في زيارة لي لمحطة (بي بي سي) الإخبارية بدبي.. أتيحت لي فرصة التعرف عن قرب الى تفاصيل أكثر الأشياء حساسية في المحطة.. وهي ساعة إعداد وتنفيذ النشرة الإخبارية، خاصة وأن القناة في أصلها إخبارية متخصصة. ولما كانت الزيارة تعريفية فقد أتاحت لي فرصة طيبة لمعايشة الأحداث عن قرب حيث أنني كنت قد عملت فترة في تلفزيون الشارقة كمحرر للنشرة الرياضية التي تأتي متلازمة مع نشرات الأخبار الرئيسية كتقرير رياضي وكنت حينها أحرر النشرة ثم أتابعها من المنزل بعد أن أكون قد جهزتها كأخبار عبر برنامج (I-News).. لكن هذه الزيارة أتاحت لي فرصة تحسس الأنفاس داخل الخلية الإخبارية، الى جانب الوقوف على إمكانات هذه المحطة العالمية من خلال التعرف على طرق وأساليب العمل في مرحلة المختلفة. والشاهد أنهم رتبوا لي كذلك فرصة زيارة كل أجزاء الأستديو المتخصص لمتابعة نشرة الأخبار الرئيسية ومعايشة الظروف التي تتم من خلالها عملية صناعة الأخبار والمقابلات والحوارات التي تكون فيها وكيفية إدارج الضيوف وصرفهم بلباقة وسلاسة دون أن يحس الضيف بحرج ودون أن يشعر المشاهد بأن هناك إحلالا يخلُ بتناسق النشرة. وبحكم قربي من المجال الإعلامي فأنني أدقق كثيراً عندما أشاهد برامج التليفزيون وبالطبع تكون لدي انطباعات أتعرف من خلالها بمدي حرفية وبراعة منظومة العمل، لكن ما شاهدته كان مبهرا للغاية ليس في العمل فحسب بل في الحركة والجديّة والهمة. لكن المتأمل لأستديو الأخبار ومدى التجهيزات التي فيه يدرك حقيقة أن هناك جهدا مقدرا وإهتما تقنيا كبيرا قد بذل لتهيئته ليكون بهذه الصورة، والتي من الضرورة تعني أن وراء هذه التجهيزات إعدادات أخرى لنقل نشرة إخبارية مقنعة، وبتعبير آخر جرعة إخبارية مقنعة تجبرك على عدم الإنصراف . لكن أول ماهالني أنني وجدت مذيع النشرة منهمكا في مراجعة النشرة لنفسه بصوت منخفض ونبرة جادة، ورغم أنه فطن لوجودي لكنني لم أستحوذ على إهتمامه إلا للويحظات أهدى إليّ فيها إبتسامة عابرة. لكن المتامل للأستديو حوله يجد الكل منهمكا في أجهزة الكمبيوتر يعد شيئا ذو صلة بالنشرة فهناك قسم المونتاج والتصوير والإضاءة والجرافيك والإخراج ومعاونيهم.. لكن الملفت أن هناك أستديو آخر ملحق بالأستديو الرئيسي به شابة تحرك يديها بسرعة فائقة، علمت أنها مترجمة الأخبار الى لغة الإشارة وهذه يولونها إهتماما كبيرا، لكن الجدية التي رأيتها عليها تدلل على أنها تحترم عملها وبدورها تحترم رسالتها للصم الذين ينتظرونها . وبينما كان العد التنازلي قد بدأ وتبقت للنشرة حوالي الربع ساعة، وجدتهم قد أنصرفوا بكلياتهم عن بعضهم البعض وطفق كل واحد منهم يعد مادته بدقة وفق الزمن المحدد لكل جزئية في النشرة، والعجيب أنني خلتها صناهة متكالمة وكأنني في معمل يقوم بإنتاج سلعة معينة ، والحقيقة أنهم يتعاملون مع العمل