عيساوي: نساء الفاشر    السودان..اعتقالات جديدة بأمر الخلية الأمنية    باريس يسقط بثلاثية في ليلة وداع مبابي وحفل التتويج    جماهير الريال تحتفل باللقب ال 36    جواو موتا يزور الاولمبي يحاضر اللاعبين ويباشر مهامه الثلاثاء    المريخ يكثف تحضيراته بالاسماعيلية ويجري مرانين    مصر تدعم دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام العدل الدولية    قرار مثير لمدرب منتخب السودان    الروابط ليست بنك جباية وتمكين يا مجلس!!    شاهد بالصور.. (بشريات العودة) لاعبو المريخ يؤدون صلاة الجمعة بمسجد النادي بحي العرضة بأم درمان    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقدم فواصل من الرقص الهستيري على أنغام أغنية الظار السودانية (البخور طلقو لي لولا) وساخرون: (تم تهكير الشعب المصري بنجاح)    ضربات جوية مُوجعة في 5 مناطق بدارفور    نائب رئيس مجلس السيادة يلتقي وفد مبادرة أبناء البجا بالخدمة المدنية    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية ترقص وتتمايل داخل سيارتها على أنغام الفنان الراحل ود الأمين: (وداعاً يا ظلام الهم على أبوابنا ما تعتب)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    عضو مجلس السيادة نائب القائد العام الفريق أول ركن شمس الدين كباشي يصل الفاو    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني "الشكري" يهاجم الفنانة نانسي عجاج بعد انتقادها للمؤسسة العسكرية: (انتي تبع "دقلو" ومفروض يسموك "السمبرية" وأنا مشكلتي في "الطير" المعاك ديل)    شاهد بالصورة والفيديو.. بطريقة "حريفة" ومدهشة نالت اعجاب الحاضرين.. سائق سوداني ينقذ شاحنته المحملة بالبضائع ويقودها للانقلاب بعد أن تعرضت لحريق هائل    نتنياهو مستمر فى رفح .. إلا إذا...!    عراقي يصطحب أسداً في شوارع بغداد ويُغضب رواد منصات التواصل    السيسي: لدينا خطة كبيرة لتطوير مساجد آل البيت    ترامب شبه المهاجرين بثعبان    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    الهلال يحسم لقب الدوري السعودي    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    عاصفة شمسية "شديدة" تضرب الأرض    هل ينقل "الميثاق الوطني" قوى السودان من الخصومة إلى الاتفاق؟    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    مسؤول بالغرفة التجارية يطالب رجال الأعمال بالتوقف عن طلب الدولار    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    النموذج الصيني    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السكان قبل القرن الخامس عشر والحلقات المفقودة بين الماضي والحاضر .. بقلم: د. أحمد الياس حسين
نشر في سودانيل يوم 08 - 04 - 2011

السكان قبل القرن الخامس عشر والحلقات المفقودة بين الماضي والحاضر:
قبيلة البليين نموذجاً
د. أحمد الياس حسين
[email protected]
في سبيل تسليط الضوء على النواحي الهامة والتي تحتاج المزيد من النقاش والبحث أقام مركز التنوير المعرفي في أركويت بالخرطوم يوم 27 ديسمبر 2010 حلقة علمية بعنوان "القبلية في السودان" قُدِّمت فيها ثلاث أوراق. قدم د قيصر موسى الزين ورقة بعنوان "الوعي القبلي: مدخل فلسفي واجتماعي مع إشارات خاصة إلى السودان" قدم د. حامد عمر حاوي ورقة بعنوان "القبيلة ومستقبل السياسة في السودان" وتقدمت بورقة بعنوان "السكان قبل القرن الخامس عشر والحلقات المفقودة بين الماضي والحاضر" ورأيت إعادة نشرها هنا من أجل المزيد من تبادل الآراء مع قراء سودانايل.
ويهدف هذا المقال إلي محاولة التعرف على الوضع السكاني السابق للقرن الخامس عشر والبحث عن صلة أولئك السكان بالوضع القبلي الحالي. فسكان السودان جزء من سكان نطاق الصحراء الكبرى والسافنا الافريقية الذين عرفوا بأسماء مختلفة عبر العصور مثل السودان والحبش والكوشيين والليبيين والاثيوبيين والنوبة. وإذا أردنا أن نضيق دائرة السودان لنحصرها في سكان ما يعرف اليوم بجمهورية السودان نجد العديد من الأسماء التي أطلقت على السكان قبل ظهور أسماء القبائل الحالية في شمال وشرق وغرب السودان منذ القرن الخامس عشر الميلادي لا وجود لها الآن. ويبدو أن الصلة مفقودة – فيما عدا القليل جدّاً - بين تلك الأسماء والأسماء الحالية، أي أن هنالك حلقات مفقودة بين ماضي وحاضر سكان السودان. والبحث عن تلك الصلة ووصل الحلقات بعضها ببعض يتطلب استقراء التاريخ.

ويهدف هذا المقال إلي محاولة التعرف على الوضع السكاني السابق للقرن الخامس عشر في السودان والبحث عن صلة ذلك المجتمع بالوضع القبلي الحالي. فسكان السودان جزء من سكان نطاق الصحراء الكبرى والسافنا الافريقية الذين عرفوا بأسماء مختلفة عبر العصور مثل الكوشيين والاثيوبيين والليبيون والسودان والحبش. وإذا أردنا أن نضيق الدائرة لنحصرها في سكان ما يعرف اليوم بجمهورية السودان نجد العديد من الأسماء التي أطلقت على السكان قبل ظهور أسماء القبائل الحالية في شمال وشرق وغرب السودان منذ القرن الخامس عشر الميلادي. والبحث عن الصلة بين هذا الوضع الحالي والوضع السابق يتطلب استقراء التاريخ.
المجتمع السوداني قديماً
الحديث عن المجتمع السوداني قديماً وعن تاريخ القبلية أمر شائك لعدم توفر المصادر التي تساعد على تسليط الضوء على ماضي السكان. فكيف كانت أوضاع السكان قبل عصر دولة الفونج؟ وهل أتت الأوضاع القبلية كامتداد للوضع السابق لعصر الفونج أم أتت نتيجة تفاعلات جديدة؟ وتقودنا مثل هذه الأسئلة إلى محاولة تتبع الأسس المبكرة لبناء المجتمع السوداني. ويتطلب ذلك تحديد ما نعنيه بالمجتمع السوداني، هل من الممكن الحديث عن المجتمع السوداني - داخل حدوده الحالية – في عصر الممالك المسيحية أو العصرالكوشي-المروي؟
أقول نعم. ويمكننا النظر بإيجاز في بعض الدلائل مثل:
أولاً: وظيفة الحدود السياسية القديمة وطبيعة المنطقة، وثانياً: التجانس العرقي بين السكان.
وظيفة الحدود السياسية القديمة وطبيعة المنطقة
لم تكن الحدود السياسية بين الدول في العصور الماضية حاجزا مانعا عزل السكان من التواصل الطبيعي كما هو عليه الحال اليوم. فمناطق التداخل السكاني الحالية – ولا أقول الحدود السياسية الحالية – ما بين أسوان شمالاً وإقليم السدود جنوباً وما بين البحر الأحمر بما في ذلك منطقة أرتريا شرقاً ودارفور ومناطق ما جوارها غربا كانت على مدار التاريخ مناطق تداخل و تكامل سكاني لم تعقه حدود الدويلات التي قامت في المنطقة عبر العصور.
وينبغي الإشارة هنا إلى أن الحدود السياسية التي نعرفها ونعيشها اليوم – حدود الدولة القومية nation state) جاءتنا من الغرب نتيجة تحولات كبيرة مرت بها أوربا وبلغت قمتها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين مكونة أوربا الحديثة. فالفرد – المواطن Citizen – داخل هذه الحدود السياسية يكتسب هُويته ويتمتع بحقوق المواطنة بغض النظر عن دينه وعرقه ولغته. ومن الجدير بالملاحظة أن أوربا منذ النصف الثاني من القرن العشرين بدأت تتحلل من هذه القوانين بينما تتمسك بها دول العالم خارج الغرب وتموت من أجلها.
وقد ساعدت طبيعة المنطقة المعنية بالدراسة - ولا زالت تساعد - على ذلك التداخل والتكامل السكاني. فالمنطقة الشرقية يربطها بمناطق الوسط نهر عطبرة بروافده والأودية مثل خور القاش وخور بركة، وقام النيل الأزرق بنفس الدور في ربط مناطق غربي اثيوبيا بإقليم الوسط. وإذا توجهنا إلى الغرب من النيل وجدنا أن الصحاري غربي النيل لم تكن بمثل جفافها الحالي منذ عدة قرون.
فمناطق شمال كردفان ودارفور وصفت عند بداية ثقافات وادي النيل بمناطق الاستبس لوفرة المياه والنبات. وكانت الأودية في هذه المناطق مثل وادي هَوَر ووادي جبرة ووادي الملك ووادي المقدم في وقت من الأوقات أنهار دائمة الجريان، وحتى بعد جفافها مع بداية ثقافات السودان القديمة وفرت مجاريها المياه الموسمية والجوفية حيث ظل اتصال السكان بمناطق النيل في الوسط متصلاً.
فالاتصال الطبيعي بين سكان المنطقة الواقعة بين شرق السودان وارتريا شرقا ودارفور غرباً وبين أسوان شمالاً ومنطقة السدود جنوباً كان قويّاً منذ قيام الثقافات السودانية المبكرة وظل كذلك حتى عصر قيام الممالك الاسلامية منذ القرن الخامس عشر. وغني عن البيان أن تلك الصلات القوية لم تنقطع بعوامل الجفاف التي حدثت تدريجيّاً، لأن الجفاف كان يؤدى إلى تحرك السكان الدائم نحو أماكن توفر المياه في مناطق الوسط على النيل.
والحدود السياسية بين الدول التي قامت في هذه المنطقة لم تعق تحركات واختلاط السكان، ويمكن تشبيه الحدود بين تلك الدول مثل الحدود الادارية الحالية بين المحافظات. وقد تمت مناقشة هذه القضية في الحلقتين الثالثة والرابعة اللتان نشرتا في موقع سودانايل sudanile تحت عنوان "تأملات في الهُوية" نشرت الحلقة الثالثة في آخر يونيو بعنوان "مفهوم المواطنة والهُوِية في عصر تعدد الدول الاسلامية: الهُوية والوطن والقومية" والرابعة في أول يوليو بعنوان "كيف كان مفهوم المواطنة والهُوِية في ممالك السوان قبل الغزو التركي؟"
وفي هذه الحلقة الأخيرة استعنت ببعض ما ورد في ترجمات كتاب الطبقات لمحمد النور ضيف الله لتوضيح كيف أن التواصل والتداخل بين السكان لم تعقه الحدود السياسية بين الدول. فقد وردت الإشارة عن ذلك التواصل بين مناطق الشرق والغرب والوسط 139 مرة كما يوضح الجدول.

