[email protected] عاب علينا البعض ما سموه "انحيازنا" للفريق إبراهيم عبود (باشا) ضد المستنيرين من أبناء جلدتنا تمثلناهم في شخصي (الدكتور حسن عبد الله الترابي والسيد الإمام الصادق المهدي)! أو هكذا تصور ناقدي، أني فضلت الحكم العسكري على (الليبرالي)، ولكن والحق يقال إن لا السيد الصادق ولا الدكتور الترابي يمثلان مشروعاً مستنيراً في جسد السياسة السودانية، وذلك بسبب ما قلنا إنه انفصال بينهم والجماهير، وفي ذلك لنا حجة عدم قدرتهما إنشاء تيار سياسي يحمل مشروعاً فكرياً، ورؤية إستراتيجية تعبر عن أدبيات الرجلين، فقد ظلا يحلقان في الفضاء بعيداً بعيداً دون النظر إلى أسفل طمعاً في الالتحام بالقواعد، والانتماء لهذا الوطن الجريح، ولكن ذلك لا يعني الطعن في وطنيتهما فهما يحملان السودان عبئاً ثقيلاً دون إشراك الآخرين، وهكذا يكون الانفصال بين القائد وجماهيره. إن تحليلاً لشخصية الرجلين سيعرفنا أكثر على مضمون رؤيتهما السياسية، فالسيد الإمام نال من القدح والمدح الكثير، وإن كانت كفة القدح في شخصه هي تعبير عن خيبة أمل مناصروه، ومؤيدوه بل ومريدوه، ود.الترابي أيضاً رغم إسهامه في حقلي الثقافة والفكر الإسلامي إلا أن الرجل لم يفلت من قبضة زملاؤه في الحقل فأتهم بالكفر والزندقة، واعتقد أن الرجلين لو قدر لهما الميلاد والعيش في بلاد غير السودان لاستحقا نُصب وتماثيل؛ ذلك إن كانت الفردية هوى جماعي، ولكن قدرهما حط بهما في بلاد السودان، فجاء اجتهادهما ممنوع عنه التلاميذ، فواقع الحال أنهما يمثلان منارات فكرية ولكن إضاءتها لا تصنع ظلاً أو تخلق أشباح!، وفي فوضاهم الليبرالية تبنوا نسخة فوقية غير عملية لقضية (ليبرالية) الدولة، وهي تلك النظرة التي تريد أن تعيش حياة ليبرالية دون أن العيش في كنفها، وفي ذلك يقول الدكتور عبد الله العروي المفكر المغربي في كتابه "الأيديولوجيا العربية المعاصرة – ص 7: إن المشكل الأساسي الذي أحوم حوله منذ سنين هو الآتي: كيف يمكن للفكر العربي أن يستوعب مكتسبات الليبرالية قبل (وبدون) أن يعيش مرحلة ليبرالية». وهذا ما وقع فيه كل من السيد الصادق والدكتور الترابي، أي أنهم حاولوا زرع الليبرالية بالقوة في تربة غير مهيأة، ووسط مجموعة بشرية غير مستعدة، وليست راغبة في ذلك، والسبب أزماتهم الحضارية، من جهل وفقر، وفوق ذلك انخرطوا في كفاح غير مقدس ضد الجميع؛ الجميع بما فيهم قواعدهم الحزبية!!. لنعود لدور الترابي والصادق في وأد مشروع الدولة السودانية، قلنا في المقال السابق إن الليبرالية في الدولة هي نظرية تعاقدية Contractual ، فالدولة تنشأ على عقد اجتماعي يحقق اتفاق وإجماع الأفراد، وهذا ما افتقده تنظيرهم السياسي، حاول الترابي أن يخترق عزلته ويجمع حوله من يعترفون بالمرجعية الإسلامية فتحول بجسم الإخوان المسلمين إلى جبهة الميثاق والتي جمعت في صفوفها بجانب الإخوان المسلمين؛ السلفيين والطرق الصوفية، هذا جماع مختل، وكان يقوده حينها الشهيد محمد صالح عمر، وفي العام 1969م، تم انتخاب الترابي أميناً عاماً للإخوان، ماذا جرى؟ لا شيء سوى أن الدكتور حسن الترابي عمل على ممارسة إقصاء ناعم للجميع، عبر سياسة الصمت الانتهازي، وهذه الخصيصة ظلت ملازمة للدكتور حتى اليوم، يتكلم حين يتحدث الجميع ويصمت في ضوضاءهم أيضاً، دكتور الترابي يمارس فضائل عدة لكن أهمها لغة الجسد، فالرجل يبالغ في توظيف لغة الجسد والتي هي حركات يقوم بها البعض مستخدمين أيديهم، أو تعبيرات الوجه، أو حتى أقدامهم، أو نبرات صوتهم، أو هز الكتف والرأس، ليفهم المخاطب بشكل أفضل المعلومة التي يريد أن تصل إليه، والدكتور حسن يغالي في ذلك لدرجة تصل حد الملل، وقد يصدق عليه أنه يفعل ذلك لأجل طبيعته غير الحذرة، وحرصه الكبير على توظيف الإشارة محل الإفصاح، وفي دراسة قام بها علماء متخصصون في علم النفس اكتشفوا أن 7 % فقط من الاتصال يكون بالكلمات، و38 % بنبرة الصوت، و55 % بلغة الجسد، ولو أختلفت الكلمات ولغة الجسد فأن الفرد يميل إلى تصديق لغة الجسد (راجع في ذلك Three elements of communication - and the so called Rule"")، ولا يخفى على أحد كيف يوظف الدكتور حسن جسده للتعبير عن أحواله، بل يتعدى الرجل ذلك لما يمكن تسميته ب"دكتاتورية التجهيل عبر الإشارة"، فالواقف أمامه لا يملك سوى الانبهار به ك(شيخ) وليس ك(مفكر)، أليس في ذلك هزيمة لمشروع الرجل الذي يصفه بالمشروع العقلاني؟، ألم يأت الدكتور حسن إلى السودان مرتدياً قبعة جان جاك روسو، عبر تنبي التعبير عن إرادة المجموع دون توكيل، وعباءة جمال الدين الأفغاني في البحث عن ريشة الحرية وسط أكوام التراث، وهما رمزان ضد الباطنية في التأويل والديكتاتورية في ممارسة السلطة، ليمارس الرجل أكبر عملية تدجين للعقل السوداني؟، ألا يفهم مريدو الرجل أنهم يؤذونه بتبجيله؟ ألا يستطيع هو أن يقف ليعيد تأمل مشواره السياسي ويقول إنه أخطأ حينما تحلق حوله المريدون يرجون ثواباً الدنيا والآخرة؟ كيف تأتى له أن يصدق بقدرته على اختراق الواقع دون تجهيزه؟ والرجل لم يسمح لأخرين أن ينشأوا بمفردهم، ومن حاول منهم ذلك اكتفى باللحية ووضع النظارات!!، والشيخ الدكتور في دعوته للدستور الإسلامي في منتصف الستينيات من القرن الماضي حقيقة لم يكن يعرف طبائع العمران البشري في السودان، فالدستور إسلاميته من علامانيته لم تكن الشغل الشاغل لمواطني بلادي في تلك الفترة، كانوا يحتاجون الطعام والتعليم والصحة والبنى التحتية حتى إذا ما فعلها القادة أمكن لهم طرح مشروعاتهم في الدعوة إلى الإسلامية أو العلمانية أو الاشتراكية أو الديمقراطية أو.أو.أو.أو...الخ. ترى ألم يكن لهؤلاء القادة من الرشد القليل الذي يفهمون به مطالب جماهيرهم التي يدعون تمثيلهم عسفاً منهم وانتهازية؟ وفي الجانب الآخر حينما أراد السيد الصادق أن يشق عصا الطاعة على عمه الإمام الهادي (ت: مارس 1970م)، مدعياً أنه بذلك يفرق بين السياسة والدين كأداة سيطرة!، ترى كيف يرى السيد الصادق نفسه اليوم وهو يجمع بين القيادة السياسية لحزب الأمة وإمامة الأنصار؟ وعن شخصية السيد الإمام الصادق المهدي، يكفيني أن أنقل لكم ما كتبه السفير الأمريكي الأسبق جي نورمان في حقه وذلك في كتابه (السودان في أزمة – إخفاق الديمقراطية) الصادر بالإنجليزية ترجمة الأستاذ جعفر إبراهيم التايه، ونورمان أندرسون سفير أمريكا الأسبق في السودان (1986م-1989م)، وهي مرحلة حكومة الصادق المهدي عقب الانتفاضة. وفي (277) صفحة سرد أندرسون تجربته ومرئياته عن السودان في ثمانية فصول هي:(دورة الديمقراطية والحكم العسكري - ديمقراطية الصادق المهدي: السياسات الداخلية - أمريكا وديمقراطية السودان - الحرب الأهلية في جنوب السودان - الصادق المهدي والحرب - عجز السياسات الداخلية والإصلاح الاقتصادي - السكرات الأخيرة لديمقراطية السودان - سياسات الصادق المهدي الخارجية). الرجل عمل على تحليل شخصية الصادق بل وحمله عدم قدرته على السمو فوق الطائفة والحزب والبلد. والرجل أيضاً نظر لمجمل المشهد السياسي في السودان في فترة عمله بالسودان ليقول أن السبب الرئيسي في فشل الديمقراطية يقول: "فشل الديمقراطية في السودان في الأساس فشل القيادات (الصادق والترابي والميرغني ونقد وغيرهم..) وباقي الساسة التقليديين الذي أساءوا التعامل مع المسألة بتكرارهم المتواصل لأخطائهم القديمة، ونظرتهم الطائفية الضيقة، وأجندتهم الإثنية والقبلية. أما الشجار المستمر والتلاسن السياسي فقد أدى إلى إصابة الحكومة بالشلل الذي نتج عنه عدم فعاليتها وانحراف وتراخٍ في العزيمة، فربما لو وجدت لها (ديجول)، أو (أتاتورك)، أو (بورقيبة)، يحمل نمطاً مترابطاً منطقياً ينشلها من وسط هذا التهافت السوداني. لسوء الحظ لم يتوفر لها القائد غير اللجوج الذي يمتلك نواصي الأهداف الواضحة وقوة القيادة والإخلاص للديمقراطية". وعن الانتخابات التي جرت أثناء حكم السيد الصادق يقول الرجل: "نظام الانتخابات السوداني هو نظام تشوبه الكثير من العيوب، حيث تقوم الانتخابات تحت هيمنة الطوائف الدينية الشمالية، حيث يصوت الناخبون ككتل، فهو ببساطة يأتي بأجيال أخرى من نفس نوع القيادات التي أفسدت التجربتين الديمقراطيتين السابقتين؛ الزعامات الطائفية تأمر بانتخاب من ترشحهم بغض النظر عن سياساتهم أو أدائهم، وليس لهم إلا القليل من التحكم خارج طائفتهم، وهم غير مسؤولين أمام الأمة بوصفها وحدة سياسية خاضعة للحكومة". لنعود إلى هيجل ونقده لليبرالية التي رأى أنها لا تعبر عن طبيعة "الروح"؛ والأخيرة هي لب فلسفة هيجل، لقد كان الرجل يبحث بجد شديد عن ما رآه نقصاناً في التجربة الأوروبية أو في دولته البروسية على وجه الخصوص، ولكن هذا ليس موضوعنا، لنعود ونقول إن الدولة غاية وليست وسيلة، كيف؟ البناء الكلي للوعي يعبر عنه بواسطة مجاميع شخصية يلخصها الدستور، وحينما تصبح الدولة قائماً بالتخطيط والتنفيذ وكذلك سن القوانين فإنها تترك مهمتها الأصلية لتدعي دور ليس بدورها، وقد أعجبني جداً قول ديغول (ت: 1970م) وفي كتابه حد السيف 1932م يعتبر نفسه فيه رئيس لكل الفرنسيين، وديغول له مقولة شريرة إلى حدا ما وهي أنه بمثابة (بوليس حركة) يعني رجل مرور وظيفته مراقبة حركة انسياب القوانين دون عوائق، إن مهمة رئيس الدولة هي رعاية تطبيق القوانين وليس سنها، وهذه هو جوهر قولة هيجل حول أن الدولة غاية وليست وسيلة، فالغاية أنها تحفظ للجميع إطاراً عاماً لتصوراتهم وبالتالي يقوم مقام رعايتها شخص محل رضا وليس إجماع الجميع، فالإجماع لا يصلح حتى في قضايا الفقه دع عنك تصورات السياسة. نواصل..