من المفيد المريح لشطري السودان استنساخ الاتفاق الصيني الهندي الموقع في أبريل 1954. للاتفاق خمسة محاور تلتزم الدولتان في ضوئها باحترام كل منهما سيادة وسلامة أرض الثانية. بالإضافة إلى الالتزام الثنائي بعدم الاعتداء يلتزمان بعدم تدخل أي منهما في شؤون الأخرى والاحترام الثنائي للمساواة والمنفعة المتبادلة. الاتفاق استحدث في قاموس المعاهدات الدولية مصطلح التعايش السلمي. لو التزم شطرا السودان نصوص وروح هذه المبادئ لتجاوزا تداعيات الانفصال في سلم وسرعة. الجانبان أحوج ما يكون غداة هذا الخيار الكارثي إلى التعايش السلمي. الالتزام بروح النص يعني الاستعداد لصب الماء على جميع احتمالات الجمر الساكن تحت الرماد. مبدأ المساواة والمنفعة المتبادلة يفتح الأفق أمام تكريس التنمية المستدامة في الشطرين مع الحرص على استثمار كل الاقنية الاقتصادية من أجل نشر الاستقرار. عدم التدخل في الشؤون الداخلية يتيح لكل دولة إسكات النزاعات الاثنية والقبلية وبناء مؤسساته. هذا باب يؤدي بالضرورة إلى احترام سيادة كل دولة. هذه المبادئ الخمسة الموقعة بين شوين لاي وجواهر لال نهرو شكلت روح البيان الصادر عن مؤتمر باندونغ بعد مرور سنة على توقيعها. ذلك هو البيان المؤسس لحركة عدم الانحياز عندما قصدت البحث عن عالم تأمن فيه الدول الصغيرة الحماية من الكبار. في العام 1956 تبنى المؤتمر العام للحزب الشيوعي السوفييتي «التعايش السلمي» مبدأ أساسياً للحركة الشيوعية العالمية. من شأن الاحترام المتبادل للسيادة وتبادل المنافع على مستوى المساواة والندية إبعاد أصحاب الخوذ الزرقاء والخضراء والألسن والسحنات المتعددة. المنفعة الثنائية بين الجنوب والشمال تتجاوز عائدات ورسوم أنبوب النفط إلى حقول ومراع ومياه. ما في آبار النفط ينفد وما في الانهار وحولها أبقى. مجرى النيل هو شريان التعاون المشترك وعمود استراتيجية ثنائية لخير شعب الشطرين. اذا كان العالم يتحدث عن الماء باعتباره وقود حروب المستقبل فإن النيل يشكل جبهة قابلة للالتهاب على نطاق واسع ودام. الجدل الاقتصادي والعسكري الاستراتيجيان تجاوزا الكلام عن «وادي النيل» إلى «حوض النيل». تعدد الدول المشاطئة للنهر الطويل من المنبع إلى المصب يجعل الوفاق مع كل منها كسباً للحلفاء ونفياً للأعداء. الجنوب حليف أقرب للشمال مثلما هو الشمال حليف حميم للجنوب عندما يأتي الحديث عن النيل. كلاهما مهجوس بالاستثمار في القطاع الزراعي بدءاً من البنى التحتية وانتهاء بقطف الثمار. كلاهما يعاني من شح في البنى المؤسسية ونقص في الكفاءات وعجز في الموارد. في غياب التعايش السلمي واحترام السيادة لن يتم معالجة هذا الخلل المتعاظم في ظل موارد كبيرة ومتنوعة. التفريط في كسب الجنوب في حرب النهر يدفعه إلى الاصطفاف في جانب خصوم الشمال من دول المنبع. هذه أقطار ظلت علاقات الخرطوم معها عرضة للتقلبات السياسية والأمن أكثر مما هي خاضعة لعوامل الطبيعة والاقتصاد. التاريخ يحدثنا عن شعوب ظلت حاضنة مشاعر الوحدة عقوداً غير عابئة بواقع التجزئة والانفصال. بغض النظر عن دوافع التقسيم تبقى الوحدة أعمق تجذراً وأسمى هدفاً. حركة الشعوب قادرة بطلقها الذاتي على تجاوز مرارات ومظالم ربما تدفع إلى الانقسام أو تفرضه. تلك هي المشاعر المتجذرة لدى الشعب في شمال كوريا وجنوبها. وذلك هو الطلق الذاتي عند الشعب في شرق ألمانيا وغربها. هو الهدف الأسمى الرابط بين غزة والضفة. الإمبراطورية السوفييتية انهارت لكن «التعايش السلمي» ظل كما تبناه مؤتمر الحزب الشيوعي السوفييتي في العام 1956 بحكم العلاقات بين الجمهوريات المنسلخة عن الدولة الأم. موسكو لاتزال تضطلع بمسؤوليات تجاه شعوب الإمبراطورية المنهارة. بعد قرابة عشرين عاماً على الانهيار العظيم يراود عدداً من الجمهوريات حنين الرجوع إلى الإمبراطورية. بروسيا تريد العودة إلى روسيا على عجل وموسكو تتردد. لاتفيا لا تجد سبيلاً للخروج من وطأة المعضلة الاقتصادية غير العودة إلى موسكو. من بين جميع الجمهوريات المستقلة تشكل جورجيا شوكة في خاصرة روسيا. مع ذلك فإن روسيا تمثل السوق الوحيدة لمياه جورجيا الغازية ونبيذها وهما 80% من اقتصادها. ثلث الجورجيين يعملون في روسيا. حجم التحويلات المالية لهؤلاء يبلغ 2.5 مليار دولار سنوياً أي ما يوازي 25% من دخل جورجيا. لولا مبدأ التعايش السلمي لأغلقت روسيا حدودها وأبوابها أمام الجورجيين ونبيذهم. بالمنظور نفسه لو أغلقت موسكو خطوط أنبوب النفط أو خط الغاز أو ضغطت على زر شبكة الكهرباء لتوقفت الحياة في أوكرانيا. الأوكرانيون يعتمدون على روسيا في الحصول على أنواع الطاقة. من المفيد التذكير بأن روسيا لا تعين الجمهوريات المنسلخة عنها حباً في شعوبها. موسكو تدرك أهمية الاستقرار السياسي والأمني في تلك الجمهوريات حفاظاً على الأمن الروسي. هذه هي روح ( المساواة والمنفعة المتبادلة ) وهذا هو تكريس ( التعايش السلمي ). من هذه الزاوية نستوعب رغبة 62% من الشعب الروسي في استعادة الدولة السوفييتية. هذه خلاصة استفتاء في مناسبة مرور 20 عاماً على انهيار الإمبراطورية. من حقنا التحديق في المستقبل بروح سودانية بعد ربع القرن على مرور الانقسام المر. الروس حالياً هم أكثر شعوب الإمبراطورية السابقة رفاهية. من غير المتاح أمام الخرطوم أو جوبا إصدار «قانون مناهضة الانفصالية» على نحو ما فعلت بكين تجاه تايبيه. في غياب التعايش السلمي يمكن تحول العلاقة بين الخرطوموجوبا على نسق ما بين الصين وتايوان. الجانبان الآسيويان انخرطا في سباق محموم للتسلح والتحالف. جنوب السودان مرشح في تضاعيف علاقات دولية ضاغطة ليصبح «تايوان» الشمال. فكما أضحت الجزيرة شوكة في جنب التنين خاصة في علاقاته مع أميركا للجنوب مؤهلات هذه الشوكة في علاقات الخرطوم وواشنطن في حالة استمرار عدم التعايش السلمي بين الطرفين. التعايش السلمي المبني على الأنهار يفيد الجانبين على الصعيدين الداخلي والخارجي.