المرأة نصف الرجل. ( .صلاح سلطان: (ميراث المرأة وقضية المساواة) ص: ،46 طبعة دار نهضة مصر "سلسلة في التنوير الإسلامي"-القاهرة 1999، نقلاًعن :
دية المرأة: أما بالنسبة لدية المرأة، والتي حددها الإسلام بأنها نصف دية الرجل ،فلا يتنافى هذا التحديد، مع ما قرره الإسلام من مساواة تامة بين الرجل والمرأة في الإنسانية والأهلية، والكرامة الإجتماعية،لأنًّ أمر الدية ومقدارها، إنما يتعلق بقدر الضرر الذي يلحق بالأسرة بقتل الرجل أو المرأة.فإذا كان القتل عمداً وجب القصاص من القاتل سواءً أكان المقتول رجلاً أم إمرأة،وسواء أكان القاتل رجلاً أم إمرأة ، لأننا هنا بصدد روح إنسان في مقابل روح إنسان ،والرجل والمرأة مستويان في الإنسانية.يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى) البقرة:178. ويقول أيضاَّ: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) المائدة:45.
أما في القتل الخطأ الذي تجب فيه الدية،فإنَّ الدية هنا تعد عوضاً مادياً عن الخسارة التي تلحق الأسرة بسبب قتل أحد أفرادها.- وهذه الخسارة تتضاعف، إذا كان المقتول رجلاً.فالأولاد الذين قتل أبوهم،والزوجة التي قتل زوجها –قد فقدوا من يعولهم وينفق عليهم-وهي خسارة مادية فادحة.أما الأولاد الذين قتلت أمهم ،والرجل الذي قتلت زوجته،فإنَّهم لم يفقدوا إلا الناحية المعنوية- وهي لا تقدر بثمن و لا تعوض بمال.
فالدية إذن ليست ثمناً مقابلاً للمقتول.فإنَّ الإنسان لا يقدر بالمال.و ليست في مقابل الإنسان الذي فقد،بل هي في مقابل الخسارة المادية المترتبة على فقد الإنسان. وهي في فقد الرجل أعظم،تطبيقا للقاعدة الأصولية " الغرم بالغنم". انظر: حقوق المرأة في الشريعة الإسلامية ( ابراهيم النجار) ص:313.
شهادة المرأة : اتهم الإسلام بأنَّه انتقص من قدر المرأة وجعلها نصف إنسان، حينما جعل شهادتها تعدل نصف شهادة الرجل،كما ورد في قي قوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا)، البقرة 282.
ومصدر الشبهة -كما يقول د.محمد عمارة- هو الخلط بين " الشهادة" و"الإشهاد"،الذي تتحدث عنه الآية.فالشهادة التي يعتمد عليها القضاء في اكتشاف العدل المؤسس على البينة،واستخلاصه من ثنايا دعاوى الخصوم،لا تأخذ من الذكورة أو الأنوثة معياراً لصدقها أو كذبها،ومن ثم قبولها أو رفضها.. وإنَّما معيارها تحقق اطمئنان القاضي لصدق الشهادة،بصرف النظر عن جنس الشاهد،ذكراً أكان أو أنثى، وبصرف النظر عن عدد الشهود.. فللقاضي إذا اطمأن ضميره إلى ظهور البينة، أن يعتمد شهادة رجلين،أو امرأتين،أو رجل وامرأة،أو رجل وامرأتين،أو امرأة ورجلين،أو رجل واحد،أو امرأة واحدة.. و لا أثر للذكورة أو الأنوثة في الشهادة التي يحكم القضاء بناءً على ما تقدمه له البينات." عن التحرير الاسلامي للمرأة ( عمارة ) مصدر سابق،ص:119."