عدد المرات التي ورد فيها ذكر للمناطق أدناه في كتاب الطبقات
اسم المنطقة عدد المرات
مبا مباشر في النص - غير مباشر في النص المجموع
الكلي
غرب السودان وما جاوره غرباً 45 56 101
شرق السودان وما جاوره شرقاً 27 18 38
المجموع 71 74 139
فالطلبة والشيوخ من مختلف المناطق يتواجدون في دور العلم (الخلاوي والمسايد) والشيوخ يتنقلون من مكان لآخر، كل ذلك يحدث دون الحاجة إلى أوراق ثبوتية أوتأشيرات دخول أو إجراءات إقامات أو تحويلات مالية. فالشعور القوي بالانتماء لم يكن مرتبطاً بالحدود السياسية .
إذا قبلنا هذا نكون أمام سكان متداخلين ومتجانسين ومتكاملين رغم ما يمكن أن يكون من اختلاف بعض الثقافات أو الديانات أو اللغات. فقد كان هنالك شعور بالانتماء ربط بين أولئك السكان في أماكنهم ودولهم المختلفة في منطقة السودان الحالية. ذلك الرابط أو الاحساس بالانتماء هو ما نعبر عنه اليوم الرابط أو الاحساس القومي. فإذا جاز لنا التعبير بمصطلحات اليوم لقلنا إن الرابط القومي ربط بين أولئك السكان.

تجانس السكان العرقي
ذكر ماكمايكل أن الدراسات الآثارية والأنثروبولوجية التي قام بها كل من Derry وSeligman وضحت أن سكان منطقة النيل في الشمال حتى وادي حلفا الذين وجدت صورهم في الآثار المصرية منذ القرن التاسع عشر قبل الميلاد وسكان كوش ومروي في العصوراللاحقة هم نفس سلالة السكان الذين وجدت آثارهم في جبل مويا بالجزيرة في القرن الثاني قبل الميلاد. وأن أولئك السكان القدماء يشبهون بدرجة كبيرة سكان جبال النوبة الحاليين. كما أشارت المصادر القديمة إلى الصلة بين سكان غرب وشمال وشرق السودان كما سيأتي.

ما ورد عن السكان في المصادر القديمة
يمكن التعرف على تلك المصادر عن السكان من خلال مرحلتين: المرحلة القديمة قبل ظهور الاسلام والكتابات العربية في القرن السابع الميلادي ومرحلة الكتابات في المصادرالعربية بين القرنين السابع والسادس عشر الميلاديين
1. مرحلة مصادر ما قبل القرن السابع الميلادي:
تناولت المصادر القديمة سكان شمال وشرق ووسط السودان تحت مسميات كثيرة دل بعضها على تجمعات صغيرة والبعض الآخر على مجتمعات كبيرة في حجمها وامتدادها الجغرافي. وقد تعرضت لهذا الموضوع في شيء من التفصيل والتوثيق في ثلاث فصول من كتابي السابق الذكر "السودان: الوعي بالذات" وسأتعرض هنا بإيجاز شديد إلى بعض تلك المسميات كأمثلة لتكوين المجتمع السوداني في تلك الأوقات. وسيتم تناول الكوشيين والنوبة كمثال لسكان الشمال والغرب والوسط، والمِجباري كمثال لسكان شرق السودان. كما سنتاول لاحقاً البليين كمثال آخر من شرق السودان.
الكوشيون
ورد اسم كوش للدلالة على أقصى الجزء الشمالى من السودان في الآثار المبكرة الراجعة إلى القرن العشرين قبل الميلاد. وظل هذا الأسم يستخدم إلى جانب "السود" في العصور اللاحقة. غير أن الأوضاع السياسية تغيرت في السودان في منتصف القرن الثامن عشر قبل الميلاد، فقد ظهرت دولة كبيرة في كرمة عرفت بدولة كوش شاركت الهكسوس في الدلتا والمصريين في طيبة (الأقصر) السيادة على وادي النيل. وخاطب كل من الهكسوس وملوك طيبة السودانيين بملوك كوش طامعين في ودِّهم. فأصبح لقب كوش يطلق على المملكة وعلى السكان. وقد ظل إطلاق كوش على السكان حتى العصر المروي حيث أطلقه الملوك على أنفسهم وعلى مملكتهم.
النوبا والنوباديين
أول ذكر للنوبا – كما يرى المؤرخون - ورد عند إراتوستين Eratosthene (276-196ق م) الذي كان أمينا لمكتبة الاسكندرية. وعنه نقل سترابو(63ق م – 24م). وقد تمكن إراتوستين – بحكم عمله كأمين لمكتبة الاسكندرية – من الاطلاع علي المؤلفات السابقه له والتي كتبت عن مروي والمناطق الواقعة جنوبي مصر مثل كتابات داليون وسيمونيد الذي يقال انه زار مروي ومكث فيها عدة سنوات. لذلك يمكن اعتبار ما كتبه إراتوستين عن الأوضاع في السودان راجعاً إلى ماقبل القرن الثالث قبل الميلاد.
يقول إراتوستين: "ويسكن النوبا (Nubae) الضفة اليسرى [الغربية] من النيل في ليبيا وهم قبيلة كبيرة تمتد من مروي وحتى انحناءة النيل، وليسوا تحت حكم المرويين (Aethiopians) بل ينقسمون إلى ممالك مستقلة متعددة."
وقد أطلق الكُتاب اليونانيون اسم ليبيا على كل المناطق الواقعة غربي نهر النيل حتى المحيط الأطلسي، وفي الواقع فإن ليبيا في مفهومهم كانت تعني افريقيا. وبناءً على ذلك فإن قبائل "النوبا" كانت في القرن الثالث ق. م. قد خرجت عن طاعة مملكة مروي وكونت وحدات إدارية مستقلة عنها في الصحراء غربي النيل.

