افتتاح المعرض الصيني بالروصيرص    السودان.."عثمان عطا" يكشف خطوات لقواته تّجاه 3 مواقع    أنا وعادل إمام    القمة العربية تصدر بيانها الختامي.. والأمم المتحدة ترد سريعا "السودان"    كواسي أبياه يراهن على الشباب ويكسب الجولة..الجهاز الفني يجهز الدوليين لمباراة الأحد    ناقشا تأهيل الملاعب وبرامج التطوير والمساعدات الإنسانية ودعم المنتخبات…وفد السودان ببانكوك برئاسة جعفر يلتقي رئيس المؤسسة الدولية    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    إدارة مرور ولاية نهر النيل تنظم حركة سير المركبات بمحلية عطبرة    اللاعبين الأعلى دخلًا بالعالم.. من جاء في القائمة؟    جبريل : مرحباً بأموال الإستثمار الاجنبي في قطاع الصناعة بالسودان    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان أحمد محمد عوض يتغزل في الحسناء المصرية العاشقة للفن السوداني (زولتنا وحبيبتنا وبنحبها جداً) وساخرون: (انبراش قدام النور والجمهور)    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    رسميا.. كأس العرب في قطر    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسألة جنوب السودان في سياق تاريخي: 1899 – 1986م .. بقلم: د. فيصل عبدالرحمن علي طه
نشر في سودانيل يوم 05 - 11 - 2011


[email protected]
3- المرحلة من إعداد مشروع قانون الحكم الذاتي في مايو 1952 إلى توقيع اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير في 12 فبراير 1953
قبل أن تدلي مصر وبريطانيا برأي حول مشروع الحكم الذاتي إستولى الجيش المصري على السلطة في 23 يوليو 1952. أحدثت ثورة 23 يوليو تحولاً مهماً في السياسة المصرية تجاه السودان. إذ أسقطت المطالبة بالسيادة على السودان، وقبلت الفصل بين مسألتي الجلاء والسودان، واعترفت بحق الشعب السوداني في تقرير مصيره وذلك إما باختيار الاستقلال التام أو الارتباط مع مصر. كما وافقت على أن يكون مشروع قانون الحكم الذاتي أساساً لمفاوضاتها مع الأحزاب السودانية ومع الحكومة البريطانية. ولكن ثورة 23 يوليو لم تسقط شعار وحدة وادي النيل أو تسلم بفصل السودان عن مصر، وإنما راهنت على قدرتها في التأثير على الرأي العام السوداني والقوى السياسية السودانية لاختيار الارتباط مع مصر.
انتهجت حكومة اللواء محمد نجيب أسلوباً جديداً لمعالجة مسألة السودان. فدعت خلال الربع الأخير من عام 1952 إلى القاهرة وفوداً تمثل الأحزاب السياسية الشمالية للتباحث حول مصير السودان. شملت الدعوة الحركة الاستقلالية والحزب الجمهوري الاشتراكي والأحزاب الاتحادية الخمسة وحزب الوطن الذي كان يرعاه آل الشريف الهندي. ولم يُدع أحد ليمثل وجهة النظر الجنوبية مما ترتب عليه الكثير من التعقيدات التي سنعرض لها من بعد.
كان أساس المباحثات مشروع قانون الحكم الذاتي. وانتهت المباحثات بالتوقيع على اتفاقيات مع ممثلي هذه الأحزاب على أساس مشروع قانون الحكم الذاتي والتعديلات التي اقترحتها الحكومة المصرية. لم توقع الأحزاب الاتحادية على اتفاقية مفصلة مع الحكومة المصرية. ولكن في بيان قصير أصدرته الأحزاب الاتحادية في 1 نوفمبر 1952 أعلنت قبولها بالأسس التي وردت في اتفاقية الجبهة الاستقلالية مع الحكومة المصرية باعتبارها الحد الأدنى لما يمكن أن تقبله الحكومة المصرية في مفاوضاتها المقبلة مع الحكومة البريطانية.
وبما أن مذكرة الحكومة المصرية إلى الحكومة البريطانية في 2 نوفمبر 1952 أُسست على اتفاقها مع الحركة الاستقلالية، سنتناول هنا بعض بنود هذا الاتفاق مع بيان النقاط التي يختلف فيها مع الاتفاق الذي وقعته الحكومة المصرية مع الحزب الجمهوري الاشتراكي خاصة فيما يتعلق بالجنوب.