فالآية تتحدث عن الإشهاد الذي يقوم به صاحب الدين،للاستيثاق من الحفاظ على دينه،وليس عن "الشهادة" التي يعتمد عليها القاضي في حكمه بين المتنازعين. فهي-أي الآية- موجهة لصاحب الحق –الدين،وليس إلى القاضي الحاكم في النزاع.. بل إنَّ هذه الآية لا تتوجه إلى كل صاحب حق-دين-و لا تشترط من مستويات الإشهاد وعدد الشهود في كل حالات الدين.. وإنما توجهت بالنصح والارشاد-فقط النصح والإرشاد-إلى دائن خاص،وفي حالات خاصة من الديون،لها ملابسات خاصة نصت عليها الآية.فهو دين إلى أجل مسمى،و لا بد من كتابته،و لا بد من عدالة الكاتب ويحرم امتناع الكاتب عن الكتابة. و لا بد من إملاء الذي عليه الحق.. وإنَّ لم يستطع فليملل وليه بالعدل..والإشهاد لا بد أن يكون من رجلين من المؤمنين..أو رجل وامرأتين من المؤمنين.. وأن يكون الشهود ممن ترضى عنهم الجماعة..و لا يصح امتناع الشهود عن الشهادة..وليست هذه الشروط بمطلوبة في التجارة الحاضرة .. و لا في المبايعات.
وقد أدرك حقيقة أنَّ الآية تتحدث عن "الإشهاد" في دين خاص ،وليس عن الشهادة،وأنها نصيحة وارشاد لصاحب الدين ذي المواصفات الخاصة، وليست تشريعاً موجهاً إلى القاضي-الحاكم –في المنازعات،العلماء المجتهدون من أمثال ابن تيمية،وتلميذه ابن القيم من القدماء،والشيخ محمد عبده،والشيخ شلتوت من المحدثين المعاصرين.يقول ابن تيمية فيما نقله عنه تلميذه ابن القيم:" إن القرآن لم يذكر الشاهدين،والرجل والمرأتين في طرق الحكم.التي يحكم بها الحاكم،,إنما ذكر النوعين من البيانات في الطرق التي يحفظ بها الإنسان حقه،فقال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) .... إلى قوله تعالى(وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى) البقرة 282.،فأمرهم سبحانه ،بحفظ حقوقهم بالكتاب،وأمر من عليه الحق أن يملي الكاتب،فإن لم يكن ممن يصح إملاؤه، أملى عنه وليه.ثم أمر من له الحق أن يستشهد على حقه رجلين،فإن لم يجد فرجل وامرأتان.ثم نهى الشهداء المتحملين للشهادة عن التخلف عن اقامتها إذا طلبوا لذلك.ثم رخص لهم في التجارة الحاضرة ألا يكتبوها.ثم أمرهم إذا كانوا على سفر،ولم يجدوا كاتباً، أن يستوفوا بالرهان المقبوضة.
كل هذا نصيحة لهم،وتعليم وإرشاد لما يحفظون به حقوقهم،وما تحفظ به الحقوق شيء وما يحكم به الحاكم( القاضي) شيء،فإنًّ طرق الحكم أوسع من الشاهدين والمرأتين،فإنَّ الحاكم يحكم بالنكول،واليمين المردودة،و لا ذكر لهما في القرآن- وأيضاً،فإنَّ الحاكم يحكم بالقرعة-بكتاب الله وسنة رسوله الصريحة-ويحكم بالقافة-بالسنة الصريحة الصحيحة،التي لا معارض لها-ويحكم بالقسامة-بالسنة الصحيحة الصريحة- إلى غير ذلك من أنواع الإثبات... فإنْ قيل :فظاهر القرآن يدل على الشاهدين،وأنه لا يقضى بهما إلاَّ عند عدم الشاهدين.