بقلم: إيان مارشال ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي تقديم: هذه محاولة لترجمة مقال قصير لأستاذ اسكتلندي هو إيان مارشال، نشر في مجلة دراسات السودان، العدد السابع، والصادر في شهر يناير من عام 1990م. عمل السيد مارشال مدرسا في مدارس عديدة في شمال السودان، وعمل من بعد ذلك في مركز فيتنامي بمنطقة سري (من أعمال لندن). كتب ونشر بعض حكاياته عن فترته في شمال السودان في بعض المجلات المتخصصة في السفر والرحلات. لم يعجبني تهكم الكاتب على تخلف البلاد، وقسوة الحياة فيها، إضافة لما يبدو أنه قلة احترام وحساسية لثقافتها ومعتقدات أهلها، خلافا لما سجله المدرس البريطاني (بول آدمز) الذي ترجمنا طرفا مما كتب عن سنار ومدرستها الثانوية قبل شهور. كانت عقارب الساعة تشير إلى الثالثة والنصف عصرا في يوم عمل، قائظ الحرارة، كثيف الغبار، في قرية في شمال السودان اسمها "أرقو". حينها كان عليَ الدور لأصنع لرفاقي الشاي. طفق "محمد عثمان" يهجوني بصوت عال – كما هي عادته- بعد مغادرتنا معا للمدرسة التي نعمل فيها سويا، ويرثى لحالي كاسكتلندي ملحد ليس له بعد الموت – كما يعتقد جازما- غير نار جهنم خالدا مخلدا فيها. كان بعض من أصدقائي البريطانيين المتشككين في سلامة عقلي يؤمنون أيضا أنني في طريقي فعلا للنار بعد أن قررت هجر برد "ادنبرة" وسلامها، ومشروباتها الباردة في ليالي السبت، والرحيل إلى لظى صحراء السودان القاحلة! كان السودان بالفعل – ومنذ آلاف السنين- مكانا للانتقاد. فلقد وصف المصريون القدماء المناطق الواقعة جنوب "وادي حلفا" الحالية بأنها "أرض الأموات". بعد قرون طويلة من ذلك الزمان، وصف الرحالة المستكشف "إيوارت اسكوت جروجان (هو رحالة وسياسي بريطاني عاش بين عامي 1874 – 1967م، وكان أول من عبر أفريقيا بكاملها من كيب تاون إلى القاهرة راجلا في رحلة استغرقت عامين ونصف، وكان حينها في الرابعة والعشرين من عمره. المترجم) جنوب السودان بأنها "أرض تخلى عنها الرب God-forsaken" وأنها "الأرض اليباب". كتب يقول إنه أحس أن رحلته في تلك الديار كانت بمثابة تمهيد أو "بروفة" للحياة الأخرى. وكتب يقول معزيا نفسه: "أما وقد جبت "جنوب السودان" الآن، فقد زال عني كل شعور بالخوف والرهبة من الآخرة". وكتب الصحفي المرموق ج. دبليو. ستيفنس في بداية القرن الماضي يهجو شمال السودان بالقول إنها "أرض خراب خاوية، ملعونة من الرب، يخلد فيها العذاب". وفشل كل المعلقين والكتاب في رصد أي صورة زاهية لذلك المليون ميلا مربعا الذي يكون أكبر قطر في أفريقيا. وصف الجنرال غوردون أرض السودان بأنها "ممتلكات عديمة القيمة". بل وتجد حتى عند السودانيين (الذين لا يحبذون الكلام المسيء لبلادهم) مثلا عاميا يفيد بأن "الله قد ضحك عندما خلق السودان" (هذا بالطبع ليس مثلا سودانيا، ولكنه عنوان لكتاب ألفه بريطاني كان يعمل في السودان اسمه أنتوني مان، ونشر في عام 1954م. المترجم). تعكر صفوي (أكثر مما هو عليه) عندما نبئت أن قرارا قد صدر بنقلي من مدرستي في أرقو إلى مدرسة أخرى في قرية نوبية بعيدة هي "عبري". بدأت رحلتي في برد صباح أحد الأيام، بعد نحو ساعتين من دخول المتقين من المسلمين مساجدهم لأداء صلاة