رحبت مصر في ديباجة الاتفاق بممارسة أهالي السودان الحكم الذاتي التام، وصرحت بأنها تحتفظ للسودانيين بحقوقهم في السيادة على بلادهم إلى أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم، وإذا ما قرروا مصيرهم في حرية تامة أن تحترم قرارهم.
اتفق الطرفان كذلك على أن يقرر السودانيون مصيرهم في حرية تامة إما بإعلان استقلال السودان عن كل من مصر وبريطانيا وأي دولة أخرى، أو الارتباط مع مصر على أن يسبق ذلك قيام الحكم الذاتي الكامل في السودان فوراً. كما اتفقا على أن تكون هناك فترة انتقال تهدف إلى غرضين: تمكين السودانيين من ممارسة حكم ذاتي كامل، وتهيئة الجو الحر المحايد الذي لا بد منه لتقرير المصير.
أبقى الاتفاق على الحاكم العام كالسلطة الدستورية العليا خلال فترة الانتقال التي حُددت بثلاثة أعوام على أن تعاونه لجنة خماسية مكونة من سودانيين إثنين وبريطاني ومصري وعضو محايد من الهند أو باكستان. استبعد الاتفاق من اختصاصات لجنة الحاكم العام ثلاث مسائل ليعالجها مع دولتي الحكم الثنائي وهي: الشؤون الخارجية، وأي تعديل يقترح البرلمان إدخاله في قانون الحكم الذاتي، وأي قرار تتخذه اللجنة ويرى الحاكم العام أنه يتعارض مع مسؤولياته.
واتفق الطرفان كذلك على تشكيل لجنة للسودنة تتكون من مصري وبريطاني تعينهما حكوماتهما وثلاثة سودانيين يعينهم الحاكم العام بناءً على نصيحة رئيس الوزراء للإسراع في سودنة الإدارة والبوليس وأي وظائف أخرى حتى يتسنى للسودانيين تقرير مصيرهم في حرية تامة. وحدد الاتفاق ثلاث سنوات كحد أقصى لإنجاز مهام لجنة السودنة.
وافق الاستقلاليون في اتفاقهم مع الحكومة المصرية على أن تحذف من المادة 100 من مشروع قانون الحكم الذاتي سلطة الحاكم العام المتعلقة بالجنوب. نعيد التذكير بأن المادة 100 كانت تنص على أن تكون للحاكم العام مسؤولية خاصة عن المديريات الجنوبية، وأن يكون من واجبه كفالة معاملة منصفة عادلة للمديريات الجنوبية لحماية مصالحها الخاصة. وأجازت المادة 100 للحاكم العام رفض الموافقة على أي مشروع قانون يرى أنه سيؤثر على أداء هذا الواجب. كما أجازت له إصدار الأوامر التي يرى أنها ضرورية لأداء هذا الواجب. وسيرد لاحقاً أن حذف سلطة الحاكم الخاصة بالجنوب من المادة 100 أثار سخط الجنوبيين. كما أثار جدلاً حاداً بين الحكومتين البريطانية والمصرية إبان المفاوضات التي جرت بينهما في نهاية عام 1952 بشأن الحكم الذاتي وتقرير المصير للسودان.
يختلف اتفاق الحزب الجمهوري الاشتراكي مع الحكومة المصرية عن اتفاق الاستقلاليين في ثلاث مسائل جوهرية، فاتفاق الحزب الجمهوري يبقى على سلطات الحاكم العام الخاصة المتعلقة بالجنوب والمضمنة في المادة 100 من مشروع قانون الحكم الذاتي. وفي تبريره لذلك ذهب الحزب الجمهوري الاشتراكي إلى أنه الحزب الوحيد الذي يضم في عضويته جنوبيين ولذلك يتعين عليه الإصرار على الإبقاء على المادة 100 لأن ذلك يؤمن مصالح الجنوبيين. كما ادّعى الحزب الجمهوري أن الإبقاء على المادة 100 مهم للحفاظ على الوحدة بين الشمال والجنوب، لأن الجنوبيين كانوا معزولين عن الشمال لسنوات عديدة، وليس لديهم ثقة في الشماليين، ولذلك فإن النص في الدستور على أن للحاكم العام مسؤوليات خاصة تجاه الجنوب خلال الفترة الانتقالية هو السبيل الوحيد لإبقاء الجنوبيين متحدين مع الشمال، ولضمان مشاركتهم في مؤسسات الحكم الذاتي.