قيل: القرآن لا يدل على ذلك،فإن هذا أمر لأصحاب الحقوق بما يحفظون به حقوقهم،فهو سبحانه أرشدهم إلى أقوى الطرق،فإن لم يقدروا على أقواها انتقلوا إلى دونها.. وهو سبحانه،لم يذكر ما يحكم به الحاكم،وإنما أرشد إلى ما يحفظ به الحق،وطرق الحكم أوسع من الطرق التي تحفظ بها الحقوق." الطرق الحكمية ( ابن القيم ) ص: 103-105،219-236 " ،ويعلق ابن القيم على ما أورده عن شيخه فيقول: " قلت-أي ابن القيم- وليس في القرآن ما يقتضي أنه لا يحكم إلا بشاهدين،أو شاهد وامرأتين،فإنَّ الله سبحانه إنَّما أمر بذلك أصحاب الحقوق أن يحفظوا حقوقهم بهذا النصاب،ولم يأمر بذلك الحكام أن يحكموا به،فضلاً عن أن يكون قد أمرهم ألا يقضوا إلا بذلك. ولهذا يحكم الحاكم بالنكول،واليمين المردودة،والمرأة الواحدة،والنساء المنفردات، لا رجل معهنَّ .. وبغير ذلك من طرق الحكم التي لم تذكر في القرآن،فطرق الحكم شيء،وطرق حفظ الحقوق شيء آخر،وليس بينهما تلازم،فتحفظ الحقوق بما لا يحكم به الحاكم مما يعلم صاحب الحق أنه يحفظ به حقه،ويحكم الحاكم بما لا يحفظ به صاحب الحق حقه،و لا خطر على باله.." المرجع نفسه ص:198."، ثم ذكر ابن تيمية عدداً من حالات البينات والشهادات التي يجوز للقاضي –الحاكم-الحكم بناءً عليها،فقال:" إنَّه يجوز للحاكم- القاضي- الحكم بشهادة الرجل الواحد إذا عرف صدقه،في غير الحدود،ولم يوجب الله على الحكام ألا يحكموا إلا بشاهدين أصلاً،وإنًما أمر صاحب الحق أن يحفظ حقه بشاهدين،أو بشاهد وامرأتين،وهذا لا يدل على أن الحاكم لا يحكم بأقل من ذلك،بل قد حكم رسول الله بالشاهد واليمين،وبالشاهد فقط،وليس ذلك مخالفاً لكتاب الله عند من فهمه،و لا بين حكم الله وحكم رسوله خلاف..وقد قبل النبي شهادة الأعرابي وحده على رؤية هلال رمضان،وتسمية بعض الفقهاء ذلك إخبار،لا شهادة،أمر لفظي لا يقدح في الاستدلال،ولفظ الحديث يرد قوله. وأجاز ،شهادة الشاهد الواحد في قضية السلب،ولم يطالب القاتل بشاهد آخر،و لا استحله،وهذه القصة (وروايتها في الصحيحين)-صريحة في ذلك.. وقد صرح الأصحاب:أنه تقبل شهادة الرجل الواحد من غير يمين عند الحاجة،وهو الذي نقله الخرقي(334ه،945م) في عصره،فقال:وتقبل شهادة الطبيب العدل في الموضحة إذا لم يقدر على طبيبين،وكذلك البيطار في داء الدابة.." المرجع نفسه ص:98، 113، 123". وقد أكد ابن القيم رأيه هذا في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين، حيث قال:" إن البينة في كلام الله ورسوله،وكلام الصحابة اسم لكل ما بين الحق.. ولم يختص لفظ البينة بالشاهدين.. وقال الله في أية الدين: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى ) فهذا في التحمل والوثيقة التي يحفظ بها صاحب المال حقه،لا في طرق الحكم وما يحكم به الحاكم،فإن هذا شيء وهذا شيء،فذكر سبحانه ما يحفظ به الحقوق من الشهود،ولم يذكر أن الحكام لا يحكمون إلا بذلك.. فإنَّ طرق الحكم أعم من طرق حفظ الحقوق.. وقال سبحانه: (مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء )،لأنَّ صاحب الحق هو الذي يحفظ ماله بمن يرضاه".
