اكتسح حزب المؤتمر الوطنى الأنتخابات بنسبة قد تصل الى أكثر من97% حسب النتائج الأولية لفرز الأصوات ، وهذه النسبة لم تحققها استفتاءات الرئيس نميرى فى كثير من الأحوال... كما لم تظفربها الأحزاب الحاكمة في كينيا أو زيمبابوى اللتين اتخذت الأنتخابات التى جرت فيهما مؤخراً كمؤشر لعدم الشفافية والمصداقية فى أفريقيا.....وحذر الكثير من المواطنين من مغبة الوقوع في ذات المستنقع الآسن الذى جر تلك البلاد الى ما لا تحمد عقباه....ولكن يبدو أننا في السودان أصبحنا النموذج الأكثرأتقاناً للتزوير في أفريقيا كلها بل وفى العالم أجمع مما ينبغى معه أن نسجل فى كتاب جينيس للأرقام القياسية كأكثر الدول التى يجب أن تحتذى في هذا المجال نظراً للأحكام التى تمت به العملية منذ البداية وحتى النهاية بحيث لم يفز حزب واحد فوزاً مؤثراً خلاف حزب الحكومة . والمسألة لم تبدأ أبداً بالتعداد السكانى المضروب الذى تم بموجبه توزيع الدوائر الجغرافية بغير القسطاس المستقيم ، وما تلا ذلك من تزويرات لاحقة فى السجلات الأنتخابية ومن ثم فوضى الأقتراع الفضيحة..... وأنما بدأت المؤامرة قبل ذلك بكثير وذلك عن طريق استخدام أموال الدولة فى استمالة كل من يمكن استمالته مهما كان مقامه دينياً أو قبلياً أو اجتماعياً--- وهذه هى العلة التى عرفها المؤتمر الوطنى منذ وقت مبكر – أى الضعف أمام المال فى بلد تكاد تقتله الفاقة والعوز والفقر – وهذا مما حدا باأصحاب المؤتمر الوطنى منذ فجر استلامهم السلطة الى اتباع سياسة جوع كلبك يتبعك بنزع الأموال من أيدى الناس نزعاً كما تنزع روح الكافر من جسده مما اتفق على تسميته دولة الجبايات ... وتم استغلال الأموال العامة للترغيب والترهيب والتحييد والسيطرة وتفكيك الكيانات والولاءات وبناء ولاءات جديدة وذلك قبل فترة طويلة من استخدام هذه الأموال فى العملية الأنتخابية الأخيرة بشكل مباشر.... ثم بعد ذلك تم تفصيل القوانين التى تخدم توجهات الحزب الحاكم وذلك بتمريرها من داخل البرلمان عن طريق الأغلبية الميكانيكية مثل القوانين المقيدة للحريات والتى ما زالت تستخدم فى أرهاب المواطنين حتى غدا منظر الشرطة المدججة بالسلاح يثير الرعب فى شوارع الخرطوم حيث أنك يمكن أن تضرب أو تجلد ولا تجد نصيراً لك من محكمة أو قاض......أما الأعلام وتحديداً تلفزيون السودان والأقمار الدائرة في فلكه ، فحدث ولا حرج ، فقد احترف الكذب الصريح في وضح النهار مع تزييف الحقائق والتضليل المتعمد للبسطاء...وبالرغم من أن الصحف و الفضائيات والشبكة العنكبوتية والأذاعات العالمية حجمت من دوره وفضحت ألاعيبه الا أن استمرار تأثيره على الفئات الأقل تعليماً- وهى كثرة غالبة في بلادنا – ما زال ماثلاً . وصار كل الشعب يردد ( أنظر لتلك الشجرة ذات الغصون النضرة ، كيف نمت من حبة وكيف صارت شجرة ).... أما الرموز الأنتخابية لمرشحى الأحزاب الأخرى فلم يعرف عنها المواطنون كبير شىء ، أضافة الى محاولة اذلال مرشحى الرئاسة من على منبرسونا الحكومية التى تباهى ممثلها علناً بتبعيته للحكومة مما حدا بياسر عرمان مرشح الحركة المنسحب تلقينه درساً فى السياسة والأدب لن ينساه ما نبض فيه عرق. ولا بد أن نذكر هنا تجاهل هذا المنبر لدعوة الأمام الصادق المهدى لمناظرة أقرانه من المرشحين حيث تم تم التكتم على هذه الدعوة وكأنها عمل غير صالح ، وهذا شأنهم مع كل فعل لا يملكون أدواته علماً بأن المعايير الدولية التى يحلمون بأن فوضى انتخابات السودان قد أستوفتها ، تضع المناظرات الأنتخابية فى أعلى سلم أولوياتها.....