وحافظت قبائل النوبا على مواقعها واستقلالها من مروي في المناطق الصحراوية غربي االنيل، فعندما دخل سترابو اسوان عام 24 ق.م. لم يغير ما كتبه إراتوستين عنهم. بل وتأكد ذلك عند الكتاب اللاحقين أيضا مثل بطليموس في القرن الثاني الميلادي الذي ذكر – كما نقل عنه اركل- أن النوبا " Nubeiيسكنون الساحل الغربي للنيل والأراضي الداخلية"

وفي القرن الثالث دون أجاثِمِرُس Agathemerus المعلومات التي ذكرها بطلميوس. وهكذا فقد تواترت الاشارات حتى القرن الثالث الميلادي إلى إطلاق اسم النوبا على السكان الذين استقروا غربي النيل على طول المنطقة الواقعة من كردفان ودارفور جنوبا وحتى شمالي السودان. ويمثل هؤلاء النوبا العنصر الأصلي للسكان في كل تلك المناطق قبل القرن الثالث كما يرى De Villard.
وتحدث المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس (توفى حول 565م) والذي كتب باليونابية عن إتفاق تم بين الرومان وقبيلة النوبادي "Noβtaι" في عام 297م للقدوم من منطقة الواحة الخارجة والاستقرار على النيل جنوبي أسوان بينهم وبين البليميين. وقد كُتِب اسم تلك القبيلة الصحراوية في الترجمات الانجليزية Nobatae وكتب بالعربية النوباديين أو النوباطيين، وهم الذين أسسوا فيما بعد مملكة نوباديا المسيحية.

النوبا في نقش عيزانا
أطلق المؤرخون اسم النوبا على الهجرات البشرية التي اجتاحت مناطق الجزيرة والبطانة والمناطق الشمالية شرقي النيل والتي أدت إلى اضعاف مملكة مروي وتقلص حدودها إلى مناطق محدودة على نهر النيل شمالى الخرطوم. يقول توروك عن ذلك:
"يمكن تصور أن تكون مجموعات نوباوية بحلول القرنين الأول والثاني الميلاديين قد استقرت في داخل حدود المملكة. وجود تلك المجموعات قد يكون ولّد عمليات اجتماعية وثقافية قادت بطريقة ما – وهو ما نعرفه في حالات معاصرة أخرى – إلى تفكك ممالك مروي."

ويبدو إجتياح جماعات النوبا لمملكة مروي واضحاً فيما ورد في النقش الذي دون فيه ملك أكسوم عيزانا انتصاراته على دولة مروي. وفيما يلي ترجمة لبعض نصوص ذلك النقش من كتاب آركل الذي نقله عن كيروان .
"أنا ملك الملوك عيزانا ... حاربت النوبا [Noba] ... لأنهم كرروا الهجوم علىMangurto والخاسا والباري [منطقة كسلا الحالية] وعلى السود [قصد بهم سكان مروي الوسطى] والحمر [قصد بهم سكان شمال مروي]. لقد حنث النوبا [Noba]عن قسمهم مرتين وثلاث، وقتلوا جيرانهم بدون رحمة ، وهاجموا المبعوثين الذين أرسلتهم للتحقيق معهم بخصوص غاراتهم وسرقوهم وجردوهم من ممتلكاتهم. وقد حذرتهم لكنهم رفضوا الانصياع وتَرْك أعمالهم الشريرة وتهيأوا للحرب. فحاربتهم علي نهر تكازى [عطبرة] عند مخاضة Kemalke فلم يصمدوا وفروا، وطاردتهم 23 يوما قتلت بعضهم وأسرت البعض الآخر، وأحرقت مدنهم المشيدة بالقصب والمشيدة بالطوب، وأخذت طعامهم ونحاسهم وحديدهم، وحطمت التماثيل في معابدهم وخربت مخازنهم وقُطْنهم وألقيت بكل ذلك في Seda[النيل]. ثم أتيت إلى Kasu وخضت معركة وأخذت أسرى عند إلتقاء نهري تكازى وسيدا ... والمدن المشيدة الطوب والتي أخذها النوبا [Noba] هي Tabito وFertoti. ووصل جيشي إلي حدود النوبة [Noba] الحمر وهزموهم بعون الإله ورجعوا بسلام، وعينت حاكما على ذلك القطر عند ملتقى نهر سيدا وتكازى."

يوضح النص أن عيزان خاض حروبه ضد النوبا على نهر عطبرة وعلى المناطق النيلية شمال وجنوب نهر عطبرة. كما حارب النوبا في منطقة البطانة والجزيرة وعلوة وجنوبيها وشماليها. وهو في ذلك كله يخاطب النوبا سواء أشار إلى الوافدون الجدد أو إلى السكان المحليين. فالنوبا هم كل سكان منطقة الجزيرة ما بين النيل الأبيض والأزرق ومنطقة البطانة بين النيل الأزرق ونهر عطبرة وهم سكان الشمال الذين وصفهم عيزانا بالنوبا الحمر، وهم سكان نهر النيل شمالي نهر عطبرة وحتى حدود السودان الشمالية.