وعللَّ ابن تيمية حكمة كون شهادة المرأتين في هذه الحالة –تعدل شهادة الرجل الواحد،بأنَّ المرأة ليست مما يتحمل عادة مجالس وأنواع هذه المعاملات.. لكن إذا تطورت خبراتها وممارساتها وعاداتها،كانت شهادتها-حتى في الإشهاد على حفظ الحقوق والديون-مساوية لشهادة الرجل فقال:" و لا ريب أنَّ الحكمة في التعدد هي في التحمل، فأما إذا عقلت المرأة،وحفظت وكانت ممن يوثق يدسنها فإنَّ المقصود حاصل بخبرها كما يحصل بأخبار الديانات،ولهذا تقبل شهادتها وحدها في مواضع،ويحكم بشهادة امرأتين ويمين الطالب في أصح القولين،وهو قول مالك،وأحد الوجهين في مذهب أحمد .. والمقصود أنَّ الشارع لم يقف الحكم في حفظ الحقوق البتة على شهادة ذكرين،لا في الدماء و لا في الأموال و لا في الفروج و لا في الحدود.. وسر المسألة ألا يلزم من الأمر بالتعدد في جانب التحمل وحفظ الحقوق، الأمر بالتعدد في جانب الحكم والثبوت،فالخبر الصادق لا تأتي الشريعة برده أبداً " إعلام الموقعين عن رب العالمين ج1 ص:90-92 ، 95 ، 103-104 طبعة بيروت 1973م".
وهذا ما ذهب إليه كل من الشيخ محمد عبده والشيخ شلتوت ،فقد أرجع الشيخ محمد عبده تميز شهادة الرجال على هذا النحو-الذي تحدثت عنه الآية-على شهادة النساء ،إلى كون النساء-في ذلك التاريخ كنَّ بعيدات عن حضور مجالس التجارات،ومن ثم بعيدات عن تحصيل التحمل والخبرات في هذه الميادين.. وهو واقع تاريخي خاضع للتطور والتغيير،وليس طبيعة و لا جبلة في جنس النساء على مر العصور.واستبعد الشيخ محمد عبده ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن العلَّة في استبعاد شهادة المرأة في المسائل المالية،يعود إلى ضعف ذاكرة المرأة. يقول الشيخ محمد عبده:" تكلم المفسرون في هذا،وجعلوا سببه المزاج،فقالوا إن مزاج المرأة يعتريه البرد فيتبعه النسيان،وهذا غير متحقق،والسبب الصحيح أن المرأة ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات،فلذلك تكون ذاكرتها ضعبفة،و لا تكون كذلك في الأمور المنزلية التي هي شغلها،فإنها أقوى ذاكرة من الرجل،يعني أن من طبع البشر ذكراناً وإناثاً،أن يقوى تذكرهم للأمور التي تهمهم ويكثر اشتغالهم بها." الأعمال الكاملة للأستاذ محمد عبده ج 4 ص:732. دراسة وتحقيق د.محمد عمارة طبعة القاهرة 1993م."
ولقد ذهب الشيخ شلتوت إلى ما ذهب إليه ابن تيمية وابن القيم ومحمد عبده،فكتب يقول:" إنَّ قول الله،سبحانه وتعالى:( فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ )،ليس وارد في مقام الشهادة التي يقضي بها القاضي ويحكم،وإنَّما هو في مقام الارشاد إلى طريق الاستيثاق والاطمئنان على الحقوق بين المتعاملين وقت التعامل: :( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين .... الى قوله وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى) البقرة 282.. فالمقام مقام استيثاق على الحقوق، لا مقام قضاء بها.والآية ترشد إلى أفضل أنواع الاستيثاق الذي تطمئن به نفوس المتعاملين على حقوقها.
وليس معنى هذا أنَّ شهادة المرأة الواحدة،أو شهادة النساء اللائي ليس معهن رجل ،لا يثبت بها الحق،و لا يحكم بها القاضي،فإنَّ أقصى ما يطلبه القضاء هو البيِّنة. ثم أورد رأي ابن القيم في البيِّنة، ورأي الشيخ محمد عبده في سبب تميز شهادة الرجل عن المرأةمؤكداً ما ذهبا إليه قائلاً:" هذا وقد نص الفقهاء على أنَّ من القضايا ما تقبل فيه شهادة المرأة وحدها،وهي القضايا التي لم تجر العادة باطلاع الرجال على موضوعاتها،كالولادة والبكارة وعيوب النساء،والقضايا الباطنية. وعلى أن منها ما تقبل فيه شهادة الرجل وحده،وهي القضايا التي تثير موضوعاتها عاطفة المرأة و لا تقوى على تحملها،على أنهم رأوا قبول شهادتها في الدماء إذا تعينت طريقاً لثبوت الحق واطمئنان القاضي إليها، وعلى أنَّ منها ما تقبل شهادتهما معاً" وقد أكد شلتوت رأيه بالاشارة إلى ما نص عليه القرآن على التسوية بين الرجل والمرأة في شهادات اللعان حينما يتهم الرجل زوجته بالزنا، وليس له على ما يقول شهود،:( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ ، عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) النور:6-9 .فقد نص القرآن الكريم على أن يشهد الرجل أربع شهادات يعقبها استمطار لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين،ويقابلها ،ويبطل عملها أن تشهد المرأة أربع شهادات،يعقبها استمطار غضب الله عليها إن كان من الصادقين،فهذه –كما يقول الشيخ شلتوت-عدالة الإسلام في توزيع الحقوق العامة بين الرجل والمرأة ،وهي عدالة تحقق أنهما في الإنسانية سواء"( الإسلام عقيدة وشريعة " محمود شلتوت ص: 239-2419".