الفجر. كان علي أن أركب "بوكسي" من وسط قرية "كرمة" (وهي - وخلافا للعادة - قرية جميلة) في "يوم السوق" لألحق بأحد الحافلات (البصات) المتجهة لحلفا. كان "البوكسي" سيارة تايوتا نصف نقل، بها كنبتين للركاب في الخلف، وسقف مصنوع (محليا) يحمي الركاب من لهب الشمس، ويوفر أيضا سطحا إضافيا كبيرا لمزيد من متاع الركاب. تقتصر فكرة السفر في السودان على التنقل من النقطة (أ) إلى النقطة (ب) دون كبير اعتبار لمفهوم الراحة والفخامة. لم امتعض (كثيرا) عندما وجدت نفسي عاجزا تقريبا عن التنفس وأنا مسمر على مقعدي ومحشور بين سيدتين سودانيتين بالغتي الضخامة. يتغلب الناس على مشاق والآم الترحال في تلك الظروف القاسية بقدر كبير من التجاهل والعزيمة والإصرار يبعث على الإعجاب. طاف "البوكسي" على كثير من شوارع أرقو بمبانيها المبنية على الطراز العربي بالطين والطوب، والتي كثيرا ما تترك دون طلاء خارجي، معطية الإحساس بأنها نبتت طبيعيا من التربة الرملية التي تقوم عليها. لا وجود للشوارع المسفلتة إلا على بعد 300 ميل جنوبا إلى الخرطوم. يمتاز السائقون هنا بمهارة فائقة تتيح لهم معالجة السير في تلك الطرق الرملية الوعرة. لم يكن من الغريب رؤية بعض اللواري المقلوبة على جانبي الطريق، أو السيارات الغارقة في "وحل" الرمال. ومع سيرنا ك"الوجي الوحل!" في شوارع تلك القرية، كان الصبية يتقافزون على مؤخرة "البوكسي" واضعين – دون وجل- قدما واحدة على السلم ويدا وحيدة على أحد قضبان سطح المركبة. لم يحدث طوال السنين الأربع التي قضيتها في ذلك الصقع أن أصاب مكروه أحد أولئك الصبية المغامرين! لم نكد نصل"كرمة" حتى كان رفاقي في "البوكسي" قد انغمسوا في "ونسات" صاخبة مع بعضهم البعض أنستهم وعثاء السفر وكآبة المنظر وطول المسافة، وهم يقبضون على ما أمامهم من مقاعد ومقابض وبشر، بينما كانت المركبة تعالج بصعوبة كبيرة السير في طريق بالغة الوعورة، وتنذر برميهم خارجها، أو بضرب رؤوسهم بالسقف القريب، وهو مليء بالمسامير وزوايا الحديد العارية. تعد "كرمة" هي المدخل الشمالي لمنطقة المحس. يتحدث الناس من "الغابة" جنوبدنقلا إلى البرقيق (التي تقع بين "كرمة" و"أرقو" على الشاطئ الشرقي للنيل، لغتهم (أو رطانتهم) الدنقلاوية الخاصة، بينما يتحدث الناس في جزيرة "بدين" (الواقعة في محاذاة كرمة) الرطانة الدنقلاوية والمحسية. تعد الرطانة المحسية هي الرطانة الأساس في المناطق الواقعة بين "كرمة" و"عكاشة" شمالا، حيث تتغير الرطانة هنالك إلى "الحلفاوية". معروف أن كل هذه القبائل و"الرطانات" مستمدة من مصدر واحد هو اللغة والثقافة النوبية، والتي سبقت دخول العرب للمنطقة بكثير، بيد أن هذه الثقافة واللغة في طريقها للاضمحلال والاندثار، تماما مثل ما اندثرت الثقافة السلتية واللغة الغيلية في اسكتلندا. عثرت (أخيرا) على المكان الذي تبدأ منه اللواري رحلتها من "كرمة" على ضفاف النهر. في تلك اللحظات كانت الشمس ترسل علينا بلا رحمة شواظا من لهب، بيد أن وجود صف من أشجار النيم على ضفاف النيل خفف من غلواء حر ذلك المكان للقادمين للسوق وسائقي اللواري والمتسكعين كذلك. خلف تلك الأشجار شاهدت من على البعد عددا من المراكب الكبيرة المحلية الصنع