ويبدو مفهوم واطلاق اسم النوبا على كل السكان واضحا أيضا حتى بعد سقوط اكسوم. فقد جاء في كتابات الرحالة الأوربيين الذين زاروا الحبشة في القرن الخامس عشر الميلادي أن Nubi هي بلاد المملكتين المسيحيتين اللتين قضى عليهما الفونج. وجاء في كتاباتهم أن حدود مملكة علوة الجنوبية تمتد حتى ِAgaua جنوبي بحيرة تانا و Dembian شمالي بحيرة تانا، وأن في اقليم النوبا خمسة أنهر تأتي من الجنوب والجنوب الشرقي والجنوب الغربي قصد بها نهر عطبرة والنيل الأزرق وفروعهما والنيل الأبيض.
وهكذا يتضح أن اسم النوبا هو الاسم الذي أُطلق قبل ظهور العرب في القرن السابع الميلادي على كل سكان السودان في الشمال والغرب والوسط ما عدا منطقة الشرق التي عرفت في المصادر القديمة بأسماء أخرى، سنتناول مجموعة المِجَباري كمثال لأولئك السكان
المِجَباري
المِجَباري هو الاسم الذي أطلقته المصادر القديمة على السكان الأصليين القدماء على الساحل الغربي للبحر الأحمر وامتدت مناطق استيطانهم من مواطن البجة الحالية في السودان وحتى المنطقة الواقعة بين الأقصر والبحر الأحمر في الحدود المصرية الحالية شمالاً. وقد عرف المِجَباري قديما بالمازوي والمِجاي والمدجاي والمِجو والمِجا (Medjo و Medju و Medjay) وسنشير اليهم في ما يلي بالمِجا لأنه أولاً الاسم الأقدم، فقد ورد في نقش أوني الذي يرحع إلى الأسرة الفرعونية السادسة (2423 – 2242 ق.م.) ولأنه ثانياً أقرب إلى الاسم الحالي "البجة"
ووضحت الآثار القديمة أن المِجا - وفيما بعد التُرُجلُدايت والبليميين - كانوا يمثلون قطاعاً هاماًّ من سكان مملكتي نبته ومروي، وساهموا بدور فاعل في النشاط التجاري عبر البحر الأحمر ونهر النيل. وكان من الطبيعي أن تأتي الاشارات إلى مواطن المِجا باعتبارها جزءاً من مروي، أو الاشارة اليهم باعتبارهم جزءاً من الكوشيين .
فقد ذكر سترابو الذي نقل عن اراتوستين (Eratosthenes) في القرن الثالث قبل الميلاد أنه: "على جانبي الجزء الأسفل (lower) من مروي على طول النيل في اتجاه البحر الأحمر يسكن المِجَباريون والبليميون، وهم تابعين للاثيوبين [يقصد المرويين] ويجاورون المصريين. وعلى ساحل البحر يسكن التُرُجلُدايت." وهكذا أصبح سكان المنطقة يعرفون بثلاث أسماء: المِجا والتُرُجلُدايت والبليميون.
وهكذا أطلقت المصادر اليونانية والاثيوبية على سكان السودان – بحدوده الحالية – العديد من الأسماء، ولعل الاسمين "النوبا والمجا" كانا من أكثرها شهرة. وكلا الاسمين تم اطلاقه منذ زمن بعيد يعود إلى ما يتعدى الألف سنة قبل ظهور الكتابات العربية واشتهار اسم النوبة بمدلوله الحديث. كما يمكن أن يكون إسم المجا قد ظل حيّاً في اسم البجة الذي ظل حيّاً في المصادر العربية.
2. مرحلة الكتابات في المصادرالعربية بين القرنين السابع والسادس عشر الميلاديين
النوبا في مفهوم العرب
نجد أيضا مفهوم النوبا الواسع عند المؤلفين المسلمين الذين دخلوا مصر بعد أقل من ثلاث قرون من سقوط مروي حيث أطلق بعضهم اسم النوبا للدلالة على كل المناطق التي مر ذكرها عند عيزانا وفي المفهوم الاثيوبى.
فقد جعل كل من اليعقوبي الذي كتب في القرن الثالث الهجري (9م)، وابن حوقل والمسعودي في القرن الرابع الهجري مملكة علوة من بلاد النوبا حيث قال اليعقوبي: "فأما من قصد العلاقي إلى بلاد النوبة الذين يقال لهم علوة" وقال اليعقوبي عن النوبا: "وبلدهم أوسع من الحبشة في نواحيه، وعمارتهم أكثر مما بالحبشة ... ومن أعمر بلادهم نواحي علوة."
وقال المسعودي:
"فأما النوبة فافترقت فرقتين في شرقي النيل وغربيه وأناخت على شطيه فاتصلت ديارها بديار القبط أرض صعيد مصر من بلاد أسوان وغيرها، واتسعت مساكن النوبة على شاطئ النيل مصعِّدة ولحقوا بقريب من أعاليه، وبنوا دار مملكة وهي مدينة تدعى دنقلة، والفريق الآخر من النوبة يقال له علوة، وبنو مدينة للملك سموها سرية." قال مسعد ربما المقصود بمدينة "سرية" سوبة.
وقد أوردت المصادر العربية المبكرة أسماء العديد من القبائل التي عاشت في شمال وشرق وغرب السودان في فترة التسعة قرون التي سبقت ظهور المسميات القبلية الحالية يمكن التعرف عليها باختصار بأخذ أمثلة من: أ.قبائل النوبة ب. قبائل الصحراء الغربية ج. قبائل شرق السودان.
أ.قبائل النوبة
وصف ابن سليم النوبة في مملكتي المقرة وعلوة على النيل وفروعه فقال: "والنيل يتشعب من هذه الناحية على سبعة أنهار، فمنها:
1. نهر يأتي من ناحية المشرق كدر الماء يجف في الصيف حتى يسكن بطنه، فإذا كان وقت زيادة النيل نبع فيه الماء، وزادت البرك التي فيه، وأقبل المطر والسيول في سائر البلد، فوقعت الزيادة في النيل ... وعليه جنس مولد بين العلوة والبجة، يقال لهم: الديجيون، وجنس يقال لهم: بازة يأتي من عندهم طير يعرف بحمام بازين، وبعد هؤلاء أوّل بلاد الحبشة. ... وبلغني أنّ بعض متملكي بلد علوة سار فيها يريد أقصاها، فلم يأتِ عليه بعد سنين، وإنّ في طرفها القبليّ جنساً يسكنون ودوابهم في بيوت تحت الأرض مثل السراديب بالنهار من شدة حرّ الشمس، ويسرحون في الليل.
2. ثم النيل الأبيض، وهو نهر يأتي من ناحية الغرب شديد البياض مثل اللبن... وعليه أجناس من جانبيه.
3. ثم النيل الأخضر، وهو نهر يأتي من القبلة مما يلي الشرق شديد الخضرة، صافي اللون جدّاً ... وبين هذين النهرين، جزيرة لا يعرف لها غاية ... وفي الجزيرة الكبرى التي بين البحرين جنساً يعرف: بالكرنينا. لهم أرض واسعة مزروعة من النيل والمطر ... وهذه الناحية التي فيها ما ذكرته بلدان واسعة مسيرة شهرين في شهرين يزرع جميعها في وقت واحد،
4 – 7 والأنهار الأربعة الباقية، تأتي أيضاً من القبلة مما يلي الشرق أيضاً في وقت واحد ... وجميع الأنهار الأربعة تنصب في الأخضر ... وكلها مسكونة عامرة مسلوك فيها بالسفن وغيرها.
وأضافت المصادر الأخري المزيد من القبائل، فقد ذكر ياقوت (مسعد، المكتبة السودانية ص 166) عند الحديث عن علوة "وخلفهم أمة أخرى من السودان تدعى تكنة ، وأورد ابن حوقل (مسعد، المكتبة السودانية ص 75) "وفي أعالي بلد علوة نهر يجري من الشرق يعرف بأور [النيل الأزرق] وعليه مرنكة قبيل من النوبة فينصب في النيل، ومن أعلاه عن يومين نهر أتمتي [نهر الدندر]، وعليه من النوبه المعروفين بكرسي أمة كثيرة ... ومن غربي النيل الأبيض أمة يعرفون بالجبليين في طاعة ملك دنقلة ..."
ب. سكان الصحراء الغربية
وعن سكان الصحارى غربي النيل وردت الكثير من المادة عن قبيلة الزغاوة وانتشارها الواسع في المنطقة. قال المسعودي: "وإلى الشرق من بلاد كانم وهي المنطقة الواقعة الآن على الحدود السودانية التشادية أي دارفور ومايجاورها مجالات الزغاوة والتاجويين. وصنفت المصادر الاسلامية المبكرة الزغاوة بانهم من السودان مثل النوبة والبجة والكانم أبناء كوش بن كنان بن حام بن نوح."
وأورد ابن حوقل (مسعد، المكتبة السودانية ص 75) لأنه توجد بين أمة "الجبليين وعلوة مفازات زات رمال إلى بلد أمقل وهو ناحية كبيرة ذات قرى لا تحصى وأمم مختلفة ولغات كثيرة متشابهة لا يحاط بها ولا يبلغ غايتهم يعرفون بالأحديين ... وهم في طاعة ملك علوة"
وهنالك جماعات أخرى ذكرهم ابن سعيد وهم بركامي وأهل بنتة وزنج النوبة. وضح أن بركامي بين النوبة والزغاوة والكانم، وحددت بلادهم بأنها في بلاد كوار وزغاوة ووصفهم بأنهم "سودان أهل عافية ولهم أودية بين جبال وفيها نخل ومياه وخضر. والذين يوالون منهم بلاد الكانم مسلمون. والذين يوالون بلاد النوبة نصارى. والذين يوالون زغاوه أهل أوثان."
ووصف ابن سعيد "أهل بنتة" وحدد مكانهم فقال: "وهم سود كفار يفصلون بين الكانم والنوبة". أما زنج النوبة فقد وردت عنهم معلومات قليلة، ذكر ابن سعيد أن قاعدتهم مدينة كوشة، وجعل موقعها إلى الجنوب الغربي من مدينة نوابة التي لم يحدد مكانها بعد في الصحراء إلي الغرب من منطقة دنقلة. وقال الادريسي (مسعد، المكتبة السودانية ص 129) عن مدينة كوشة: "وموقعها فوق خط الاستواء وأهلها قليلون وتجاراتها قليلة وأرضها حارة جافة كثيرة الجفوف جداًّ وشرب أهلها من عيون تمد النيل هناك وهي في طاعة ملك النوبة"
ج. قبائل شرق السودان.
كانت المنطقة الواقعة إلى الشمال من الهضبة الاثيوبية وحتى صحراء قوص شمالاً ذات موارد مائية وكثافة سكانية عالية. فقد ورد ذكر عدد كبير من القبائل وفروعها وأفخاذها وتداخلها في هذه المناطق مثل:
البليين والحداربة والزنافجة وكديم المعروفة بعجات والخاسة وبازين وبيواتيكة وقصعة والماتين ورقابات وحنديبا وسكان تفلين وأمم جوار تقلين وبازين وسكان نهر سنسابي. وقد وردت معلومات بعضها مفصل وبعضها مقتضب عن هذه القبائل. سنتناول فيما بعد قبيلة البليين مثال لهذه القبائل.