وهكذا يتبين خطأ ما ذهب إليه البعض من تمييز الإسلام بين المرأة والرجل في الشهادة،وأن مرد الخطأ يعود إلى خطأ في فهم النصوص الواردة في هذا الشأن.
الطلاق: قد أثير كثير من اللغط حول الطلاق ،مصدره الأساسي هو سوء استخدام المسلمين لهذه الرخصة.فالطلاق كما يقول قادة الحملة ضده،لا يتفق مع حقوق الإنسان حيث يؤدي إلى اهدار كرامة المرأة وتشتيت الأسرة،ومما يزيد الأمر سوءاً جعل الطلاق بيد الرجل دون المرأة،فيصبح سيفاً مسلطاً على رقاب النساء.
أما بالنسبة للقضية الأولى،فيمكن القول بأن الشريعة مقصدها الأسمى مصالح العباد،و الأصل في عقد الزواج وفقاً للشريعة المحبة والرحمة يقول تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)الروم:21،كما ينبني على الإستقرار والدوام، فهو عقد مؤبد لا يجوز فيه التأقيت بوقت محدد،وأي شرط لتقييده يعتبر شرطاً لاغياَ.
لكن رغم ذلك قد تنشأ بين الزوجين بعض الخلافات التي تعود إلى اختلاف الطباع والعادات والرغبات والمصالح والأمزجة،أو إلى سوء اختيار أحد الزوجين للآخر،ولذا وضع الإسلام تشريعاً محكماً لعلاج ذلك رعاية لمصلحة الفرد والجماعة،وهو تشريع عادل يتدرج على مراحل ،ولو التزم الناس به لسعدوا جميعا ،ولم يشعروا بشيء من الغبن والظلم. وهذا التشريع يلتزم الخطوات التالية:
1. يطالب الإسلام إبتداءً كلاً من الرجل والمرأة أن يحسن اختيار صاحبه عن الاقدام على الزواج.
2. يطلب من الطرفين استشعار مسئوليته نحو الآخر،ونحو ثمرة الزواج وهم الأولاد: ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته:الرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته،والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها.."
3. عند ظهور بوادر الخلاف،بين الزوجين، ينبغي على كل من الطرفين أن يتحلى بالصبر ،ويحاول تجاوز الخلاف،واصلاح ذات البين : (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) النساء:19، " لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي غيره".