وينص اتفاق الحزب الجمهوري الاشتراكي كذلك على أن تكون الانتخابات مباشرة في كافة أنحاء السودان طالما كان ذلك ممكناً وعملياً. فقد كان من رأي الحزب أن درجة الوعي في بعض مناطق شمال السودان لا تسمح بإجراء انتخابات مباشرة. ولم يرَ الحزب الجمهوري سبيلاً لإجراء انتخابات مباشرة في أي جزء من جنوب السودان بما في ذلك عواصم المديريات الثلاث.
وبينما ينص اتفاق الاستقلاليين على أن تكمل لجنة السودنة مهمتها في ثلاث سنوات كحد أقصى، ينص اتفاق الحزب الجمهوري الاشتراكي على أن تكمل لجنة السودنة مهمتها في اسرع وقت ممكن مع الحفاظ على كفاءة المستوى الإداري الحالي.
يبدو واضحاً مما تقدم أن الجنوب أُهمل ولم يدع للمشاركه في مفاوضات القاهرة لا من قبل الحكومة المصرية ولا من قبل الأحزاب الشمالية. وحتى الحزب الجمهوري الاشتراكي الذي كان يدعي تمثيل الجنوب، كان وفده مكوناً من ثلاثة شماليين. صحيح أنه لم تكن آنذاك أحزاب جنوبية، ولكن كان من الممكن دعوة أعضاء الجمعية التشريعية أو زعماء القبائل أو نفر من المتعلمين الجنوبيين.
الجنوبيون يعترضون على اتفاقيات القاهرة
في بيان صدر في ديسمبر 1952، اعترضت جماعة أطلقت على نفسها «لجنة جوبا السياسية» على التعديلات التي أدخلتها اتفاقيات القاهرة على مشروع قانون الحكم الذاتي. وقد تكونت هذه اللجنة من 36 شخصاً يمثلون مراكز جوبا وتوريت وييي والزاندي. وكانت تضم أيضاً أشخاصاً من مديريتي أعالي النيل وبحر الغزال. وكان معظم أعضاء اللجنة من الموظفين الجنوبيين. كما كان من بين أعضائها عضوان سابقان بالجمعية التشريعية واثنان من رؤساء القبائل. وقد تزامن صدور هذا البيان مع الإعلان بأن صلاح سالم سيزور الجنوب لاستطلاع آراء أهله. كما كانت المفاوضات المصرية - البريطانية بشأن الحكم الذاتي وتقرير المصير للسودان تمر آنذاك بأزمة خطيرة. وسنرى لاحقاً أنه كان من بين أسباب هذه الأزمة الخلاف حول سلطات الحاكم العام الخاصة المتعلقة بالجنوب والمضمنة في المادة 100 من مشروع قانون الحكم الذاتي.
تَشكك بيان «لجنة جوبا السياسية» في حسن نية قادة الأحزاب السياسية الشمالية وذلك لإبرامهم اتفاقيات مع محمد نجيب بدون استشارة الجنوب، وبدون اعتبار للاتفاق الذي توصلوا إليه مع الجنوب في عام 1947 وتم التعبير عن ذروته المنطقية في قانون الحكم الذاتي.
وأكد البيان تمسك الجنوبيين بقانون الحكم الذاتي كما أقرته الجمعية التشريعية، وأنهم لن يقبلوا أية تعديلات تُدخل عليه بدون موافقة جهاز تمثيلي ديمقراطي على هذه التعديلات. واعترض البيان على رأي أهل الشمال بإجراء تقرير المصير خلال ثلاثة أعوام لأن الجنوب «ليس بعد في وضع يؤهله للدخول في اتحاد حر وديمقراطي مع الشمال. فالجنوب متخلف عن الشمال في الوقت الحاضر في مستوى التعليم وفي كل مجالات التطور. إن الجنوبيين يرغبون في بقاء الخدمة المدنية الحالية التي ساهمت بشكل رئيسي في مستوى التطور الذي بلغه الشمال لتقوم بتوجيه الجنوبيين نحو نفس الهدف». وغني عن القول فإن الخدمة المدنية التي طالب البيان ببقائها في الجنوب هي الخدمة المدنية البريطانية.