العرب في مصادر القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين
ويلاحظ أن المصادر العربية لم تتطرق لذكر القبائل العربية في السودان وبخاصة تلك التي كتبت في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين. فقد شهد القرن الرابع عشر تحول ملوك المقرة للاسلام ونهاية العمل في مناطق التعدين في بلاد البجة ونهاية نشاط ميناء عيذاب، وقد اصطلح على جعل هذه الأحداث فترة اجتياح القبائل العربية للسودان.
وإذا راجعنا مصادر القرن الرابع عشر الميلادي التي تناولت بعض أخبار السودان وجدنا أن الدمشقي الذي تحدث عن مناطق النوبة والبجة لم يشر إلى أي قبائل عربية في تلك المناطق. وقد تناول النويري أخبار صراع المماليك ومملكة المقرة المسيحية حتى تحول ملوكها للاسلام، وتحدث عن مشاركة الأعراب في تلك الحروب، لكنه لم يتطرق إلى هجرة أو تدفق قبائل عربية في أراضي السودان.
كما كتب النويري عن الحملة التي أرسلها السلطان المملوكي الناصر عام 716 ه/1317 م إلى شرق السودان والتي دخلت من عيذاب إلى سواكن ثم توغلت حتى منطقة التاكا (كسلا الحالية) ورجعت عن طريق دنقلة. وكان الغرض من الحملة مطاردة بعض الأعراب في الصحراء الشرقية. غير أن الحملة لم تظفر بالقبض على الأعراب، بل لم تذكر على طول طريقها أنها قابلت أي جماعات أو قبائل عربية. لكن قابلت الحملة بالقرب من نهر عطبرة-كما عبر النويري – "طوائف من السودان بقرب المياه في أودية هناك، فقتل العسكر منهم وأسر وسبى"
أما ابن بطوطة الذي دخل بلاد البجة من البحر الأحمر مرتين عام 726 ه/1326م وعام 732 ه/1332 م فقد قابل بالقرب من سواكن "حي من العرب يعرفون بأولاد كاهل مختلطين بالبجة عارفين بلسانهم" وفي الصحراء بين سواكن وعيذاب وجد "عرب جهينة وبني كاهل وطاعتهم للبجة" فالعرب الذين وجدهم ابن بطوطة في بلاد البجة بعد نحو عقد ونصف من تحول ملوك المقرة للاسلام كانوا تحت طاعة البجة ويتحدثون لغتهم.
أما مصادر القرن الخامس عشر الميلادي التي تبدأ بابن خلدون (ت 808 ه/1406) صاحب النص المشهور عن قبيلة جهينة حيث ذكر أنهم "غلبوا على بلاد النوبة، وفرقوا كلمتهم وأزالوا ملكهم..." وقد كتبت مقالاً نشر في مجلة الدراسات السودانية التي يصدرها معهد الدراسات الافريقية بجامعة الخرطوم المجلد رقم 15 أكتوبر 2009 خلصت فيه إلى أن قبيلة جهينة كانت غائبة تماماً عن كل الأحداث التي صاحبت وأعقبت تحول ملوك مملكة المقرة للاسلام.
أما القلقشندي الذي توفى بعد ابن خلدون (ت 821 ه/1418م) فقد قال عن دنقلة "وهي الآن مملكة مستقلة بذاتها" وبين رسم المكاتبة إلى ملوكها. ولم يذكر جهينة أو غلبتهم على بلاد النوبة أو زوال ملكهم" بل أشار إلى أن ملكهم لا يزال قائماً على عهده. ولم يتطرق القلقشندي إلى ذكر أي قبيلة عربية دخلت السودان.
وآخر ممثلي كتاب هذا القرن هو المقريزي المتوفى في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي (9 ه) فقد ذكر حدثين عن النوبة بعد تحول ملوكها للاسلام الأول عن صراع بين بعض أفراد الأسرة المالكة في دنقلة بعد نحو نصف قرن من تحول ملوك دنقلة للاسلام. تدخل في هذا الصراع أعراب بني جعد والعكارمة وبني الكنز، فوفد أحد أمراء النوبة واسمه ركن الدين كرنبس مستنجداً بالمماليك فأمدوه بقوة أعادت الهدوء إلى المنطقة وهزمت الأعراب.
والحدث الثاني كان أيضاً بخصوص صراع حدث على عرش مملكة دنقلة، فقد وفد ناصر ملك النوبة إلى السلطان المملوكي برقوق عام 800 ه/1397م متظلماً من ابن عمه. ولم يوضح المقريزي نتيجة هذه الزيارة، غير أنها تشير إلى أن مملكة النوبة كانت لا تزال قائمة بعد ما يقرب من قرن من الوقت الذي حدده ابن خلدون لإزالة جهينة مُلْك النوبة.
ويقودنا كل ذلك إلى التساؤل عن مصادر المعلومات التي جعلت من هذين القرنين الفترة التي اجتاحت فيها القبائل العربية أراضي السودان، وترتب عليها النهاية المبكرة لمملكة دنقلة كما تواتر في الروايات، ثم تلى ذلك تحالف القبائل العربية واجتياحها لمناطق وسط السودان والذي انتهى بقيام سلطنة سنار في مطلع القرن السادس عشر الميلادي. من أين أتت هذه المعلومات إن لم ترد في مصادر القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين؟
وننتقل بعد هذا إلى استعراض مثال من احدى قبائل شرق السودان لنتعرف عليها في الفترة السابقة للقرن الخامس عشر ولنبحث عنها بين قبائل الشرق بعد القرن الخامس عشر، تلك هي قبلة البليين.
البليون
ورد ذكر البليون عند الادريسي المتوفى عام 560 ه / 1165 م وبعد ثلاث قرون ردد ابن الوردى المتوفى سنة 861 ه / 1457 م بعض ما ذكره الادريسي عنهم. فقد ورد عنهم ما يلي:
أورد الادريسي نصين عن البيليين أحدهما (في مسعد، ص 131) عند الحديث عن مدينة أسوان جاء فيه:
1. " وربما أغار على أطرافها خيل السودان المسمين بالبليين. ويزعمون أنهم روم وأنهم على دين النصرانية من أيام القبط وقبل ظهور الإسلام غير أنهم خوارج في النصارى يعاقبة، وهم منتقلون فيما بين أرض البجة وأرض الحبشة ويتصلون ببلاد النوبة وهم رحالة ينتقلون ولا يقيمون بمكان مثل مما تفعله لمتونة الصحراء الذين هم بالمغرب الأقصى."
2. والنص الثاني الذي أورده الادريسي عن البليين (مسعد ص 135) جاء فيه: "وبين أرض النوبة وأرض البجة قوم رحالة يقال لهم البَلِيّون، ولهم صرامة وعزم وكل من حولهم من الأمم يهادنونهم ويخافون ضرهم وهم نصارى خوارج على مذهب اليعقوبية وكذلك جميع أهل بلاد النوبة والحبشة. وأكثر أهل البجة نصارى خوارج على مذهب اليعاقبة كما قدمنا ذكره."
أما نص ابن الوردي في كتابة "خريدة العجائب وفريدة الغرائب" عند حديثه عن ميناء عيذاب (في مسعد ص 374) فقد جاء كما يلي:
3. "وبين البجة وبين النوبة قوم يقال لهم البليون أهل عزم وشجاعة يهابهم كل من حولهم من الأمم ويهادنونهم وهم نصارى خوارج على مذهب اليعقوبية."
فالنصوص حددت مكان البليين ووضحت بعض صفاتهم كما يلي:
1. تحديد المكان:
حدد الادريسي في نص رقم 1 منطقة البليين بأنها بين أرض النوبة وأرض البجة، وهي نفس الحدود التي ذكرها ابن الوردي في النص رقم 3. ولما تناول ابن الوردي البليين عند الحديث عن ميناء عيذاب على البحر الأحمر، فإن ذلك قد يدل أن امتداد حدود البليين شرقاً يصل إلى ميناء عيذاب. ووضح نص الادريسي رقم 2 أن امتداد مناطق البليين غرباً تصل إلى حدود مدينة أسوان حيث يغيرون على أطرافها. وبناءًا عليه فإن هذه النصوص قد حددت منطقة البليين ما بين أسوان غرباً وعيذاب على البحر الأحمر شرقا وتمتد جنوباً حتى حدود الحبشة.ً
2.أوصاف البليين:
2-1. وصف الادريسي البليون في النص رقم 2 بأنهم رحالة، ووضح في النص رقم 1 أماكن تجوالهم بأنها بين أرض البجة والحبشة والنوبة. ويدل ذلك على أن مناطق تجوالهم واسعة ولا بد أنهم يشاركون غيرهم من قبائل المنطقة التجول في تلك الأراضي. وقد وصف الادريسي تجوالهم هذا مثل تجوال قبائل لمتونة (الصنهاجية نص رقم 1) التي كانت تتجول في المنطقة الصحراوية الواسعة بين جنوب المغرب الأقصى شمالاً وحتى مناطق نهر السنغال جنوباً.
ولمتونة قبيلة كبيرة قامت على أكتافها دولة المرابطين في القرن الخامس الهجري (11 م) والادريسي
الذي عاش بين صقلية والأندلس والمغرب العربي كان على علم ودراية بحجم وقوة قبيلة لمتونة
الصحراوية, ووصف الادريسي للبليميين بقبيلة لمتونة يشير إلى حجم وقوة قبيلة البليين في الصحراء
الواقعة ما بين مصر والنوبة والحبشة.