4. إذا تطور الخلاف،وجب ادخال الأقارب لازالة أسباب الخلاف: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً ا ) النساء:35
5. إذا فشل الطرفان في رأب الصدع واعادة المياه إلى مجاريها،وشقَّ على الزوجين الاستمرار في الحياة الزوجية ،أبيح للرجل أن يطلق زوجته طلقة واحدة رجعية- تمكث المرأة في بيت الزوجية لمدة ثلاثة أشهر تقريباً،وذلك من أجل أن يراجع كل من الزوجين موقفه، وتكون هناك فرصة لعودة المياه إلى مجاريها.و لا يصار إلى الطلاق إلا بعد طرق جميع أبواب الإصلاح،وفشل كل الوسائل المؤدية إلى الوفاق،والتأكد من استحكام النفور بين الزوجين واستحالة العشرة بينهما. ومع أنًّ الإسلام أباح الطلاق في هذه الحالة،إلا أنَّه لا يرضى عنه بل يذمه وينفر منه،فيقول الرسول :" أبغض الحلال إلى الله الطلاق". ويقول أيضاً: " لا تطلقوا النساء إلا من ريبة،فإنَّ الله لا يحب الذواقين والذواقات". لذلك اختلف الفقهاء في حكم الطلاق ،هل هو مباح أم محظور؟ والأصح ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة وهو الحظر إلا لحاجة أو ضرورة فيباح.جاء في الهداية: " والأصل فيه الحظر لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت به المصالح الدينية والدنيوية،والاباحة للحاجة إلى الخلاص". ا(لهداية ( الشربيني) 3/279) ،وقال الإمام مالك :"الأصل في الطلاق الحظر والاباحة لحاجة الخلاص". نفس المصدر:3/279
أما القضية الأخرى: وهي لماذا جعل الطلاق بيد الرجل.فحقيقة ليس في ذلك تمييزاً للرجل على المرأة،وانما اعتبر الإسلام في هذه المسألة ما يأتي:
1. إنَّ الرجل هو صاحب القوامة على الأسرة ،وهو المكلف بالإنفاق عليها،فمن الطبيعي أن يكون صاحب الحق في الابقاء على الزواج أو عدمه.
2. إنَّ الرجل أبعد عن التأثير بالغضب العارض،والنفور الطاريء،وأكثر اتزاناً في تقدير عواقب الأمور،خلافا للمرأة التي تتحكم فيها غالباً عواطفها وانفعالاتها الوقتية،فلو أسندنا حق الطلاق إليها، لقضي على كثير من الأسر لمجرد غضب عارض أو انفعال طارىء.
وانصافاً للمرأة أعطاها الإسلام الحق في انهاء رابطة الزواج ،حتى لا تضار إذا اكتشفت أنَّ زوجها سيء العشرة،أو ذا عيب يمنع دوام الحياة الزوجية:
فلها الحق أن تشترط في عقد الزواج أن يكون الطلاق بيدها.
ولها الحق في التخلص من زوج لا ترغب فيه،بأن تتفق معه على دفع مبلغ من المال مقابل تطليقها،وهو المسمى بالخلع،وهذا المال يعد تعويضاً للرجل عن المال الذي دفعه في الزواج.يقول الشيخ سيد سابق:" فإن كانت الكراهية من جهة الرجل،فبيده الطلاق،وهو حق من حقوقه،وله أن يستعمله في حدود ما شرع الله،وإن كانت الكراهية من جهة المرأة،فقد أباح لها الإسلام أن تتخلص من الزوجية بطريق الخلع، بأن تعطي الزوج ما كانت أخذته منه باسم الزوجية لينهي علاقته بها" ( انظر: فقه السنة ، السيد سابق ،ج 2 ص:294) .ثم يقول :" وفي أخذ الزوج الفدية عدل وانصاف: إذ أنَّه هو الذي أعطاها المهر،وبذل تكاليف الزواج والزفاف وأنفق عليها ،وهي التي قابلت هذا كله بالجحود ،وطلبت الفراق،فكان من النصفة أن ترد عليه ما أخذت. وإن كانت الكراهية منهما معاً:فإن طلب الزوج التفريق فبيده الطلاق وعليه تبعاته،وإن طلبت الزوجة الفرقة،فبيدها الخلع وعليها تبعاته كذلك ". ودليل الخلع :ما ورد في قصة إمرأة ثابت بن قيس بن شماس، التي جاءت إلى رسول الله  فقالت : يا رسول الله ،ما أعتب عليه(أي على زوجها)، في خلق و لا دين،ولكن أكره الكفر في الإسلام،فقال رسول الله:" أتردين عليه حديقته،قالت: نعم،فقال رسول الله :أقبل الحديقة وطلقها". ولكن كما ضيق الإسلام في الطلاق فقد ضيق في الخلع ،وجعله آخر الحلول لحسم الخلاف،فقد روي عن الرسول  أنَّه قال:" أيما إمرأة سألت زوجها طلاقها من غير بأس ،فحرام عليها رائحة الجنة".
