(عبر الأزقة المعتمة يندس الفقر ذو العينين الجائعتين، والخطيئة ذات الوجه المشوه تتبعه عن كثب..) .. أوسكار وايلد - في حال الدولة السودانية وتأسيسها – قراءة فيما فعله هؤلاء..! الترابي والصادق ليسا سوى نموذجين لقائمة طويلة تضم الميرغني (الأول والثاني والثالث) والثلاثة = الدين لأجل المكاسب السياسية، والسيد الإمام عبد الرحمن المهدي (البرجوازية أن تمنح أكثر)، ومحمد إبراهيم نقد (البدوي التائه) وسلفه عبد الخالق محجوب (تروتسكي السودان)، ومحمد أحمد المحجوب (حماية قواعد اللغة أعظم شأناً من حرب الجنوب) وخضر حمد (الهوية العربية بالقوة)، ومبارك زروق (نيفيا الساحة السياسية)، والثنائي الهندي زين (يريد علم الجابون، آسف علم السودان القديم) وحسين (المال لأجل النضال)، و(الفضليان) يحي (رفيق الأزهري المخلص) ومحمود (المنبري الشفيف)، وعبد الله خليل (الخواف عصاة طويلة)، وعبد الماجد أبو حسبو ( حب إيه الجاي تقول عليه)، ومحمود محمد طه (الفرد، الإنسان الكامل، وإزدراء الطموح).. لأجل د. النور حمد والأستاذ الفكي عبد الله ما يزعلوا مني!، وفيليب عباس غبوش وجون قرنق ( كل من يزحف يقتسم الضربات)، والسيد إسماعيل الأزهري (ديمقراطية شيخ الحلة)، هذه المجموعة لو شكلت فريق لسجلوا الأهداف في مرماهم (ضر وحسادة)، هؤلاء رجال بدأو بالحب (حب الوطن) وانتهى بهم الطموح إلى فقدان النتائج، لكن قبل أن استرسل أود القول إني أقف من كل هؤلاء مسافة واحدة، ولا أناصر أحد ضد نده السياسي، فالأمر لا يتعلق بكاتب هذه المقالات الثلاث، القضية هي جسمنا السياسي المريض، وعقلنا الغائب المحموم، وقلبنا ضعيف الضربات، وجسد كهذا لا يعطي نتائج سوى الخوف والمرض والتأخر الحضاري، وفشل النخبة في تأسيس الدولة (عليكم الله خلونا نؤسس دولة الان وبعدين أتشكلوا!) ولكن رغم كل هذه الصفات المزعجة إلا أن فضيلة واحدة لهؤلاء القادة هي (طق الحنك) الكلام، والهدف الأساسي الذي يجعلني أكتب ما أكتب إيماني بمقولة الأديب الألماني العظيم؛ غوته (ت: 1832م): "إن كتابة التاريخ هي أسلوب للتخلص من الماضي"، رغم أن عملي هو النقد وليس تسجيل الحوادث وتدوينها، لكنني كذلك أطمح في التخلص من الماضي؛ الماضي الذي لا يموت..! أه.. لا أنسى كذلك الدكتوران منصور خالد (التحليق بالسودان غرباً دون طائرة وبرفقة طيار نزق) وعبد الله علي إبراهيم (الشيوعي الحزين، لا بدورك ولا بحمل بلاك)، وفي وسطهما الخاتم عدلان (الاستنارة في التنكر للعرف) وهو أقرب قليلاً للأخير، وجوزف قرنق (الموت بالإيدولوجيا)، والشفيع أحمد الشيخ (الموت لأجل حياة فاطمة) ، وبدر الدين مدثر (العروبة هي أن تخلع جذورك)، وأيضاً الأستاذ محمد عمر بشير وسابقوه من لدن مكي شبيكة وهناك محمد إبراهيم أبو سليم، وجعفر شيخ إدريس (المنطق يقر بتكفير المسلم لأخيه!) وميرغني النصري (ليبرالية نص شبر) والرشيد الطاهر بكر (الانقلاب أقصر الطرق إلى قلب الشعب)، والشهيد محمد صالح عمر (الأشجار تموت واقفة)، والإمام الهادي (القتيل)، وقاتله جعفر نميري (الراجل الكلس والبلد أتحرق!)