وانتهى بيان «لجنة جوبا السياسية» إلى أن الجنوبيين يتطلعون إلى اليوم الذي سيتمكنون فيه من الانضمام إلى الشمال في سودان حر ومتحد ومستقل «ولكنهم يشعرون بأن هذا لن يتم إلا حينما يصبحون في نفس مستوى الشمال. ولذلك ينبغي ألا تكون هناك فترة محددة لتقرير المصير».
ضمانات الجنوب في مفاوضات دولتي الحكم الثنائي
بدأت المفاوضات المصرية - البريطانية بشأن الحكم الذاتي وتقرير المصير للسودان في 20 نوفمبر 1952 ولكنها سرعان ما تعثرت بسبب الخلاف الذي نشب بين الجانبين حول سلطات الحاكم العام الخاصة بشأن الجنوب ومسألة السودنة. ففي اجتماع عقد في 24 نوفمبر 1952 اقترح السفير البريطاني رالف استيفنسن إعادة إدراج المادة 100 في مشروع قانون الحكم الذاتي لتصبح مسؤولية الحاكم العام الخاصة بشأن الجنوب ضمن سلطاته التقديرية. وفي معرض تبريره لذلك قال السفير البريطاني إنه بالرغم من أنه سيكون «للجنوب وزيران من بين خمسة عشر وزيراً فليس هذا بالكثير، ومن السهل أن يتغلب عليهما الشماليون. وذكريات الماضي كثيرة وهي توحي بأن الجنوبيين يخامرهم الشعور بتحسن حالهم لو أُسندت إلى الحاكم العام مسؤؤلية خاصة». وعبَّر السفير البريطاني عن اعتقاده بأن اضطرابات قد تقع إذا لم يكن للحاكم العام بعض السلطات لحماية الجنوب.
وقال المفاوض البريطاني باروز إن على بريطانيا مسؤولية تجاه الجنوب ومن واجبها حمايته بقدر المستطاع من أن يكون ضحية الشماليين. وحذر باروز من أن أهل الجنوب إذا استشعروا بأن القانون الجديد فيه مساس بهم فسيلجأون إلى وسائل بدائية لا إلى وسائل دستورية لكي يرفعوا ما حاق بهم. وذكر باروز أن السكرتير الإداري لحكومة السودان جيمس روبرتسون أبلغه بأن زعماء الجنوب قد هددوا بإحراق البلاد إذا أُهملت مطالبهم.
وفي الاجتماع الذي عقد في 9 ديسمبر 1952 قال السفير البريطاني رالف استيفنسن إن سلطات الحاكم العام الخاصة بشأن الجنوب تستهدف تحقيق غرضين هما ضمان انضمام الجنوب إلى باقي السودان في المرحلة القادمة والتأكد من أن الجنوب سيمنح ثقته للشمال أثناء فترة الانتقال. وقال السفير البريطاني كذلك إن بلاده تريد توحيد السودان. ولكنه نبه إلى أن هذا التوحيد لن يتحقق إلا عن طريق القضاء على مخاوف الجنوبيين واستعادة ثقتهم بالشماليين.
وفي معرض رده على الطرح البريطاني بشأن الجنوب شدد الجانب المصري خلال اجتماعي 24 نوفمبر و9 ديسمبر 1952 على أنه يجب ألا تكون هناك تفرقة بين أهالي السودان. أو أن تذكر كلمة «شمال» و«جنوب» في مشروع قانون الحكم الذاتي، لأن السودان كان ولا يزال دائماً كلاً لا يتجزأ. وأعلن الجانب المصري أنه لن يقبل أي اقتراح يعرض وحدة السودان للعبث، أو يفهم منه الفصل بين الشمال والجنوب. وذهب المفاوض المصري حامد سلطان إلى أن الحكومة المصرية تعد وحدة السودان وديعة مقدسة، وتتعهد باحترام هذه الوحدة والاحتفاظ بها سليمة للشعب السوداني.