كما أنَّ المرأة لها الحق في طلب الطلاق اذا كان الزوج سيء العشرة ،أو اكتشفت فيه عيوباً منفرة،أو لا تستقيم معها الحياة الزوجية السليمة،أو كان مريضاً بمرض مؤذ تسري عدواه إليها.
تعدد الزوجات
من القضايا المثارة من قبل دعاة تحرير المرأة والمدعين أنَّ الإسلام لم ينصف المرأة، قضية تعدد الزوجات،بدعوى أنَّ التعدد فيه ظلم للمرأة واهدار لكرامتها،ووسيلة لتحقيق متع الرجل ومآربه وشهواته على حساب كرامة المرأة.
وبداية لا بد من القول بأنَّ الاسلام لم يضع نظام تعدد الزوجات،بل كان نظاماً معروفاً قبل الإسلام في معظم المجتمعات، ويمارس لدى كثير من الشعوب،ولم يرد ما يمنعه في الديانات،فلم يرد مثلا في العهد الجديد أي نص يحرم تعدد الزوجات،وبقي تعدد الزوجات أمراً مباحاً في العالم المسيحي حتى القرن السابع عشر. وفي العهد القديم نجد نصوصاً صريحة تدل على أنَّ التعدد كان يمارس على نطاق واسع حتى بين الأنبياء،ومن بينهم داوود وسليمان ، ولقد كان لسليمان كما ورد في النصوص التوراتية ألف إمرأة : منهن سبعمائة من الحرائر وثلاثمئة من الإماء.( الإصحاج الحادي عشر من سفر الملوك الأول).
وفي مجتمع الجزيرة العربية كان تعدد الزوجات يمارس دون التقيد بعدد معين،ووصل الأمر فيه إلى حد الفوضى.
ومن ثم كانت الحاجة ماسة إلى وجود تشريع يقضي على هذه الفوضى وينظم تعدد الزوجات،تنظيماً يبقي على خيره ،وينفي شره،فجاءت الشريعة الإسلامية لإصلاح هذا النظام وتهذيبه،فهي تضع حدوداً تحول دون الإباحة المطلقة وفي الوقت نفسه لا تغمض العين عن الضرورة التي قد تلجيء الزوج أو الزوجة أو المجتمع كله إلى قبول التعدد.
فالإسلام لم يبتدع هذا النظام،كما أنه لم يفرضه فرضاً،ولكن أباحه عند الضرورة. يقول تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ...) النساء:3.
ولكن هذه الاباحة ليست مطلقة بل مقيدة بشروط صريحة:
أحدهما: العدل بين الزوجات فيما هو في مقدرته: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً) النساء:3. ويقول الرسول :" من كانت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط".. فعدم العدل من الظلم ،ومن الكبائر.وقد فسر جمهور المفسرين العدل بالتسوية بين الزوجات في النفقة وحسن العشرة،فهو كما قال الجصاص :" العدل الظاهر بينهن بالمساواة في الإنفاق والمساواة في المعاملة،وليس هو العدل في المحبة القلبية،لأنها أمر غير مستطاع،والله تعالى يقول: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) البقرة:286،لذلك فسروا العدل في قوله تعالى: (وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً) النساء:129،بالعدل في المحبة والميل القلبي.وكان رسول الله  يقول: " اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك" يعني المحبة لأن عائشة رضي الله عنها كانت أحب نسائه إليه.
ثانيهما: القدرة عل الإنفاق على أكثر من زوجة، (ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ) النساء:3،والمراد –كما قال الشافعي- ألا تكثر عيالكم.
وثالث: هذه الشروط أنْ لايتجاوز عدد الزوجات أربع ،كما نصت على ذلك آية النساء السابقة.
