صدر مؤخرا للروائي السوداني خالد عويس، عن دار "ميريت" للنشر رواية جديدة تحمل عنوان "كياح" تعد الثالثة بعد "الرقص تحت المطر"، و"وطن خلف القضبان " فقد سار بذات الرؤية الواضحة والفكرة التي اتسمت بها الروايتين السابقتين . في روايته هذه افصح عويس عن مكنونها من الاهداء : " الي كل الذين تجرعوا العذاب في وطني اولئك الذين أدمت أرواحهم وخدشت نقاءهم وإنسانيتهم ، اظافر بشر مثلهم ، الذين عبروا الحياة مطأطئ الرؤوس لكن أرواحهم ظلت متقدة بنار الانسانية" في رمزية "كياح" الشهر الاكثر برودة وعواصف ترابية من شهور السنة القبطية المعمول بها في شمال السودان واتخذ من السودان مسرحاً للأحداث والتفاعلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخيةمتمثل في بلدة نوبية كعينة من الريف السوداني تضم أعراقاً وادياناً متباينة. يتعرض عويس خلال روايته لعدد من القضايا الساخنة وإسقاطاتها علي المجتمع في قالب روائي ابداعي في غاية الجمال والروعة مستمد من ذاكرته الحية واصالة ثقافته علي الرغم من كثرة اسفاره واحتكاكه بإنسان العالم الاول . فنجده يتتبع التغيرات الواقعية والخيالية في المجتمع الريفي بوصف دقيق لمعالم البلدة من حيث شكل البيوت وجدرانها وابوابها النوبية علي طراز الانسان الاول والسوق والشوارع والجبانة . فللكاتب قدرة فائقة علي وصف الاشياء والطبيعة والاشخاص فرداً فرداً ما زكر اسم الا وانداحت الكلمات لتكشف لك طلاسم ذلك الاسم حتي تكاد تصرخ فيه بانك قد عرفته ؟؟ وحتي الذي تعتقد انه قد نسي التعريف به نجده يعود من جديد ويتعمق في وصفه وكذلك المواقف خاصة تلك التي تتعلق بالنساء . خلط عويس في كياحبين المواقف (المصالح ) والاحاسيس والمشاعر فنجده يتأرجح بخيال القارئ بين واقع الحياة البائسة في ظل القهر والتعاطف مع الضحايا ، فرض الهوية الثقافية وعدم تأقلم الاخر معها تارة ومزج بين الحزن والفرح تارة اخري يبث الطرائف في ثنايا الحوار ويعرض المآسي بطريقة درامية تجذب اهتمام القارئ في ثوب العزاب اللذيذ والشواهد كثيرة في متن الرواية . ما يميز عويس في سائر رواياته دقة وعمق التوصيف مما يدل علي تجربته الشخصية المتأثرة بالنزاعات التي ضربت بأطنابها مظاهر الحياة في السودان والفشل في ادارة التنوع او ما يسميه ب(بالوعي الزائف) ، وربما لمقدرته الوصفية الفطرية او المكتسبة من الغربة فنجده يعرض الاحداث من عدة زوايا ويبني ويصور المشاهد كأنها تسعي بين الناس ، دونكم وصف البلدة بأحزانها وافراحها والصحراء والجبال ( التي كان يراها علي الضفة الأخرى ملفوفة في الضباب جبال تحرس البلدة والبلدات الأخرى ) ووصف ( التلال تجري والسهول كما النهر القديم تنحدر الي الشمال تلملم نباتاتها البرية في قبضة يدها وتنثرها شجيراتها مدهونة بلون الارض بعضها تغطيه طبقة طينية من اثر الغبار والمطر تنتصب كأشباح مقدسة في الخلاء قافلة الابل من البعيد المعتم بالسراب كأنها غادرت منذ الازل مكاناً قصياً مطوحة في الهواء وثمة جمل قريب ترابي اللون يحشر رقبته الطويلة بين اغصان شجرة ما بقي عليها من نضرة الحياة ) ووصفه ( للنخيل قلوب بيضاء تنبت من القمم تحن وتتألم وتشتاق بعضها يعمر طويلاً جداً والنخيلات المعمرة تتوارث الحكمة عن اسلافها وعن النهر تعرف البشر تهش بجريدها في وجوه من تحب تحزن اذا ماتوا وربما تنطوي علي نفسها وتعاف الماء وينشف سعفها ... وتموت ) ... " في اوان ( الدميرة ) يجن جنون النهر يعكر ماؤه ويروح يرغي ويزبد كان مساً يتخبطه يكون مزاجه حاداً الناس يخشون النهر في وقت الفيضان ...