اتفاق الأحزاب الشمالية في 10 يناير 1953 يتجاهل الجنوبيين
عندما رفعت المفاوضات المصرية - البريطانية في 22 ديسبمر 1952 كان الجدل لا يزال قائماً حول سلطات الحاكم العام الخاصة بشأن الجنوب، وربط تقرير المصير بالسودنة، وبعض المسائل الأخرى. ولدحض وجهة النظر البريطانية بشأن مسألتي الجنوب والسودنة رأت الحكومة المصرية أن تستشير الأحزاب السودانية، وزعماء القبائل الجنوبية، وأعضاء الجنوب السابقين في الجمعية التشريعية. ولهذا الغرض سافر إلى السودان في 21 ديمسبر 1952 صلاح سالم يرافقه وزير الأوقاف المصري أحمد حسن الباقوري.
تمكن صلاح سالم والباقوري من زيارة عواصم المديريات الجنوبية الثلاث وبعض المدن الرئيسية حيث التقوا بزعماء القبائل والسلاطين وبعض أعضاء الجمعية التشريعية السابقين. وفي نادي جوبا ألقى الباقوري محاضرة عن الإيمان قال فيها إن الإرساليات التبشيرية تبث روح الكراهية بين أبناء الوطن الواحد من شماليين وجنوبيين. وقال أيضاً إن الاسلام مجد المسيحية ومجد رسولها السيد المسيح وأمه مريم في أكثر من موضع في القرآن. وانتهى الباقوري إلى أن الإيمان يقتضي الحرية وفي مقدمتها حرية الأديان.
عند عودته من الجنوب إجتمع صلاح سالم بممثلي أحزاب الأمة والوطني الإتحادي والوطن والجمهوري الاشتراكي حيث اطلعهم على نتائج رحلته للجنوب، وعلى الوثائق التي سيواجه بها الطرح البريطاني بشأن الضمانات اللازمة لحماية الجنوب ومسألة سودنة الإدارة. وخلال هذا الاجتماع أفلح صلاح سالم في توحيد مواقف الأحزاب الشمالية من كل النقاط المختلف عليها بين دولتي الحكم الثنائي وهي الجنوب ولجنة الحاكم العام والسودنة والانتخابات وجلاء القوات الأجنبية وضُمن ذلك في الاتفاق التاريخي الذي وقعته الأحزاب الشمالية في 10 يناير 1953. وأجمعت تلك الأحزاب على أن تكون بنود الاتفاق أساساً لدستور الحكم الذاتي واتفقت على مقاطعة أي انتخابات تجرى في ظل دستور آخر.
وهكذا ارتكبت الأحزاب الشمالية والحكومة المصرية خطأ آخر، إذ لم يؤخذ رأي الجنوب في المسائل المختلف عليها علماً بأن إحدى هذه المسائل تخص الجنوب.
استئناف المفاوضات المصرية - البريطانية
عند استئناف المفاوضات المصرية - البريطانية في 12 فبراير 1953 لاحظ السفير البريطاني عدم تمثيل الجنوب في اتفاق الأحزاب السياسة السودانية. فرد صلاح سالم بأن هذه الأحزاب لا تمثل شمال السودان فحسب بل تمثل شمال وجنوب السودان معاً. وأضاف أنه يوجد في كل حزب من هذه الأحزاب أعضاء من الجنوب. فبعض زعماء الدينكا والباريا في الحزب الوطني الإتحادي والبعض الآخر في حزب الأمة وكذلك في الحزب الجمهوري الاشتراكي!
ولكن السفير البريطاني أعلن أن حكومته لا تقبل التخلي عن الضمانات اللازمة للجنوب المنصوص عليها في المادة 100 من مشروع قانون الحكم الذاتي. وأكد أن حكومته لا تنوي فصل الجنوب عن بقية السودان، وأن سلطات الحاكم العام بشأن الجنوب لن تُستخدم على أي صورة تتعارض مع سياسة الوحدة. ولتجاوز الخلاف حول هذه المسألة، إقترحت الحكومة البريطانية أن تبقى المادة 100 كما هي في مشروع قانون الحكم الذاتي ولكن تعمم سلطات الحاكم العام الخاصة لتشمل كل مديريات السودان. لذا وبموجب الملحق الرابع لاتفاقية 12 فبراير 1953 بشأن الحكم الذاتي وتقرير المصير للسودان نصت المادة 100 (1) على أن تكون للحاكم العام مسؤولية خاصة ليكفل معاملة جميع سكان مختلف مديريات السودان معاملة عادلة منصفة. وبموجب نفس الملحق عُدلت المادة 12 من قانون الحكم الذاتي لتنص ضمن أمور أخرى على أنه يتعين على الحاكم العام الحصول على موافقة سابقة من لجنة الحاكم العام عند ممارسته لسلطاته التقديرية المخولة له بمقتضى المادة 100.
