شكلت رسوم الحيوانات تجسيدا لبحث الانسان عن تلك الرغبة الدفينة في كيف يريد وان يكون منذ عصور ما فبل التاريخ ، وقد أظهرت ذلك الرسومات والخربشات علي الكهوف مع تشكل وعي الانسان بما حوله ، ثم ارتقت العلاقة بالحيوان لحد العبادة ،ثم الفأل والتطير وغيرها ولم تنفصل تلك العلاقة (الرمزية )بالحيوان حتي وقتنا الحاضر لدي الانسان وهو يستلهم قوته وآماله من تلك الشعارات (رموز الحيوان )التي اتخذتها الدول تجسيدا لطموحاتها التي أودعتها تلك الرموز الحيوانية . عند فجر الاستقلال كان حيوان وحيد القرن يجسد رمزا لجمهورية السودان الفتية وقتها ، ولعل ذلك الاختيار لا ينفصل عن ما خلفه الإنجليز في ذاكرة الناس من اعلاء لقيمة حيوان وحيد القرن ،فقد كان شائعا ان وحيد القرن (الابيض)بصورة خاصة انه حيوان نادر اختص به السودان فقط دون سائر بلاد الدنيا ،ويعيش في مجموعات صغيرة آيلة للانقراض علي حواف مستنقعات النيل الابيض وروافده . وربما للفت أنظار العالم لذلك التفرد اصبح ذلك الحيوان مدللا وأليفاً حينما وفرت له معسكرات الإنجليز الطعام والرعاية واقترب كثيرا في ان يصبح حيوانا أليفا . وحينما خفق علم الاستقلال كانت صورة وحيد القرن تجسدرمزا لتلك الجمهورية الخارجة لتوها من أتون الصراع لباحة الحرية. ثار جدل كثيف حول ذلك الاختيار ، فالبعض يري ان الخصائص البيولوجية لذلك الحيوان والتي تتمثل في القوة والندرة والإقدام والتحدي هي رمز يصلح لبلد تنهض من غفوتها لتنضم لركب شعوب العالم الحرة مؤهلة بخاصية وحيد القرن لتنفيذ ما ترغب ان تكون فيه تلك الأمة . في حين يري آخرون ان حيوان وحيد القرن لا يجسد طموحات ورغائب هذه الأمة فهو احمق، ثم ان تشريحه اثبت ان حجم دماغه صغير لا يتعدي بضعة سنتيمترات مقارنة مع ذلك الجسد الضخم ، وأنه يتميز بقصر النظر ،وبالتالي فان دولة ناهضة و بكل تلك الطموحات لا يمكن ان تودع طموحاتها لذلك الرمز ذو البعد الواحد او القرن الواحد . ظل الصراع محتدما حول ذلك الشعار الرمز بين الصفوة والسياسيين وانتقل بكل ابعاده الي المدارس السياسية واكتسب ابعادا ثقافية وتهويمات استمدت طاقتها الفكرية من ذلك الحيوان الذي لا تبدد سعادته سوي ذبابة التسي تسي وهوام المستنقعات. في عام 1970 إبان حكم جعفر نميري تم حسم ذلك الجدل في بعده السياسي حينما طرحت منافسه لتصميم شعار لجمهورية السودان الديمقراطية ، وبما انه لم يستطع اَي من التشكيليين الذين تقدموا لتلك المنافسة من الفوز بالشعار ،فقد تم تشكيل فريق من التشكيليين يضم كلا من احمد حامد عربي ،مجذوب احمد ، احمد شبرين ،وَعَبَد الرحمن الجعليي حيث تمكن ذلك الفريق من اختيار صقر الجديان بديلا عن وحيد القرن رمزا لجمهورية السودان . يري المناصرون لذلك الاختيار ان صقر الجديان يتميز بالرشاقة وهو من فصائل الطيور الجارحة التي تنقض علي فرائسها بسرعة ومهارة.علاوة علي ان طائر صقر الجديان يعرف بانه طائر أفريقي وذلك اعلاء لروح الانتماء لتلك القارة .في حين يري آخرون انه طائر عربي تم تحريف اسمه في اللاتينية الي saqure ettair ويقابل ذلك (صقر الطير )في العربية .