فإذا توفرت هذه الشروط فيباح للرجل أنْ يتزوج أكثر من واحدة،لمقابلة بعض الضرورات الشخصية أو الإجتماعية الحادة: كأن تكون الزوجة عقيماً ،أو لا تصلح للحياة الزوجية ،بأنْ تكون مصابة بأمراض لا تتيح له معاشرتها معاشرة الأزواج.أو قد تخبو المحبة بينهما و لا سبيل إلى انعاشها،فيتعرض الرجل للغواية.أو يكون الرجل كثير الأسفار والتنقل و لا يستطيع حمل زوجته معه. ففي مثل هذه الضرورات الشخصية أيهما أفضل الفراق مع ما فيه من تشرد الأطفال، وهدم كيان الأسرة ،أم التعدد مع المحافظة على الزوجة الأولى.
وفي بعض الاحيان قد تختل النسبة العددية ،فيزيد عدد الاناث عن عدد الذكور،لأسباب كثيرة منها الحروب ،وحوادث العمل،فتفرض حينئذ العزوبة على عدد كبير من النساء،فضلاً عن تعرضهن للزلل والسقوط. فالحل لمثل هذه المشكلات الإجتماعية ولمثل هذا الإختلال في التوازن الإجتماعي يكون بواحد من ثلاثة احتمالات:
أن يقتصر كل رجل على إمرأة واحدة وهذا يؤدي إلى العنوسة .
أن يتزوج كل رجل إمرأة واحدة ويميل إلى أخريات بالطريق الحرام وهذا يؤدي إلى انحلال الأخلاق وفساد المجتمع.
أن يتزوج الرجل أكثر من إمرأة فيرفعها إلى شرف الزوجية ويؤمن لها المستقر والنفقة وحق الطفولة داخل الأسرة.
صحيح أنه قد أسيء استخدام هذه الرخصة ،وترتب على التعدد الذي لم ينضبط بضوابط الشرع وآدابه،كثير من المشكلات الإجتماعية لا سيما بالنسبة للأطفال ،ومن ثم دعا البعض إلى تحريمه ومنعه.ولكن سوء استخدام هذا الحق لا ينبغي أن يعالج بتحريم التعدد،ولكن بتهذيب النفوس،وتنوير العقول،وتعليم الناس حقائق الدين وآدابه.ويمكن وضع ضوابط عملية يتأكد فيها من توفر الشروط اللازمة في من يريد التعدد،وأن تكون هناك ضرورة ملحة تدفع إليه. وضمان حقوق المرأة،وحق الأولاد.
خلاصة البحث:
يتبين لنا مما تقدم أن الإسلام سبق الأنظمة الإنسانية جميعا بأربعة عشر قرنا ،فأقر للإنسان من الحقوق ما يكفل له أمنه وحياته،وسعادته.وأنه أقام تلك الحقوق عل أسس ثابته وربطها بقيم ربانية راسخة،وجعلها فرائض وواجبات ألزم بها المجتمع المسلم على كافة مستوياته:الفردية ،والجماعية،الرعاة والرعية. وعليه فان دعوى غياب هذه الحقوق من منظومة القيم الإسلامية ،تصبح دعوى باطلة لا تقوم على اساس، ولا تستند الى منطق.
كما أن ما يستنكره البعض من نظم اسلامية يراها مخالفة أو معارضة لما هو معلن من حقوق عالمية للإنسان،ينبغي أنْ ينظر الى تلك النظم في نسقها العام ،وتقيم في إطار مجموعة القيم التي ترتيط بها وتكملها وتتكامل معها.،ويهدف من ورائها الى إيجاد مجتمع أخلاقي،وافراد أسوياء وجماعة مستقرة.يسودها الإخاء الإنساني والإيماني،وتشيع فيها روح العدالة والمساواة.
كما لا ينبغي أنْ يؤاخذ الإسلام ويحاكم الى ممارسات بعض المسلمين وتقصيرهم في احترام المواثيق الدولية التي تهتم بحقوق الإنسان ،وتعمل على تأمينها. و على هؤلاء المسلمين العودة الى قيم الإسلام وتعاليمه،وأنْ يكون في سبق الإسلام واهتمامه المتفرد بتلك الحقوق حافزاً الى القيام بمراجعة شاملة لمواقفهم ،وأحوالهم ،ويقدموا نموذجاً أمثل لرعاية تلك الحقوق ،وتطبيقها والحرص على الدفاع عنها،فلا يجد منتقديهم فرصة للإساءة اليهم والى الإسلام من خلالهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.