وحتى لا يستغل الحاكم العام المادة 100 لتقويض وحدة السودان. فقد نصت المادة 5 من الاتفاقية على أنه لما كان الاحتفاظ بوحدة السودان كإقليم واحد مبدأً أساسياً للسياسة المشتركة للحكومتين المصرية والبريطانية ، فقد إتفقتا على ألا يمارس الحاكم العام سلطاته بموجب المادة 100 من قانون الحكم الذاتي على أية صورة تتعارض مع هذه السياسة.
تكوين أحزاب جنوبية
نصت المادة 7 من اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير للسودان لعام 1953 على تشكيل لجنة دولية للانتخابات من سبعة أعضاء: ثلاثة منهم من السودانيين يعينهم الحاكم العام بموافقة لجنته، وعضو مصري، وعضو من المملكة المتحدة وعضو من الولايات المتحدة الأمريكية، وعضو هندي تعينهم حكوماتهم على أن يكون العضو الهندي رئيساً للجنة.
أجريت انتخابات مرحلة الانتقال واكتمل إعلان نتائجها في 13 ديسبمر 1953. وبدعم مصر المالي والإعلامي، إستطاع الحزب الوطني الاتحادي أن يحقق نصراً كاسحاً ويشكل الحكومة برئاسة إسماعيل الأزهري. وفي يناير 1954 شهد الحاكم العام كتابة بحلول اليوم المعين وبداية فترة الانتقال المحددة بثلاثة أعوام. ففي ذلك التاريخ تم تكوين مؤسسات الحكم الذاتي وهي مجلس الوزراء ومجلس النواب ومجلس الشيوخ.
لم تُشكل أحزاب سياسية في الجنوب إلا قبل انتخابات مرحلة الحكم الذاتي التي أُجريت بموجب المادة 7 من الاتفاقية وملحقها الثاني. وفي يناير 1954 أي بعد الانتخابات اندمج الحزب الجنوبي المتحد والرابطة الجنوبية السياسية ليكونا معاً حزب الأحرار. وقد وقع على إعلان قيام هذا الحزب 23 عضواً من أعضاء البرلمان: 16 من مجلس النواب و7 من مجلس الشيوخ. جاء في الإعلان أن الحزب أُسس لحماية مصالح الجنوب وتجنب الدخول في الصراع الطائفي. وجاء فيه كذلك أن الحزب يؤمن باستقلال السودان التام وسيعمل مع أي أحزاب شمالية تشاركه هذا الرأي.
أمن حزب الأحرار على الحاجة لقيام علاقات طيبة مع مصر والدول الأخرى. ولكنه أعلن معارضته القوية لأي شكل من الاتحاد مع مصر أو لأي سيطرة أجنبية على السودان. وأعلن كذلك أنه يهدف للتنمية الاجتماعية والاقتصادية للمناطق المتخلفة والتي تشمل الجنوب والنوبة والفور والفونج.
أُسندت رئاسة الحزب لبنجامين لوكي واختير استانسلاوس بياساما نائباً للرئيس وبوث ديو سكرتيراً عاماً وباولو لوقالي أميناً للصندوق. كما ضمنت لجنة الحزب في مواقع أخرى غردون أيوم وألفريد أُلودو.
سيرد من بعد أن حزب الأحرار تبنى الدعوة لعقد مؤتمر جوبا الثاني في 18 اكتوبر 1954، وأن المؤتمر صوت لقيام إتحاد فيدرالي بين شمال السودان وجنوبه. وسيرد أيضاً أن دائرة إهتمام المشاركين في المؤتمر إتسعت لتشمل الفور والفونج والنوبة والسود في الشمال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.