2-2. وكانت قبيلة البليين كبيرة وقوية وذات وجود مؤثر في المنطقة، فقد اتفق الادريسي وابن الوردي (النصين 2 و3) على وصف الببليين بالقوة والشجاعة، ووضحا كيف أن القبائل الأخرى المتصلة بها في المنطقة تهابها. وتشير النصوص إلى العلاقة التي كانت قائمة بين القبائل في المنطقة، فرغم المنافسة الطبيعية بين القبائل البدوية على أماكن المياه والكلأ إلا أن علاقة البليين بجيرانها كانت تتسم أيضاً بالطيبة وحسن الجوار يدل على ذلك الهدايا التي كانت تصلهم من جيرانهم، ولا بد أنهم كانوا أيضاً يهادونهم.
2-3. وقد أشارت النصوص إلى جيران البليين الذين يهابونهم ويرسلون إليهم الهدايا ب "من حولهم من الأمم" (النصين 2 و 3) والامم هنا هم النوبة والحبش والمسلمين في جنوب مصر الذين يصلهم البليون في تجوالهم كما ورد في النص. ويفهم من ذلك أن العلاقات بين البليين وبين تلك الدول كانت على درجة قوية من الصلات، ودرجة متقدمة من التنظيم. وفي واقع الأمر هنالك الكثير من الاشارات في المصادر العربية وضحت نضج التنظيات السياسية والادارية لقبائل المنطقة مثل ممالك البجة التي ذكرها اليعقوبي، والتنظيمات القبلية التي أشار إليها المسعودي وابن حوقل.
2-4. ولا يقتصر تنظيم علاقة البليين مع الأمم المجاورة لها فقط، فلا بد وأن تنتظم علاقاتها مع غيرها من قبائل البجة وممالكهم التي وردت الاشارات إليها في المصادر العربية مما يوضح أن المناطق الواقعة بين مملكة المقرة غرباً والبحر الأحمر شرقاً وبين مملكة علوة والحبشة جنوباً والمسلمين في مصر شمالاً قد كانت في القرون الكثيرة السابقة لقيام سلطنة الفونج مأهولة بالسكان.وشهدت قيام أنظمة سياسية وإدرات قبلية مستقرة.
2-5. ووضح النص رقم 1 أن وجود البليين في المنطقة يرجع إلى الفترة السابقة لدخول الاسلام مصر في القرن السابع الميلادي، وأنهم اعتنقوا المسيحية على مذهب اليعاقبة مثل ممالك النوبة المسيحية والذي تم في منتصف القرن السادس الميلادي.
2-6. ربط النص رقم 1 البليين بالروم. ومن المعروف أن الروم مقصود بهم البيزنطيين الذين كانوا يحكمون مصر قبل الاسلام.
2-7 كما وضح النص رقم 1 أن البليين أصحاب خيل يغيرون بها على جيرانهم.
فالبليون كانوا في القرن الثاني عشر الميلادي – عصر الادريسي - قبيلة بدوية قوية وكبيرة تتجول في منطقة واسعة مابين حدود أسوان والحبشة والبحر الأحمر. ويبدو البليون ذوي قوة ونفوذ في المنطقة وعلاقات مع جيرانهم في الشمال والجنوب. فمن هم البليون؟ تعددت وجهات نظر الباحثين والرحالة في التعرف عليهم وفيما يلي بعض تلك الآراء:
1. يميل البعض مثل كراوفورد وروسيني إلى ربط بليين الادريسي ببليين كرن.
2. كما ربط كيروان بين بليين الادريسي وبين البليميين
3. رأى مصطفى مسعد أن بليين الادريسي هم البليميين.
يقول كراوفورد أن بلين هو الاسم الذي يطلقه الباقوس Bagos في منطقة كرن على أنفسهم. ويرى روسيني أن وجود البليين في هذه المناطق قد يرجع إلى القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي، وأنهم بالتأكيد كانوا في شمال اثيوبيا في القرن الرابع عشر الميلادي. ولذلك إفترض أنهم بليين الادريسي، وقد اتضح مما ذكره الادريسي أن تجوالهم كان يمتد حتى حدود الحيشة.
اما كيروان ومسعد فيريان أن بليين الادريسي هم البليين. والبليميون هم فرع قديم من فروع قبائل البجة. وقد وضحت الأدلة الآثارية مثل نقش كلابشة المروي والوثائق التي جمعت عن منطقة شمال السودان ما بين القرنين الثامن قبل الميلاد وحتى القرن السادس الميلادي ونشرتها جامعة بيرقن ووثائق الجبلين المنشورة في كتاب مصطفى محمد مسعد "الاسلام والنوبة في العصور الوسطى" في الملحق رقم 3 أرجعت كل تلك الوثائق وغيرها من المصادر الكلاسيكية وجود البليميين إلى القرون السابقة للميلاد في المنطقة الواقعة جنوب أسوان. كما أمدتنا ببعض المعلومات عنهم حتى القرن السادس الميلادي.
وتوضح السجلات المروية أن البليميين قد استقروا منذ القرن الخامس قبل الميلاد على طول المنطقة الواقعة من اسوان حتى منطقة دنقلا (كلايدي ونترز، بينة مروية ص2). وذكرت المصادر اليونانية السابقة للميلاد (انظر Mac Michael, A History of the Arabs In the Sudan vol.1 p 38) أن المناطق الواقعة حول أسوان هي مواطن البليميين الرئيسية، ويمتدون جنوبا وشرقا نحو حدود اكسوم وميناء أدولس على البحر الأحمر. وهذا الوصف يتطابق مع مواطن البجة الحالية.
فالمصادر القديمة - السابقة للميلاد- تناولت كل سكان المنطقة المعروفة الآن ببلاد البجة تحت اسم البليميين مما يؤكد أن شعوب هذه المنطقة أُشير إليها في المصادر القديمة مرة تحت اسم البليميين وأخرى تحت اسم المِجا ومرة أخرى تحت اسم التُرُجلُدايت. وقد ذكر ماكمايكل (نفس المكان السابق) أن الكتاب المسيحيين المبكرين أطلقوا اسم البليميين على البجة.
لم يكن استقرار وامتزاج البليميين بالسكان السابقين في جنوبي أسوان فقط، بل توضح الآثار الراجعة إلى فترة ما قبل الميلاد (بَرنارد فقرات 116, 123, 136) أن استقرارهم امتد شمالاً في منطقة طيبة في صعيد مصر. وقد ازداد عدد البليميين منذ القرن الأول الميلادي. ويبدو أنهم أصبحوا القوة الرئيسة بين الزعامات المحلية وتشربوا بالثقافة المروية. فقد نقل مسعد عن مصادره أن البليميين بدأوا هجومهم على الرومان عام 250م. وفي نفس الوقت ورد في نص عثر عليه في فيلة – جنوب أسوان - أن ملك مروي تقردماني Teqeridamani 246-266م أرسل سفارة إلى الأمبراطور الروماني حاملاً إليه الهدايا.