وأذكر أننى عندما خرجت من الكويت مع الخارجين منها فور احتلالها من قبل العراق عام 1990في حرب الخليج الأولى ، وحال وصولنا السودان ، وجدنا أن غالب الشعب السودانى أصبح مقتنعاً تماماً أن الرئيس صدام حسين سيهزم الأمريكان بما يملكه من صواريخ سكود ( الحسين )....يعنى وجدنا العالم في واد والشعب السودانى في واد آخربسبب التضليل الأعلامى الحكومى ، .. هذا ومع استخدام سطوة المال والأرهاب البائن والمستتر ، فقد جاء التزوير اللاحق لذلك أفرازاً طبيعياً لتكملة الدائرة الخبيثة التى تم التخطيط لها منذ سنوات. ولم تعترف بهذه الأنتخابات وتقرظها وتقول أنها مثالاً يحتذى، الا الجامعة العربية .... والجامعة معذورة لأنها لم يسبق لها أن راقبت انتخابات تعددية فى بلاد العرب من قبل . وحيث أن حزب المؤتمر الوطنى اطمأن لفوزه الكاسح وعمد نفسه أبناً شرعياً للأتحاد الأشتراكى السودانى سليل الشموليات ذات الأصل والمنبع الواحد ، فقد تطايرت تصريحات قادته هنا وهناك بأنهم سيعملون على تشكيل حكومة ذات قاعدة عريضة تشمل كافة الأحزاب حتى تلك التى لم تشارك فى الأنتخابات....ثم بعد ذلك نقض الرئيس البشير هذه التصريحات وقال أنه سيشكل حكومة من الأحزاب التى شاركت في الأنتخابات بالفعل وحسب أوزانها الأنتخابية....وأنا لا أدرى ماذا يقصد بالأوزان الأنتخابية.....وهل استغنى حزب المؤتمر الوطنى عن أية دائرة ليفوز بها أى حزب آخر ليحقق لنفسه وزناً أنتخابياً يشارك بموجبه فى الحكومة المقبلة... وفي تقديرى أن المنسحب من هذه الانتخابات و المشارك فيها ركبوا كلهم في ذات المركب التى خرقها حزب المؤتمر الوطنى وأغرق أهلها....وكنت قد قلت قبل ذلك أن هذه الفترة دقيقة وينبغى معالجة المشكلات القائمة على عدم أعتراف الشعب السودانى بشرعية الأنتخابات، بأن تدفع الحكومة بمقترحات جريئة تردم بها الفجوة التى تفصل بينها وبين الأحزاب لمواجهة المشاكل التى تهدد البلاد تغليباً للمصلحة الوطنية العليا التى يجب أن لا تعلو عليها أية مصلحة.... ولا زلت عند رائى...ولكن بالنظر الى قرائن الأحوال ، واعتقاد حزب المؤتمر الوطنى الجازم بأنه فاز بسبب شعبيته وليس لأى سبب آخر ....وتمسك صقوره بالمفاهيم الشمولية البالية ، وعدم استشرافهم للخطورة الشديدة التى تكتنف هذه المرحلة التى تتطلب تضافرجهود الجميع.....بل واعتقادهم بأنهم قادرون على اللعب بنفس النسق المسرحى الذى اتبعوه في السابق مع الحركة الشعبية مما جعل الوحدة طاردة ومنفرة لأبناء الجنوب، فيما أبتعدت قضية دارفور وأصبحت عصية على الحل .... أضافة الى استصغارهم للأحزاب التى أضحت الآن أكثر قوة رغم خسارتها لأن الضربة التى لا تقصم الظهر تقويه....... ومع تغافلهم بأن هامش المناورة لديهم أصبح أضيق من سم الخياط داخلياً وخارجياً مما ستفرزه الشهور المقبلة.....بالنظر الى كل ذلك ، فان الفترة القادمة ستكون ذات مآلات غامضة ومفتوحة على كافة الأحتمالات الا اذا ابتعد حزب المؤتمر الوطنى عن الآنا الضيقة المؤذية وخداع النفس بأنه مبعوث العناية الألهية الأبدية لهذا الشعب الذى يزداد فقراً ومتربة كل يوم تطلع وتغرب فيه الشمس. salih shafie [[email protected]]