الإنقسامات التي تنتاب تنظيماتنا السياسية الناشطة الآن لا تبعث القلق على المستقبل في حال كونها قائمة على بينات فكرية. ولكنها تكون كذلك في حال أن تتمظهر الخلافات الشخصية كعامل مؤثر، وأساسي في هذا التشطير، أو الإنشطار. "السودان يمر الآن بظروف إنتقال عصيبة، وعصبية في كل شئ، وذلك ما قد يجعل إنقسامات المنظمات السياسية والمدينية مفهومة النشاة". قد توحي قائلة بهذا. وقد تعضد قولها بأن ضبابية مواقف المثقفين حيال الأزمات الراهنة، وخفوت ضوء الوضوح النظري بالنسبة لهذه التنظيمات يزيد من ضجر المهتمين بالعمل المعني بإحداث التغيير حاضرا ولاحقا. بيد أن كل هذا الوحي السياسي قد لا يعطينا إجابات شافية لأسئلة تصدع تنظيماتنا القومية، وتنافر جماعة الجبهة العريضة، وتآكل وحدة تنظيم حق، فضلا عن تناسل الحركات الدارفورية عند كل منعطف تفاوضي مع الحكومة. الأفكار الكامنة في ذهن أي فرد راشد عن هذه الإنقسامات قد تفتح الباب لحوار مسؤول وجاد يوصلنا إلى الإجابات الأخرى التي يفرزها النقاش. ولكن للأسف فتاريخنا لم يوجد بعد المتراكم من الحوار السياسي الخلاق بالقدر الذي يعين الأجيال في التحاور الإيجابي والتثاقف الملهم لبحث أرضية مشتركة لنقد الماضي الثقيل، والحاضر المدلهم، وهشاشة التنظيمات، وتكاسل الشخصيات، وضبابية المواقف، إلخ. والحقيقة أنه إذا كان قد تم الإعتراف من قبل الناشطين سياسيا ومدينيا بالحوار كقيمة بناءة للنماء السياسي لأمكن تفادي هذه الإنشطارات السياسية، والتي كان ينبغي أن تكون احد هموم رجال دولة ومجتمع، وهؤلاء هم مفقودون في بلادنا. ومن هنا يجوز القول إن غياب الحوار والإستعاضة عنه بتشقيق الفكرة والتنظيم معا إلى فرع أو فرعين، وربما يزداد العدد هو الذي أوجد التباعد والتباغض السياسيين واللذان يكبلان أي جهد لصناعة مستقبل وضيئ للمواطنين. وصحيح أن المجتمعات التي تعايش فترات الإنتقال السياسي الطويلة والمليئة بالتعقيدات تفرض عسرا في التوصل إلى الإتفاق أو التناغم المديدين. فدولة مثل السودان، والتي يراها أستاذنا عبدالله علي إبراهيم بأنها غير متخلفة، تضم أعراقا متباينة نفسيا، برغم ما يوحدها من مشاعر دينية وإجتماعية. وتضم الدولة أيضا تيارات آيدلوجية عصية إزاء تقديم تنازلات وفاقية، وتعايش الدولة كذلك تدنيا في بيئات التسامح والحرية وتتوالد فيها الغبائن عند كل فجر جديد. كل هذه المثبطات السياسية لا تفرض بالضرورة إستقرارا في العمل السياسي، وبالتالي تحمل تنظيماتنا الواعدة منها، و(الخائبة) اصلا، جرثومة إنشقاقاتها: حالة غياب الديمقراطية بمعناها العريض وليس السياسي فحسب. فالديمقراطية تعني إقامة الحوار للوصول إلى صيغ تفاهمية لإدارة الخلاف وإمتصاص مؤثراته السالبة. ومتى ما غابت الديمقراطية عن سلوك الأفراد إنعكس ذلك وبالا على إتحادهم. والحقيقة المرة التي يجب أن تقال بلا خجل هي أن ثقافتنا السودانية، على ما فيها من إيجابيات، تشدنا سلبياتها إلى الإنغلاق، وعليه لا تساعد في إنفتاحية ودمقرطة الفرد ومجموعه. بل وينمي سالب هذه الثقافة سلوكا للإنفراد، وقهرا للآخر، وما إلى ذلك من الجوانب السالبة التي نلحظها في تعاملاتنا وسلوكياتنا اليومية. في شأن بعض الإنقسامات في تنظيماتنا السياسية يتحمل الحزب الحاكم مسؤولية ما آلت إليه البلاد من أوضاع مزرية. هذا بجانب أن هناك أسبابا عضوية أخرى تتحمل نتيجتها هذه التنظيمات. ولكن لا يمكن لوم المؤتمر الوطني على دوره في تفتيت وحدة الأحزاب التقليدية أو جماعات دارفور المسلحة عبر زيادة الرتق هنا والرهق هناك. فوظيفة حزب الحكومة هي الكسب على حساب تعويق وتفشيل التنظيمات المعارضة وشل حركتها الموحدة. وإذا لم يكن هذا هو عمل المؤتمر الوطني القائم على تمزيق أي وحدة تهدده وقد لا تهدده فما هو العمل الذي يقوم به من اجل تنمية إستمراريته المفروضة فرضا. بطبيعة الحال يرى المثاليون أن هناك مسؤولية أخلاقية او دينية للحزب الحاكم توجب عليه ألا يهدد النسيجين السياسي والعرقي مثلا. غير أن الحزب الإسلاموي حين يمارس السياسة انما يمارسها كسياسة وليس كدين، فهو ينحكم بالصراع الأرضي، ويتورط فيه، ويكون جزء من حسناته وسيئاته، وبالتالي فالمطلوب منه أن يحترف الممارسة الخاطئة في سبيل أن ينتصر على الآخرين في هذا الصراع البشري، ويحق لأعضائه من ثم الإعتراف بالأخطاء أو أن من حقهم أن يستبطنوا في داخلهم زعما أنهم يفعلون الخطأ الوضعي لصالح الصحيح العقدي، فقه الضرورة.