، وأيضاً وليم دينق نيال وجوزيف ادوهو ( الفيدرالية لتجهيز الانفصال)، وبونا ملوال وأبيل ألير (دينكا دينكا)، والقائمة تطول وتطول..! عودة إلى هيجل الذي يقول أن الدولة لا يمكن اختزالها في طبيعة العلاقات والمشاركات السياسية (الاتفاق على برنامج حزبي واحد لمجموعة أحزاب) ورفضه لهذه التعاقدية بسبب أنها : علاقات مجردة Abstract، وعارضة Contingent ومتمركزة حول الذات Self-Centered. وبحسب هيجل تتأسس الدولة على البشر بجميع هوياتهم، لا بتجريد أو اقتطاع جزء منها، وهنا في سوداننا عمل هؤلاء القادة على تقسيم الوعي الاجتماعي وذلك بسبب اختلافاتهم، لم يشهد التاريخ الاجتماعي لأي دولة نموذج للاختلاف كما حدث في وطننا السودان، أيعقل أن يكون لمجتمع خارج لتوه من استعمار منظم ودقيق ليتشكل في جماعات متناحرة ومختلفة لدرجة العنف؟! هذه وصفة سودانية لا مثيل لها في أي مكان!!، لنعود هيجل احسن، يقول الرجل إن الوجود الاجتماعي للإنسان ليس مجرد وجوده الاقتصادي. في حين تكون العلاقات التعاقدية عارضة واعتباطية، تتأسس علاقات المجتمع الإنساني السياسي Political Community على العقل والضرورة العقلانية. وهذا ما افتقده العقل السياسي السوداني، جلسوا ليختلفوا حول طبيعة التدين وبناء الدستور وتقييم العنصر القبلي واجتثاث المسيحية رغم تجذرها شمالاً وسعوا سعى المجد لتمزيق فاتورة التراث الشعبي والشفاهي، واختلقوا صوراً رمادية لوجودنا الثقافي، إني لا ألقي اللوم بدافع التشفي ولا الغيظ، إنني أكتب ما فهمته من قراءاتي في تاريخنا السياسي، وإن كنت في الحلقة الأولى من هذا المقال تبنيت رؤية هيجل ضد روسو في أن العقد الاجتماعي يؤسس للحرية، ذلك في مجتمع فرنسا ولكن هنا لا يصح لنا نقل ما كتبه روسو في كتابه العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي، ترجمة بولس غانم: "ولد الإنسان حراً طليقاً (قالها الخليفة الثاني العادل عمر بن الخطاب قبل أكثر من ألف عام: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟) ومع ذلك، فهو مثقل بالقيود في كل مكان. ولرب رجل يتوهم أنه سيد الآخرين، وهو لا يزال يرسف في أغلال من العبودية هي أثقل من أغلالهم" الكتاب الصفحة (11)، ولكن هذه الفرضية التفاؤلية لدى روسو قارئة الطبيعة الإنسانية، لا تؤسس على الحرية ماهية الإنسان فحسب، بل تذهب إلى أن العقد الاجتماعي هو أساس الحرية؛ والترابي والصادق حاولوا تطبيق هذه الفرضية في مجتمع متخلف وادعوا أن النصر للحرية يبرر لهم الدعوة على الثورة ضد حكم الفريق عبود (1958- 1964م)، وبالطبع لست من أنصار الحكم العسكري، ولكن لنكن عمليين ونقول أن الصادق المهدي أو السيد الإمام لا يصلح لتفجير ثورة الحرية في السودان فالرجل مارس الفشل