لكنه موسم خصب الارض السوداء تحب الهدايا الازلية التي يجلبها جدها في اوان ثورته " " في ليالي كياح الطويلة والريح تصفر في الخارج كانت تعد لهم الشاي بالحليب علي موقد الفحم يتدفؤون بالجمر المتوقد ويقرضون الرغيف الساخن من مخبز النصاري مع الشاي " وغيرها من الاوصاف ... بالإضافة لهذه المشاهد الجمالية نجد ان لعويسمقدرة فنية عالية في توزيع شخصيات الرواية بين ثناياها علي الرغم من كثرتهم : مسي الخضري المشغوف بالدلوكة والعرضة والطنبور وعيسي افندي الذي ارسل بنته للقراءة في المدينة وكوستي المهندس اللاديني - ود بشاير العربي من الشرق ومحجوب وعبد الكريم الترزي و كليلي العوير واسطفانوس النصراني وعمران الحلبي وجون ومسعود سواق الهوستن وعم عبد الجبار بتاعالطابونة وعابدين وعلوب و.....الخ وعشمانة وعفاف وفتحية وكرشة الداية وستنا الثرثارة وحارة وستيلا و....الخ . ويتجلى اسلوب عويس الروائي في تشبيهاته الرائعة لأشياء قد تكون ليس بينهما أي مقارنة ولا صلة كصوت الانسان بصوت الحشرات والرصاص بالمطر والحرب بدق السوط والنساء بشجر العشر والانسان بالنخيل ( النخيل كالبشر ينقسم فئات هكذا يقولون لكن الانبل هو الاجزل عطاءاً البتمودة التي يتحلب لها الريق تمر حلو المذاق وكبير الحجم لا يبيعه المزارعون عادة يليه القنديلة فالبركاويوالجاو...) . مع عقد مقارنة عابرة في الرواية بين حياة المدينة "الحضر " والبلدة "الريف" من حيث المصابيح الكهربية مقابل الفوانيس والرتائن والنساء والرجال والسماء...الخ تعكس الفوارق والاعتزاز بالانتماء تذكرنا بدومة ود حامد وعرس الزين لدي الطيب صالح ... تجول عويس بالقارئ بكل انماط واشكال الثقافة والادب السوداني في استعانة بليغة للتعبير الصادق عن ما يجيش بدواخل القاري السوداني فنجده استشهد بالأمثال الشعبية : - عين الحسود تقد العود - ضل راجل ولا ضل حيطة - المكتوب بالجبين لابد تراه العين - يأخي سيد الحق راضي شن دخل القاضي - أي فراشة تلك التي تحمل طلع النخيل لتلقح العشر بالأغاني والالحان : - عني مالهم صدوا وتواروا حظي عاكس ولاهم جاروا جفت العين والمنام بدري بالحبايب لو تدري - قلبي الحابيك ما خان لياليكا ما بدل حبوا ما اتنكر ليكا - اجمل الحلوين وين عهودك وين وبالشعر : - نغني ونحن في اسرك .... وترجف وانت في قصرك مساجينك مساجينك عصافيراً مجرحة في زنازينك ولعب الاطفال وترنيماتهم : - عفونة ...شطة بي ليمونة - اصطياد الزنابير الزنان .....الزنان - بنيه لابس توبا صلاة النبي فوقا - امبابقرتود ...امبابقرتود والاساطير الشعبية وخفاياها : - غناء القماري لعودة الغائب - الزار " الملابس الحمراء ورش الحيطان بدم الديك وشيخة الزاروالدلوكة .... - ترب البنية عودة الموتي - خذي سن الحمار واديني سن الغزال - روح الصحراء الابدية - نفق حفرة الاسلاف - كرامة البليلة - تحول البشر "كراع خديجة التي تشبه كراع الحمار وكلام حمار ايوب وضحكه " . ويتطرق المؤلف إلى الطقوس المتعددةفي مناطق النوبة : - طقس الموت وحفر "ود اللحد " - عودة الحجج والكتابة علي الباب والحائط - طقس الختان . - طقوس العرس "ليلة الحنة " و "عنقريبالجرتق" و "العديلة " الليل العديل والزين انشاء الله العديلة تقدمه وتبره - الكبدار الذي يطوف لينشر خبر الموت - علاج المس بالقران - طقوس شراب القهوة: فندكادبكرنخراتو في ام درمان يخدم بالطلب ما بشتغل صرمان بطل منو قال مالا علي حرمان هو وهيكل جننتو يروق الخرمان فنجان جبنة بشمالوا يساوي الدينا بي حالو هنالك كثير من المشاهد والصور الفنية التي تعكس جراءة وشجاعة الكاتب وكسر الحواجز والخروج عن المألوف وخدش الحياء العام فنجد بين السطور ممارسة جنسية ؟ نعم ... قد يكون هذا النوع من السرد ما جديد في التراث العربي (الف ليلة وليلة ) والسوداني عند العملاق الطيب صالح ...ولكن لعل الكاتب قد افرط في تناوله وتكرار مشاهده علي الرغم من رمزه لما هو اقل وطأة كالقطعة المعدنية في اشارة للرصاصة والسائل الشفاف ؟؟ نعم لاتفوت علي فطنة القارئ "الجنس" كسلطةٍ قاهرة ومولّدة للقهر والكبت وكرمزية للعنف وناتجة عن تفاعلات العلاقات الاجتماعية المعقدة، استخدمه في سياق فني لتوصيل الرسالة مع مراعاة الأخلاق والدين وربما قصد الكاتب ايضاً تجنب الملل والرتابة لكسر جمود الحياة الريفية وبساطتها وتشابه تفاصيلها . وهذا لا ينتقص من ابراز صورة الكاتب الشفافة واللامعة في ظل عالم مفتوح اسفيرياً وتكنولوجياً والافرازات السالبة للكبت والامراض الخطيرة لغياب الثقافة الجنسية كلها قد تكون مبررات منطقية لهذا التعمق في سرد المواقف والمشاهد . "كياح" بلا شك وقفت علي مشاكل وقضايا حقيقية سادت المجتمع السوداني كالانتحار نتيجة للضغوط النفسية والقتل كوسيلة لحسم الصراع والاغتصاب وختان الاناث وولادة الحبل والحداد علي الزوج والتشاؤم بالبنت والعنف ضد المراة والنهب المسلح والتجنيد الاجباري والممارسات القاسية في بيوت الاشباح : سأكتب في التقرير انها ماتت جراء الملاريا؟؟؟ ومعاناة الجنوبيين في الشمال : متمثلة في ستيلا التي سجن ابنها شول ومنعت من زيارته وضيق عليها في معيشتها مما جعلها تتسأل : البلد دي حق منو؟؟؟؟ تطبيق الاحكام القضائية علي بائعات الخمور اثار حفيظة محجوب فدار حواراً جرئياً: دا تخلف هي بتعمل الداهية دي لي منو؟؟ يكون القاضي نفسه بشرب عندها ليه ما يعتقلوا الكبار يا دكتور يا دكتور انت ليشنو ما يقبضوك انا ما شفتك يوم واحد بالغلط واعي يعني العساكر ما عارفنك انت وباقي الموظفين ؟؟؟ الناس مقامات ؟ انت جنيت ؟؟؟ دا شرعكم يطبق علي الكحيانين يا محجوب قلنا ليك الناس مقامات ..يعني في ناس مقاماتهم ما بتسمح بالبهدلة دي ؟. وعشان تنتهي الشغلانة دي لازم مثلها يدفع التمن آ. ................ ................... جنابك القضية ما بالبساطة دي القضية اكبر بي كتير البلد دي فيها حرامية كبار ما في زول بيسألهم ... الناس الكبار يعملوا الدايرنو يكتلوا وعزبوا وينهبوا .. ما في زول بيقول ليهم عينكم في راسكم ... يعني شنو شريعة لما تكون ظلم في ظلم ؟؟؟؟ الشغلانةماشغلانه دين الشغلانة مصالح ..... القيمة الابداعية ل"كياح" انها رواية تقرا بكل الحواس : - روائح الاطعمة تفوح من البيوت روائح تسم البلدة برائحتها الخاصة رائحة الحليب حين ينضجنه أي يحرق قليلاً هم يحبون "اللبن المقنن" هكذا يدعونه ..رائحة الحلو مر والشمار والخمرة والدلكة وغيرها من الروائح . - ونسة عمران الحلبي وعم سعيد ومحجوب وستيلا وستنا الثرثارة والكلمات الرنانة والهامسة . - لا يعرف الحشرات غزت جسده يشعر بحركتها في كل الانحاء لا يستطيع ان يحك تلسعه وتلسع وجهه وصدره العاري وقدميه وعنقه وعشرات المشاهد الحسية والمادية . - تزوق الفول المصري بالزيت والقراصة بالويكةليس المقصود وانما مرارة الحزن والقهر ونشوة الانتصار ؟؟؟ - تصوير المشاهد الحية ورسم الصور الواقعية الساحرة في جل فصول الرواية ... رسم الكاتب لوحة ابداعية تشكيلية لحجم المعاناة التي سادت البلد تقريباً في كل فصول الرواية بفعل "كياح" : فالنساء : - " اللواتي بنيت كما (العشر) يقاتلن في سبيل الحصول علي عجين لصنع الكسرة اخر اليوم متعبات منهكات اجسادهن الهزيلة لا تقوي طويلاً علي احتمال كل ذلك وارواحهن لا تمنحن أيه سكينة " . أما الرجال : " هم ايضاً يرحلون في صمت والقيد في ارجلهم ما عادوا لا محاربين اشداء ولا صيادين ولا فلاحين هم كالطيور التي تقتات من افواه التماسيح ك"طير التمساح" ينفقون اعمارهم في البحث عن فتات بين اسنان التماسيح ولا يحصلون الا علي الماء الذي يبلل ريشهم واجنحتهم المكسورة ولا يقدرون علي نفض ريشهم .. يعيشون ويموتون وهذا هو الامر لا اكثر ولا اقل ؟؟؟ هذه الصورة الوضيعة تقابلها صورة طيور البقر ذات اللون الابيض التي تسد عين الشمس وتلثم السماء بقبلات خاطفة في قمة كبريائها وحريتها وكرامتها ..... ربما التعليق والتحليل يفسد هذه الصورة البلاغية الرائعة ؟؟؟؟ قد تكون لنا عودة ...