ويذكر ترمنجهام سفارة بقيادة أمير بليمي يدعى Pa-smun Ibn Paesi ويصف الأمير نفسه بأنه السفير العظيم إلى روما. وتحالف البليميون مع زنوبيا (الزباء) ملكة تدمر في سوريا عندما هاجمت الرومان في مصر. واحتلوا مدينتي Coptos & Ptolemais في منطقة طيبة.
ويبدو أن البليميين قد بدأوا بسط نفوذهم في المنطقة حتى سواحل البحر الأحمر، لأن إحدي الوثائق الرومانية تحدثت عن تعرض بعض القواعد الرومانية على البحر الأحمر لغارة من سفن البليميين عام 378 م. وربما بدأ إسم البليميين ينتشر بعد امتداد نفوذهم شرقاً فأطلق الرومان إسمهم على سكان المنطقة التُرُجلُدايت. وقد يؤيد ذلك أيضا ما تردد في المصادر عن ترادف استخدام البيليميين والمِجا والتُرُجلُدايت.

وقام البليميون في عام 429 م بغارات على منطقة طيبة والواحة الخارجة التي كانت مركزا رومانيا يطل على حدودهم الصحراوية. وما توفر من معلومات يمكن أن يشير إلى حقيقتين هامتين: الأولي أن البليميين أصبحوا قبل انهيار مروي بوقت طويل سادة المنطقة وجنرالات النهر، ويؤكد ذلك – ثانياً - تطور نظام حكمهم مما يجعل قيام مملكتهم – تحت ظل المرويين – أمراً مقبولاً. هذه الدلائل تشير إلى أنه من المقبول جدّاً أن يسعى البليميون إلى وراثة مملكة مروي بعد سقوطها. ويزيد ذلك تأكيداً نقش كلابشة الذي تضمن في موضعين الاشارة إلى كونهم ورثة مروي. وقد وردت اسماء ستة ملوك بليميين فيما جمعه بَرنارد من نصوص، ثلاث منهم قدرت تواريخ حكمهم في القرن الخامس الميلادي والثلاث الباقين في القرن السادس الميلادي.
والوثائق الأخرى المرتبطة بالبليميين هي ثلاث وثائق مكتوبة على جلد غزال باللغة اليونانية عثر عليها فلاح مصري في منطقة الجبلين على بعد 25 ميل حنوب مدينة الأقصر. وقد ترجمها إلى الانجليزية كيراون وإمِري، ونقلها إلى العربية وضمنها كملاحق مصطفى مسعد في كتابه الاسلام والنوبة تحت عنوان "الوثائق الدالة على استقرار البليميين في منطقة طيبة" وقد أشار برنارد إلى الوثيقتين الأولى والثانية فقرات رقم 336 و334.
الوثيقة الأولى جاءت ترجمتها عند (بَرنارد رقم 336) كالآتي:
"أنا شاراشن ملك البليميين، أكتب إلى أولادي شاراشن وشاراتكور وشاراهيت، أنه طبقاً لأمري هذا قد منحتكم حكم الجزيرة المعروفة باسم تناري، وألا يقف في سبيلكم أحد، وإذا أثار الرومان مشاكل وامتنعوا عن دفع الأتاوة العادية لكم فإنه لا الفيلارك ولا الهيبوتيرانوس يمنعانكم من إرغام الرومان على دفع العطايا العادية عن جزيرتي. شاراشن الملك، تنتكنا: أمير القصر – شاهد، كتبه سانسانوس في اليوم الرابع والعشرين من شهر ....."