تحمل مجموعات من النساء تعبر بهن من وإلى جزيرة بدين، وأشرعتها البيضاء ساكنة تماما وهي تمخر في صمت وجلال عباب النهر وكأنها بجعة تتمايل فوق سطح الماء! سمعت أيضا ضجيجا عاليا آتيا من صف من العشش الصغيرة يعمل تحت ظلها الشحيح حدادون يكابدون حر أدوات عملهم الشاق إضافة لحرارة الشمس اللاسعة، والعرق يتساقط من أجسادهم، وصغارهم ينفخون كيرهم بالقرب منهم. بصعوبة وجدت لوريا متجها إلى وادي حلفا قبل سائقه أن يأخذني إلى "عبري". ومن سوء الحظ فقد كان السائق على وشك بدء رحلته الطويلة الشاقة، فلم أعثر في كامل اللوري إلا على مكان صغير جدا في الخلف فوق أبوب حديدية مرصوصة كان سطحها (وهي في الظل) يشبه سطح مقلاة حامية. صعدت إلى أعلى اللوري واستقريت على ذلك السطح العالي، ومنه بدأت استكشف الجموع البشرية الحاشدة المكتظة في ذلك اللوري، والذين سيكونون "رفقاء السفر" للستة وعشرين ساعة القادمة. بدأنا في التحرك من "كرمة" وسرعان ما بدا لنا ذلك الفراغ الصحراوي العريض الخالي من أي أثر للحياة قبل أن يحاذي الطريق نهر النيل في قرية "الفريج". مع هبوط وصعود اللوري في الطريق المتعرج، قفزت في الهواء من أعلى اللوري ووقعت – وأنا في غاية الألم- على ذلك السطح الحديدي اللعين مرات عديدة. طافت بخيالي في تلك اللحظات ذكرى عابرة لعالم تركته، فيه قطارات سريعة وسيارات لامعة ذات مقاعد مريحة. لقد هيأت نفسي وأعددتها للعيش في بلد يرزح تحت نير نظام عسكري ديكتاتوري ومجاعات وحروب أهلية، بيد أني كنت عاجزا عن الصمود أمام كل هذا العذاب، الذي كان يعده الناس هنا أمرا يوميا عاديا لا يؤبه له، ويعالجونه بالصمت والصبر الجميل، إذ ليس لهم من بديل. عاملني رفقاء الرحلة تلك معاملة "ملكية"، فلقد أخرج كل واحد منهم حفنة تمر وأهداها لي، وقدم رجل نوبي لنا جميعا (وعددنا أربعين) في منزله الصغير أكوابا من الشاي، وعرض علينا كل من قابلناه شيئا...أكوابا من الماء، أو بعض الطعام، واستضافونا جميعا في المساجد الصغيرة (وهي المكان التقليدي لضيافة الغرباء). لم تكن تلك الضيافة في ظني أمرا استثنائيا بسبب وجودي كبريطاني أجنبي بين ركاب اللوري، بل أمرا عاديا جبل الناس هنا عليه. ساد بين كل الركاب اتفاق غير مكتوب أو منطوق مفاده أن يعامل كل واحد الآخر بما يحب أن يعامل به. لقد ظل المثل السوداني القائل بأن "الرفيق قبل الطريق" يرن في أذني ويصدق أمام ناظري في كل رحلة قمت بها في أرجاء السودان. أثارت شجوني رحلة عودتي من أكثر مناطق العالم حرارة – على متن طائرة الخطوط الجوية السودانية- إلى دياري. وصلت لندن وابتلعتني لجة من البشر في مطار "هيثرو" حيث رجعت إلى الأوجه ذات التعبير الثابت والبارد والصامت دوما، وحيث تعد أي محاولة للعطف على، أو التواصل الإنساني مع شخص غريب بمثابة محاولة للتعدي أو الهجوم. دلفت إلى بوابة محطة لقطارات الأنفاق وكأني أدخل بوابة لجهنم. صدمني راكب دون أن يعير أدنى انتباه لما تمتمت به من عبارات الاعتذار، وشعرت بأن حراس القطارات تلك هم سدنة تلك النار. لفحتني رائحة كبريت كريهة وأنا أخرج من قطار الأنفاق في محطة ما لأستقل القطار المتجه إلى "ليستر ايسكوير" ... badreldin ali [[email protected]]