أحد ادل الدلائل علي تدهور حالة العقل السوداني تصحرا ماوصل اليه حال اسواق الكتب المستعمله/ القديمه جفافا إذ خلت تقريبا من كتب القراءة العامه وتراكمت عليها رمال الكتب المدرسيه البسيطه التي اصبحت اغلبية المعروض الساحقة فيها، ولايقلل من كونها مظهر تدهور انها شبه جديده إذ يبدو انها من متسربات مخازن الوزاره، اي رأسا الي السوق دون ان تمسها يد التلميذ او الطالب. سور جامع الخرطوم الكبير وفي امدرمان حول البوسته وفي الخرطوم بحري جوار المدرسة الكاثوليكيه كانت مواقع تدوير للثروة الثقافيه بين قطاع واسع من القراء عبر الانخفاض النسبي لاسعار الكتب القديمه تنتقل بواسطتها مؤلفات في شتي مجالات المعرفة الانسانيه من يد الي اخري .. من يد لايمكنها مقدورها المالي من شراء الكتاب جديدا او اخري مقدورها المالي يسمح بشراء الجديد ولكنه غير متوفر في المكتبات. هذا زمان عندما كانت ساقية الثقافة العامة مدوره انتاجا محليا ومستوردا من بيروت والقاهره .. وايضا استهلاكا. فالمتعلم السوداني متوسط الحال كان راغبا في الاطلاع وقادرا علي توفير متطلباته الماليه، ماكان يوفر شق الطلب في معادلته مع العرض. ولكن هذه الساقية كفت عن الدوران نتيجة اختفاء هذين العاملين، فطول العهد بأنظمة النسق السياسي المغلق سد منافذ زيادة وتكثير الوارد الثقافي بالتدابير الادارية في المرحلة الاولي لهذا النوع من العهود ثم تعزيزها بالتحريم الديني في اخر طراز منها. واكتمل سد المنافذ بنضوب الطلب نتيجة إختفاء مستهلكي الثقافه من سوقها إذ ابتلعتهم دوامة المسغبة واضحت اولويتهم البقاء احياء جسديا /فيزيائا وليس عقليا. من ناحيتي العرض والطلب إكتملت الدائره. مع ذلك فأن أسواق الكتب القديمه لاتزال علي جفافها القديم ففيما عدا النذر اليسير من الانتاج الادبي المستورد والمحلي ليس هناك مايغري بالتجول فيها حارما البعض من هواية التنقيب في صفوف الكتب المستعمله وتصفحها ( والمفاصله مع الباعه ) لمجرد التنقيب او املا في الوقوع علي النادر من العناوين او غير النادر ولكنه خارج حدود الممكن ماليا عندما يكون جديدا. ولعل مستثمرا شجاعا أدركته حرفة الثقافه يقدم علي انشاء مكتبة لبيع الكتب القديمه، واحتمال الهامش الربحي كبير اذا فكر معنا بأن نقلها من الرصيف والشمس والغبار الي ملجأ امن سيتوفر فيه ايضا بالضروره شئ من حسن العرض والتنظيم وخدمة الزبون .. ولابأس من زيادة المعروض عن طريق القرصنه كما فعل العراقيون عندما ضاقت بهم دنيا صدام حسين منعا وإفقارا، فلجأوا الي تصوير الكتب وبيعها في شارع المتنبي البغدادي الشهير. الذين يعرفون مدينة لندن ثقافيا يعرفون ان هناك صفا كاملا من هذا النوع من المكتبات ( ناقصا القرصنه بالطبع ) امام المتحف البريطاني يدير بعضها اجيال من نفس العائله انعكاسا لعلو قيمة الكلمة المكتوبه ورسوخ مركزها في حياة الناس البريطانيين. وعندما سئل رئيس الوزراء البريطاني السابق جون ماجور عما سيفعله بعد تقاعده اثر هزيمته في الانتخابات اجاب بأنه سيجد الوقت ليمارس هوايته المفضله وهي زيارة محلات الكتب المستعمله للتصفح ( BROWSING تعني ايضا الرعي ). وهي هواية اقرب طرق ممارستها لدينا في ظروف هزال سوق الكتب القديمه هي تجاهل صفوف الكتب اللامعة الاغلفه عند زيارة اي مكتبه والبحث وسط المركون والمغبر. ولاينبغي لاحتمالات الخروج الخائب من مثل هذا المجهود، ولانظرات الاستفهام الاستغرابي أوالاتهامي من قبل العاملين في المكتبه لهذا الذي يطيل التقليب دون ان يشتري شيئا، ان ترد المرء عن هذه الممارسه لان المكافأة الثمينة التي تهون امامها صعاب المجهود والنظرات موجودة ايضا. هذا ماحدث مع كاتب هذا المقال عندما وقعت في يده واحدة من اكثر المطبوعات المعروضة في مكتبة دار نشر جامعة الخرطوم تواضعا من حيث الشكل : كتاب أقرب الي الكراسة في حجمه بلون بني باهت خشن المنظر ولكن عنوانه " العميد الدوش " لفت النظر، بينما فتح محتواه بعد ذلك الذاكرة علي تاريخ بعيد وأجاب علي سؤال حير صاحبه طويلا. الكتاب عباره عن ملف تذكاري حول احد أوائل رجالات التربية والتعليم وهو السيد محمد الدوش جمعت فيه ابنته د. انتصار مجموعة مقالات كتبتها شخصيات معروفه مثل علي المك، يوسف بدري، عبد الله الطيب وسر الختم الخليفه تخليدا لذكراه. كاتب هذا المقال كان احد تلاميذ المعلم الكبير الدوش في مدرسة الخرطوم الاهلية الوسطي ( الان مدرسة الشيخ مصطفي الامين النموذجيه) التي عمل فيها الراحل مدرسا ومديرا. لسبب لم يدرك كاتب المقال كنهه الا بعد اطلاعه علي بعض ماورد في الكتاب كانت صورة السيد الدوش تحتل في ذاكرته مكانا قصيا للغايه، فهي تعاند في البقاء بعكس الشخصيات الاخري التي تقبع مرتاحة في هذا الركن. لسبب من الاسباب تحتفظ الذاكرة بأسماء بعض المدرسين : انور زاهر الشيوعي الملتزم، شيخ العتقي مدرس الدين، مصطفي داؤد مدرس الجغرافيا وإبن عم كاتب المقال، حسين الغول مدرس الرياضيات، عبد الحميد مدرس اللغة العربيه ذو الخط الدقيق الجميل، محمد عبد الرحيم مدرس اللغة الانجليزية الحازم مبالغة،علي محمد ابرهيم المحامي المعروف لاحقا الخ .. الخ.. وحده إسم سيد الدوش بقي علي طرف الذاكره يكاد يسقط منها دون ان يسقط حتي جاء هذا الكتيب ليعطيه وضعا مستقرا فيها لكونه، علي الارجح، احد المصادر الاولي، لاختيارات صاحبنا صاحب هذا المقال في الحياة العامة لاحقا.