وهكذا دخل ذلك الشعار الي دائرةالصراع الثقافي وجدل الهوية وارث الغابة والصحراء . وعلي ما يبدو فان عنصر البراءة في اختيار ذلك الشعار لا وجود له البتة كما يبدو في تلك الصراعات الشفيفة ، ولم يستطع ذلك (الرمز) ان يحلق عاليا في سماوات الكون وأقعدته الصراعات كغيره من اشكاليات الإخفاق التي اكتنفت التاريخ الاجتماعي والسياسي للدولة رغم طول جناحيه ومنقاره المعقوف ورشاقة الصيد فقد ظل علي مدي عصور عرضة للمسغبة واثارة للشفقة . ولم يتوحد المشغولين بالاجتماع والسياسة حول ذلك الرمز و يلتفوا حوله كما التف الصينيون حول التنين او اليابانيين الذين يمرحلون الشعار مع قدوم كل إمبراطور حيث من المتوقع ان يصبح رمز اليابان وشعارها في مايو القادم (ريوا ) اَي الباعث علي السلام تكريما للذين تفانوا في خدمة الثقافة اليابانية . قد تتجلي أزمة الرمز في بعدها الفلسفي بعيدا في إرثنا الثقافي والاجتماعي والسياسي فقد اختار فرانسيس دينق (طائر الشؤم ) عنوانا لتلك الرواية التي تدور في فلك صراع الهوية والرق وانفصال التوأمين حينما اختطف تجار شماليون الام الا ان احد التوأمين استطاع النجاة مع الام اما الاخر فقد اختفي الي الأبد . ومن غرائب الحكي الروائي ان الراوي (فرانسيس دينج ) نفسه قد انتقل لاحقا من رمزية صقر الجديان وليندغم في نسر آخر اختاره تشكيليو ومثقفي دولة جنوب السودان الوليدة. ولم تمض علي اختيار صقر الجديان ثلاثة عشر عاما اَي في العام 1983 حتي اختار الديكتاتور وفي احدي نزواته النزقة ان يضفي علي ذلك (الرمز)بعدا شائها بتشذيب جناحيه حسب رؤيته الاحادية ولم يعد صقر الجديان قادرا علي التحليق وبتلك الرشاقة الكامنة في طبيعة تكوينه . ولاحقا وفي عام 1989سيطر عديمي الموهبة والخيال علي ذلك الرمز ، حيث وضعت العصبة من اولي البأس حلقة حديدية علي عنق ذلك الطائر الجميل ومن يومها اصبح كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا ابقي . في عام 2004جمعتني تقاطعات الحياة بشيخ طاعن في السن من بادية كردفان،حكي لي انه وفي عام 1970 أعلنت (الحكومة) كما ذكر عن جائزة تبلغ آلاف الجنيهات لمن يأتي لها بصقر الجديان حيا معافي ،وسرعان ما نذر نفسه لتلك الجائزة واندفع نحو السهول والروابي والجبال لعدة أسابيع مستخدما وسائل الشراك البدائية للقبض علي صقر الجديان ونجح اخيرا في القبض علي ذلك الصقر ، ومن ثم انطلق نحو دار صباح بعد ان وضع الصقر في قفص ووفر له كل وسائل الحياة، كان يراوده الحلم بالثراء. وما ان وصل الي الخرطوم توجه نحو القصر الجمهوري الذي يمثل لديه(الحكومة) الباحثة عن الرمز. وهو محتضنا قفصه دون تفريط فقد دنت ساعة الثراء ! هنا اعترضه (الديدبان ) وأفراد الحراسة وانطلق بفخر وكبرياء رافعا قفص الصقر قائلا ، ها انا قد اتيت بالصقر مطالبا بجائزته الحلم .هنا تناول احد ضباط الحراسة القفص، شاكرا لعمنا الشيخ واعدا إياه انهم سيعلنون في الإذاعة موعدا لحضوره لاستلام الجائزة ، وبهذه البساطة غادر بوابة القصر العتيقة قانعا ومشحونا بوعد (الحكومة) وممتلئا بتلك الروح البدوية التي تعتقد ان الحكومة لا تكذب ! وتمر السنوات وشيخنا يتسرب حلمه في مصداقية الحكومة التي استولت علي (صقره). في نهاية حديثه قال لي ساخرا وبابتسامة تنم عن التهكم و تلك الفراسة البدوية( كلم ناس الجرائد خليهم يكلموا الحكومة تجيب لي صقري ). قبل خمسة أعوام رحل الشيخ محمدي ابو الباشا عن هذه الفانية ولم تزل في عهدة (الحكومة)ذلك الصقر الرمز الذي يجسد تلك العلاقة الملتبسة بين الانسان العادي البسيط والقصر اَي تلك السرايا النائمة جوار النيل .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.