وهنالك وثيقة أخرى – رقم أربعة - ذكرها بَرناد clause no. 339، وهي عبارة عن أمر ملكي أصدره الملك باراخيا (Barakhia) إلى صوفيا يشير إلى وضعها أو إقامتها في مكان ما، وقد ورد أن هذا الملك خلف الملك خاراخِن - أو شاراشن كما كتبه مسعد - في الحكم. فنحن أمام أربعة نصوص تتعلق كلها بحكم البليميين منطقة في صعيد مصر. وتسوق هذة الوثائق العديد من الأسئلة عن علاقة البليميين بصعيد مصر وإقليم طيبة، ومدى امتداد نفوذهم عندما دخل المسلمون مصر في القرن السابع الميلادي، أي في القرن الذي تلى عمر هذه الوثائق.
أما عن وجود البليميين في شمال السودان بعد هزيمتهم على يد سلكو ملك النوباديين فإن أغلب المؤلفين يرون انهيار ونهاية مملكتهم وانتشارهم في الصحراء غربي النيل. وقد ورد ما يؤكد وجودهم في المناطق القريبة من النيل واعتاقهم السيحية على المذهب اليعقوبي، وقد ورد ذلك فيما أورده يوحنا الأفسوسي عن عن تنصير ملك علوه.
ومن المعروف أن مملكة النوباديين اعتنقت المسيحية علي المذهب اليعقوبي بخلاف مملكة المقرة التي اعتنقته على المذهب الملكاني. وقد تنافس اتباع المذهبين على تنصير ملك علوة الذي فضل اتباع المذهب اليعقوبى . فأرسل رسله إلى ملك نوباديا يطلب منه إرسال القس لونجينوس ليتم ذلك على يديه. وقد روي يوحنا الأفسوسي تلك الأحداث ونرجع اليها هنا فيما ذكره وليمز بهذا الصدد.
"دبر ملك المقرة الملكاني خطة لإعاقة وصول لونجينوس إلى مملكة علوة لأن طريقه إلى علوة يمر عبر أرضيهم. ولكي يتفادى الوفد هذا الخطر أتصل ملك النوباديين بملك البليميين لكي يساعد البعثة على الوصول لعلوة. وجاء في رسالة ملك نوباديا: "ولكن بسبب المكيدة الخبيثة التي دبرها ذلك الذي يقيم بيننا [ملك المقرة] فقد أرسلت أبي البار إلى ملك البليميين ليوصله إلى داخل البلاد"
يدل هذا على أن البليميين كانوا يقيمون بجوار مملكة المقرة المسيحية وأنهم اعتنقوا المسيحية على المذهب اليعقوبي وهي المعلومات التي وردت في نص الادريسي رقم 1 ونص ابن الوردي رقم 3 عن البليين مما يؤيد رأيي كيروان ومسعد الذان جعلا البليين هم البليميين. غير أن مسعد يرجح أن البيليين وأسلافهم البليميين يرجعون إلى أصل عربي . ويرى مسعد أن لفظ البليميين – كما نطقه اليونانيون والرومان - ما هو إلا تحريف لكلمة بِلاوي التي تدل في لغة التبداوي البجاوية على العرب. وأرى أن هذا الرأى ليس مقبولاً وستتم مناقشته لاحقاً.
وإشارة الروم في النصوص ترجع إلى علاقة البليين بالبيزنطين، وربما نزح بليميي الصعيد الذين كانوا على صلة قوية بالبيزنطيين جنوباً بعد دخول المسلمين مصرفازدادت قوتهم في الجنوب بالقدر الذي وصفوا به في لمن
طقة الواسعة التي انتشرو فيها ما بين النيل في شمال السودان وصعيد مصر وبين البحر الآحمر.
وإذا قبلنا الرأي الذي يقول أن بليين الادريسي هم البليميين – وأرى أنه رأي مقبول – نتقدم خطوة أخرى لرؤية الآراء التي ربطت البليميين بالبلو، فقد تم الربط بين البلو وبين الكثير من القبائل والمناطق بي بلاد البجة وسنتعرض لذلك عند الحديث عن البلو.
ومن الملاحظ أن المصادر العربية لم تتعرض لذكر البليميين ما عدا الادريسي وابن الوردي، فلماذا لم تتعرض المصادر للبليميين ذوي الثقل الواضح في صعيد مصر قبل أن يدخله المسلمون؟ لا شك أن الأمر يحتاج إلي المزيد من العناية والبحث خاصة وأن المصادر العربية لا تمدنا بمعلومات وافية عن فتوحات وحروب المسلمين المبكرة في عصري عمرو بن العاص وعبد الله بن سعد في صعيد مصر كما فصلت عن الحروب في الوجه البحري. والمؤلف الوحيد الذي أورد تلك المعلومات هو الواقدي الذي يسيطر طابع الملاحم وعدم الدقة فيما كتبه عن تلك الحروب.
غير أن افراد ولاية خاصة لصعيد مصر منفصلة عن ولاية عمرو بن العاص تولاها عبد الله بن سعد بن أبي السرح في الخمس سنوات الأولى من دخول المسلمين توضح أن الأحداث في الصعيد قد تطلبت تلك الادارة المنفصلة. ولكن سكوت المصادر العربية عن تلك الأحداث يتطلب أيضاً المزيد من العناية والبحث. والمعلومات القليلة الوارة هنا وهناك في المصادر تحدثت عن البجة في الفترة المبكرة،. فابن حوقل – مثلاً – يقول:
"فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما فتح مدينة أسوان، وكانت مدينة أزلية قديمة، وكان عبر إليها من الحجاز وفهر جميع من كان بالصعيد وبها من فراعنة البجة وغيرهم." تؤكد مثل هذه المعلومات وجود البجة في صعيد مصر ومشاركتهم أهل الصعيد في حروبهم ضد المسلمين.
ومرة أخرى نتساءل لماذا سكت الكتاب الذين تناولو المنطقة عن ذكر البليمين، مثل اليعقوبي وهو أول من أورد معلومات مفصلة عن قبائل البجة وممالكهم في القرن الثالث الهجري (9 م) وابن حوقل في القرن الرابع الهجري وهو الذي زار المناطق الشرقية من أرض البجة وكتب معلومات كثيرة عن قبائلهم. وكذلك المسعودي في القرن الرابع الهجري (10 م) الذي استقر في مصروقتعض ال لب ولا فيما نُقل عن ابن سليم الأسواني الذي زار مملكة المقرة في القرن الرابع الهجري (10 م)
يبدو معقولاً أن المصادر قد أشارت إلي البليين ولكن تحت أسماء أخرى. فالمصادر تذكر أحياناً اسم البجة لوصف كل القبائل بصورة عامة دون التعرض لأسمائهم. فابن سليم مثلاً (مسعد ص 113) يقول: "والبجة الداخلة ... حالهم في الظعن والمواشي و... كحال الحداربة." وإشارة ابن حوقل السابقة للبجة في منطقة أسوان يبدو معفولاً أن المقصود بها البليميين. وهنالك احتمال آخر يبدو معقولاً جدّاً وهو أن تلك المصادر تناولت هذه القبيلة ولكن تحت أسم آخر. فالمنطقة التي تحتلها قبائل البجة الحالية كانت ذات ثقل سكاني واضح وقبائل متعددة كما سيتضح فيم يلي.
الخاتمة
عرَّفت المصادر بسكان السودان منذ القرن العشرين قبل الميلاد أي منذ ما يزيد قليلاً على الأربعة ألف سنة. واتضح التداخل والصلة العرقية بين سكان ما بين البحر الأحمر شرقاً ومناطق درافور غرباً وبين منطقة حلفا شمالاً ومناطقة السدود جنوباً. وهؤلاء السكان يمثلون جزءاً من السكان الأصليين للقارة الافريقية، لم يهاجروا إليها من الخارج بل تكونوا نتيجة التفاعل الطبيعي بين المناطق الغنية بالموارد المائية المتمثلة في النيل وبين المناطق ذات الموارد المائية القليلة المتمثلة في الصحراء غربي النيل.
ولا أود الخوض في أجناس القارة الافريقية ولكنني أشير إلى أنه ليس هنالك جنس واحد فقط في افريقيا كما ليس هنالك جنس آسيوي أو جنس أمريكي. توجد أجناس متعددة آسيا وفي أمريكا وأجناس متعددة في افريقيا، وأجناس افريقيا تتفاوت ألوانها ما بين الأبيض في شمال افريقيا والأسمر في مناطق السافنا والأسود جنوبي الصحراء.
ويتضح من المصادرر أن سكان السودان حتى القرن الخامس عشر كانوا خليطاً من اللون الأسود (سودان) والأسمر كما ذكر القلقشندي عن النوبة (مسعد ص 284) "ولون بعضهم يميل إلى الصفاء، وبعضهم شديد السواد" أو كما قال ابن حوقل عن البجة مسعد ص 64 " وألوانهم أشد سواداً من ألوان الحبش" واللون المائل إلى الأبيض يمثلة أمازيغ شمال أفريقيا.
واتضح من المصادر العربية أيضاً أن كل المنطقة الواقعة في حدود السودان الحالية كانت مأهولة بالسكان. فقد ورد الحديث عن أكثر من ثلاثين تجمعاً سكانيّاً ما بين أمم وقبائل مثل أمة تكنة خلف علوة، وأمة كرسي التي وصفت بأنها أمة كثيرة، و الأحديون الذين وصفوا بأنهم "أمم مختلفة ولغات كثيرة متشابهة لا يحاط بها ولا يبلغ غايتهم". وبازين وباريه في شق خور بركة الذين وصفهم ابن حوقل (مسعد ص 64) بأنهم "أمم كثيرة"
ووُصِفت القبائل بأنها كقبائل العرب لها أفخاذ وبطون كما لقبائل العرب. فقد قسم ابن حوقل (مسعد ص 72) قبيلة الحداربة في شرق السودان إلى سبعة بطون وقال عنهم: "ويتفخذ لهؤلاء القوم كل بطن إلى نحو مائة فخذ" وعن قبيلة بيواتيكة البجاوية قال(ص 71) " تزيد على الاحصاء ولا يُبلغ عددها"
فالسودان بحدوده الحالية كما تحدثت عنه المصادرالمصرية والمروية واليونانية والعربية كان ذا كثافة سكانية عالية، وأولئك السكان هم سكان أصليون في القارة الافريقية، ربطتهم المصادر بتراب هذه الأرض منذ القرن العشرين قبل الميلاد وحتى القرن الخامس عشر الميلادي. وفجأة اختفت أسماء تلك القبائل والتجمعات السكانية المتعددة بعد القرن الخامس عشر ولم نجد من تلك الأسماء إلا القليل النادر مثل النوبة والخاسة والحلنقة والزغاوة، فكيف اختفت تلك الأسماء؟
هل انقرضت وأصبحت من القبائل البائدة في طرفة عين من عمر الزمن، وظهرت في مكانها ومنذ القرن السادس عشر الميلادي قبائل وسكان جدد؟ وإذا لم يكن ذلك كذلك فما هي الصلات بين القبائل القديمة والجديدة؟ وكيف ولماذا تغيرت المسميات؟ لا بد من البحث الجاد للاجابة على مثل هذه الاسئلة لنصل حاضرنا بماضينا القريب جدّاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.