والملاحظ أن الانقسامات الحادثة في منظمات المجتمع المدني في الداخل والخارج جاءت نتيجة لسياسة الحزب الحاكم والتي كما قلنا انها تفترض أن بقائه مرتهن بضعف التنظيمات المعارضة وغير المعارضة. ولعل هذه السياسة التي تنطلق من الاستراتيجي الاسلاموي على حساب الاستراتيجي القومي قد أفرزت العديد من الازمات في البلد وفي داخل التنظيم الإسلاموي، والذي هو الآخر قد إنشق إلى نصفين وأصبح فيما بعد مثقلا بالمزيد من المشاكل التي افرزتها سياسته، وربما قد تطيح به. أما في شأن الإنقسامات التي لا علاقة لها بالحزب الحاكم فإن معظم اسبابها يعود إلى عدم الإلتزام بالمؤسسية التي تحكم علاقة المتنظمين سياسيا وعسكريا ومدينيا، وذلك إن وجدت المؤسسية وتم الإحتياط لها منذ بداية إنطلاق العمل. فالعمل المؤسسي، كما نعرف، يأتي عبر التطور من مجتمع العشائرية الى مجتمع العقلانية، ويأتي ايضا عبر الإستقرار، والنقد، والرغبة في الإصلاح والتسامح والحوار. وإذا كان الفرد السوداني وليد هذه البيئة التي تغيب هذه اللوازم الأساسية لتطور العمل التطوعي، فكيف يمكن لتنظيماتنا السياسية أن تفارق محطات الإنشقاق وهي ما تأسست إلا لتجزئ ذاتها إلى أكثر من نوع. لقد جاءت الجبهة العريضة كتنظيم واعد لملأ الفراغ الملاحظ في العمل المعارض، وإستبشر بعض المعارضين خيرا بالفكرة، خصوصا وأن على رأسها الاستاذ على محمود حسنين الرجل الذي إتضح أنه الأكثر مصداقية ووضوحا في خلافه السياسي مع الإنقاذ. كما أن من عوامل الإستبشار أن الكثير من المعارضين الذي إنضم إلى الجبهة يملك روحا مبدئية مختبرة. ولكن للأسف قبل أن يمر الحول بدأت الخلافات تدب وسط المؤسسين إلى أن إنشق التنظيم. اما الإنشقاق الآخر المؤسف فهو ما حدث لتنظيم حق، فقد فرح بعض الديمقراطيين لتأسيس الراحل الخاتم عدلان والحاج وراق وآخرين للتنظيم. ولكن إنشق التنظيم وهو لما يثب لتأكيد وجوده. وفيما بعد واصل التنظيم عمله لفترة إلى أن فجعتنا الأنباء بإنقسامه على أيدي بعض قادته. والملاحظ أن إنشقاقي الجبهة العريضة وحق صحبتهما ملاسنات وإتهامات ما كان ينبغي للرفاق هنا وهناك أن يستمرأو ا في تغذيتها إذا كان سبب الإنشقاق أصلا يعود إلى بينات فكرية، فرضها مثلا الإختلاف حول مفهوم العلمانية، أو الدستور المقبل للدولة. إن آخر إنشقاقات حركات دارفور تمثلت في إصدار مجموعة من حركة التحرير والعدالة بيانا أقال الدكتور التيجاني سيسي عن رئاسة الحركة. والملاحظ أيضا أن هذا التنظيم والذي جاء تكوينه بعد ولادة متعسرة وهو لم شعث لحركات إنشقت عن أخرى، قد توصل إلى حوار متقدم مع الحكومة فيما يتعلق بالوصول إلى إتفاق سلام في دارفور، ولا ندري المصير الذي ينتظر مفاوضات الدوحة والتي علقت عليها جهات دولية وأقليمية وسودانية آمالا عراضا لخلق إختراق حتمي في المشكل الدارفوري. حقا إننا بحاجة إلى وضع منهج لإدارة الخلاف الفكري والسياسي قبل التفكير في تكوين تنظيمات تطوعية هدفها الأساسي هو تحقيق الإنشطار آن عاجلا أم عاجلا. وهناك حاجة أخرى لدعوة إختصاصيين في علم النفس لبحث سخائم الشخصية السودانية ومعرفة ما إذا كانت هذه الخلافات والإنشقاقات الحادة التي تفجعنا بين الفينة والأخرى تعود إلى خلل جوهري في وعينا ويحتاج إلى المعالجة. أما الحاجة الثالثة فهي ضرورة الإعتراف بأن كمون عناصر الإختلاف داخل كل وحدة عمل سودانية يعتبر أكثر من كمون عناصر الإتفاق حتى وإن بدت لنا صورة هذا العمل من الخارج متسقة او يحفها التضام.