عندما ذهبت الى شمال السودان منتقلا من مدينة كوستي كان عمري نحو اربع سنوات، وقضيت فيها المرحلتين الابتدائية والوسطى، وبعدها فارقتها نهائيا، والسبب في ذلك ان اهلي من الجهتين كانوا موزعين بين كوستي والخرطوم بحري، وطوال العقود الماضية ظل بيتنا في بدين مهجورا، ويقال ان قبيلة من الجن تقيم فيه، ومن ثم لم تتعرض محتوياته للسرقة، رغم توافد أعداد كبيرة من المهاجرين من مختلف أرجاء السودان على بدين في السنوات الأخيرة، ولا نستطيع ان نعرضه للبيع لأن المشتري سيشترط إخلاء البيت من الجن، وقد مات كل أجدادي الذين كانوا متخصصين في التصدي للجن. طبعا كنت خلال سنوات الدراسة في بدين والبرقيق اسافر في الإجازات الى كوستي وأعود لأحدث أقراني عن دار الرياضة (صاروا لاحقا يسمونها \"استاد\") والسينما والآيسكريم، وكانوا يعتبرون ذلك كذبا وخرافات، وبعد ان التحقنا بوادي سيدنا صار كثيرون ممن كانوا \"يكذبونني\" يطلبون مني النصح في كيفية دخول دار الرياضة وشراء الدندرمة، وكان منهم من اشترى دندرمة في الاجازة ووضعها في الشنطة ليهديها الى إخوته في الإجازة في المديرية الشمالية.. وكانت الرحلة من والى الشمالية في ذلك الزمان تتم عبر مسارين، أولهما قطار كريمة والآخر بالنسبة إلينا اهل بدين، يبدأ من أكد التي تقابل بدين من الغرب، ومنها نركب اللواري الى ام درمان.. كانت تلك الرحلة ضربا من الانتحار، فليس على طول الطريق الذي كان اجتيازه يستغرق نحو 40 ساعة اية علامات، وكانت به أجزاء رملية في منطقتي الباجة وابو ضلوع يجتاز اللوري الكيلومتر الواحد منها في ساعتين.. وكان هناك شيطان اسمه ابو كدوس كان يجري امام اللواري ليلا وضوء باهت ينطلق من كدوسه (البايب) ليضلوا الطريق في الصحراء النوبية ويهلك الركاب، ولكن ما كان يخيفني أكثر من ابو كدوس ذاك هو ان سائقي اللواري التي كنا نسافر عليها كانوا يتوقفون هنا وهناك ويخرجون زجاجات العرقي (العرق)، ويشفطون محتوياتها قبل استئناف الرحلة.. وربما كان ذلك أحد الأسباب التي جعلتني لا أفكر في العودة الى الشمالية مرة أخرى، تضمن سلامتك في رحلة عبر الصحراء ليوم ونصف اليوم والسائق يحلق في عالم آخر تحت تأثير الكحول؟ وهكذا اكتفيت بأن أحمل بدين معي أينما عشت وذهبت. ما علينا: انطلق بي اللوري المزود بمقاعد تسبب البواسير والناسور الى ام درمان، (كما في معظم دول العالم الثالث عشر فقد كانت البصات عندنا في السودان عبارة عن شاحنات/ لواري يتم تزويدها بمقاعد وسقوف لنقل الركاب)، وكان ذلك الوداع الأخير لبلدتي بدين، وكنت مثل كل القرويين سعيدا بالانتقال الى حياة المدن، حيث الباسطة(البقلاوة) والرغيف الفينو والكهرباء والدش (بضم الدال المشددة اي أداة الاستحمام).. وداعا للطشت والجردل وصابون حبوبة فاطنة (فاطمة)، الذي كنا نستخدمه في غسل الملابس وغسل الأجسام، وكان ذلك النوع من الصابون من انتاج مصلحة السجون، وكانت الحكومة توزعه علينا مجانا في المدارس، ولم يكن له شكل هندسي ثابت فقد كان يصنع يدويا..وزي ما تجي، تجي.. أي كما نقول في السودان \"عاشق معشوق\"، والعبارة هذه لا صلة لها بالعشق والحب والرومانسية بل تعني \"الكلفتة\"، قطعة مربعة وأخرى منبعجة وثالثة مكورة، وكان أسوأ ما في الاستحمام بصابون حبوبة فاطنة إنه لم يكن يخلو من رأس مسمار او قطعة زلط.. تفرك بها جلدك فيسيل دمك البريء الطاهر في الطشت. أخبار الخليج - زاوية غائمة [email protected]