أكثر من الصلاة المفروضة نفسها، ودعني أيها القارئ العزيز أنقل لك ما كتبه السفير الأمريكي الأسبق جي نورمان في حقه وذلك في كتابه (السودان في أزمة – إخفاق الديمقراطية) الصادر بالإنجليزية ترجمة الأستاذ جعفر إبراهيم التايه، ونورمان أندرسون سفير أمريكا الأسبق في السودان (1986م-1989م)، وهي مرحلة حكومة الصادق المهدي عقب الانتفاضة 1985، ثاني نكاساتنا الاجتماعية، يثير المؤلف موضوع تركيبة الشخصية السودانية القيادية السياسية وعدم قدرتها على السمو فوق الطائفة والحزب. ويؤكد مسؤولية القيادات الحزبية عن سقوط الديمقراطية، ويشكك في إمكانية بناء سودان مستقر ومزدهر، ويصفها بأنها عملية تثبط الهمة، ويقول: «ربما من غير الإنصاف وضع كل اللوم على الصادق، ولدى الكثيرين هو يمثل صورة مصغرة للبلد. بالطبع فقد صور نفسه على أنه رديف فعلي للسودان مما ساعد على جلب السخط عليه. إضافة إلى ذلك فأي شخص كان في إمكانه القيام بعمل يختلف عما قام به من فشل أو نجاح. وقبل انقلاب 1989م انطبع الصادق في أذهان السودانيين والمراقبين الأجانب بمثل ما هو المذنب بسبب كوارث سياساته الداخلية والخارجية في فترة الديمقراطية الثالثة. ينظر إليه على أنه فشل في التعامل مع تحديات السلام والإغاثة حتى مع السكر والخبز في العاصمة. كان منهمكاً في قضايا ليست بالأساسية كالوحدة مع ليبيا، التشريعات الإسلامية، المناورات السياسية وغزوات لا معنى لها في ساحات الدبلوماسية الدولية. ويشير المؤلف إلى أن الصادق قد وجد في البداية احتراماً عالمياً هائلاً، ومثله من قطاعات واسعة في الشعب السوداني، ولكن بدلاً عن وضع خبراته لعلاج مشاكل السودان وإخضاعها للتفكير الواقعي، لم تكن لديه القدرة على الارتفاع فوق شخصيته الطائفية الأنصارية، وتمترس أيديولوجي حول «عدم الانحياز» مما حرم ديمقراطية السودان من مستقبل أفضل، ومن الاعتمادات التي وعد بها الرئيس المنتخب حديثاً. والكتاب قد احتوى أوصافاً قاسية في شخصية السيد الصادق المهدي، " الصادق يعاني من الضعف في القيادة والشخصية، كما يوافق أكثرهم على افتقاره إلى الحسم والتفكير الواقعي. فهو يستعيض وبسبب قدراته النظرية بالبلاغة عن الفعل الحاسم، كان يغفل التفاصيل أو التطبيق العملي لأفكاره..". وكأنه ليس في استطاعته الفصل بين أدواره المختلفة؛ سواء إماماً لطائفته الأنصار، أو رئيساً لحزب الأمة، أو مفكراً ورئيساً للوزراء. الكثيرون يعتقدون أن أكثر ما يلائمه أن يكون أستاذاً جامعياً، وكرئيس للوزراء كان يجب عليه الارتفاع فوق زعامته للأنصار ومعتقداته الدينية ويؤسس لتحسين أوضاع كل البلد وكل السكان. طبعاً قد يبدو أن هذه المقالات قد نالت من السيد الإمام الصادق المهدي أكثر، ولكننا نقول أن الرجل كانت أجيال كثيرة تعول عليه لإنجاح الدولة وتأسيسها ولكنها خيب أمال الجميع بما فيهم طائفته.. نواصل.. GHASSAN OSMAN [[email protected]]