وكأنه ثمرة إنتاجية يجب أن تكون على الوجه المرضي. هنا الوقت مهم جداً وكأنها مهنة الزمن، وكل مقطع للأخبار ووقفة وحركة ومداخلة أو إعلان يجب أن يتم طبقاً للوقت المحدد ولا يزيد أو يقل عنه، كما أن قراء النشرة ومقدمي النشرة الجوية والمصورين والمخرجين ومهندسي الإضاءة والصوت يجب أن يتخذوا أماكنهم بكل دقة قبل أن تذاع النشرة على الهواء، ولذا فكل شخص يتجه إلى مكانه المحدد فبل وقت كاف ثم تبدأ تدور الكاميرا وتضاء الأنوار. وأول صيحة هزت المكان كانت الإعلان عن إغلاق الهواتف النقالة في الأماكن القريبة من المايكرفونات، ثم سمعت كلمة (face) تهز أرجاء المكان ، ومن عجبي أنني شاهت المذيعين وقد بدأوا حركات وتعبيرات بوجوههم وهم يقرأون النشرة بصورت خافت، حيث كانوا يغيرون سمتهم حسب نوعية الخبر المقروء . وفجأة أضاء الضوء الأحمر.. ثم بدأ المذيع الرئيسي لنشرة الأخبار يتحدث بوجه منشرح وهاديء مبتدرا النشرة بإستهلالية المقدمة، ومنصرفا تماما عن الحركة النشطة التي تدب في أرجاء الأستديو الواسع، ولم تكن له صلة إلا بسماعة صغيرة مندسة تحت ملابسة لتصل بينه وبين المخرج الرئيسي للنشرة . ثم فجأة سمعت صوتا مخرجة الصالة وهي تعلن أن النشرة ربما ستطول قليلا عن الموعد المحدد لورود خبرين وصلا للتو ولهما درجة عالية من الأهمية أحدهما يتعلق بتنحي الرئيس مبارك عن الحكم، وفجأة ظهر الخبر على الشاشة باللون الأحمر ومرر الخبر عبر شاشة (Monitor) ملحقة بالكاميرا الرئسية يقرأ منها المذيع النشرة ويبدو أن المخرج قد أعلمه بإدراج الخبر . لكن الشاهد أنه مرّ على الخبر العاجل بذات النمط الذي كانت تتدفق به نشرة الأخبار وبذات السلاسة والإنسيابية التي ظل يذيع بها الأخبار لكنه نوه للخبر عبر عبارة ( وردنا للتو) مستكملا الخبر وكأنه إطلع عليه آنفا . ونسبة لطول فترة النشرة هناك فواصل محددة في النشرة يقوم المذيعون فيها بتناول قدر من الماء لمواصلة القراءة وهي ضرورية للمستمع والمذيع معا.. والتي تمكن المذيع من إلتقاط أنفاسة وتمكن المشاهد من تغيير الجو حولة قبل أن يستأنف المشاهدة . لكنهم أيضا كانوا حريصين على أن يختاروا خبرا طريفا يُحلي نهاية النشرة قبل الدخول على الأخبار الإقتصادية والرياضية.. لكن الشاهد أنني إكتشفت أن للوقت قيمة وللعمل إتقان.. لذا يكون النتاج وفق المجهود الذي بذل . وكنت قد وجهت سؤالا للمذيع بعد النشرة.. حول درجة الحرج التي يمكن أن تجتاح مذيعا لو أن نوبة سعال أو عطس أو أي عارض مرّ به.. فأجاب لقد علمونا هنا أن مثل هذه الأشياء إنسانية وعادية لذا يجب أن نجعلها جزءا من الموقف بوضع عبارة (عفوا) بعدها، ثم مواصلة النشرة كأن شيئا لم يكن. ....................... ملء السنابل تنحني بتواضع .. والفارغات رؤوسهن شوامخ ....................... صلاح محمد عبد الدائم (شكوكو)