من الحوارات التلفزيونية المطرزة في قماش ذاكرتي، حوار برنامج (زيارة خاصة) على قناة (الجزيرة) مع السيد (الصادق المهدي) .. و حوار برنامج (بلا حدود) على ذات القناة، مع الدكتور (بطرس غالي) .. مع حفظ الأبعاد الإنسانية، و المسافات السياسية، و"الكاريزما" الشعبية، لكل منهما بالطبع ! .. ما زلت أذكر مشهد "استيضاح" محاور الإمام (الصادق المهدي) إياه، عن مفارقة اعتراضه الأسبق، في نهاية الستينيات، على الجمع بين (الإمامة) و (رئاسة الحزب) في عهد الإمام (الهادي) .. ثم حرصه (هو) على الجمع بعد ذلك بين ذات "الحُسنَيين" ! .. ثم أنني : مازلت أذكر تلك الإجابة الفلسفية، (دهليزية) الطابع، والتي جاءت محصلتها، "بعد لأي"، وبلغة المعادلات (فاي) ! .. أي والله ! .. فلا رفض المبدأ في الماضي بحسب تلك الإجابة الزئبقية يُدين تطبيقه في الحاضر .. ولا الرجوع عن الفكرة في الحاضر يُخطِّئ طرحها في الماضي ! .. أما مُحاور برنامج (بلا حدود) فما زلت أذكره وهو يُضيِّق الخناق على الدكتور (بطرس غالي) بشأن بعض ما ورد في كتاب له عن اتفاقية (كامب ديفيد)، كان قد صدر في أعقابها، ثم بشأن ما يناقض ما ورد فيه من أرائه عن ذات الحدث/القضية، في نهاية التسعينات ! .. ببساطةٍ شديدةٍ، "مريبة"، أجاب الرجل بأنه كان على خطأ، وأنه بعد تطور فكره، قد غير وجهة نظره، و (اكتشف) أنه كان على خطأ .. (بس) ! .. كشأن معظم المواطنين، أمارس "هواية" مقارنة تصريحات المسئولين والسياسيين عندنا بمثيلاتها عند نظرائهم في مختلف الحكومات و الهيئات الدولية ! .. و أصدقكم القول أنني كلما شاهدت مسئولاً أو سياسياً في أي بقعة من بقاع العالم يعتذر عن قول أو فعل ، "جاش صدري"، ودعوت الله أن لا يقبض روحي قبل أن أرى بأم عيني، وأسمع بأذني، مسئولاً أو سياسياً من ناسنا (حكومة .. معارضة .. شعبي .. وطني .. تمرد .. "مافارقة") ! .. المهم أن يعتذر (السياسي) أو(المسئول) بشجاعة عن فعل صدر عنه، أو قول بدر منه، ساعة سوء تقييم أو نقص تقدير .. أو فكرة أثبتت الأيام خطأ طرحها في لحظة من لحظات نقص تمام البشر الخطاءين ! .. (المهم أن نسمع كلمة "آسف، كنت على خطأ"، على لسان أحد الساسة في هذا البلد، قبل أن نُوارى الثرى) ! .. نحن الذين اعتدنا على أن تصريحات ومواقف المسئولين عندنا مثل "كرة الثلج" التي تزيدها (المكابرة) تفاقماً فتكبر و تكبر .. وتكبر .. إلى تخرج عن حدود "السيطرة" ! .. قبل أيام تناقلت وسائل الإعلام نبأ (اعتذار) الرئيس الأمريكي (بارك أوباما) الذي أخمد نيران أول جدل عرقي منذ توليه الرئاسة، عندما وصف توقيف شرطي أبيض (ظلماً) لصديقه الأسود بالعمل الأحمق ! .. لم يعتذر (أوباما) لأنه ملاك، بل اعتذر لأنه يعلم أن الاعتذار هو أقصر الطرق للخروج من المآزق الأخلاقية، وللحفاظ على صورته ومكانته في نفوس الآخرين ! .. هذا النوع من المواقف أقرب إلى الذكاء منه إلى النزاهة .. وربما كان الإمام (الصادق) يرى موقفه أكثر نزاهة بحسب قناعاته في إجابته الدهليزية تلك من موقف (بطرس غالي) .. لكنها ليست الإجابة الأكثر (مُداراة) لذكاء الآخرين، على كل حال ! .. في محاولة ل (تأصيل) اعتذار السياسي، وإن ضمنياً عن خطئه، وإن كان في مواجهة (امرأة) : نعود إلى أكثر مواقف الخليفة (عمر بن الخطاب) شيوعاً، اعترافه بالخطأ نزولاً عند رأي امرأة (أصابت امرأة، ورجل أخطأ) ! .. و.. إدراكاً لهذا المعنى الرفيع، قَبَّل (عمر) الفاروق نفسه، رأس (مرؤوسه) ذات مرة تقديراً له على (تقبيل) رأس قيصر الروم فداءاً لرعيته ! .. ف أضابير تاريخ صدر الإسلام تقول إن الصحابي الجليل (عبدا لله بن حذافة السهمي) هو الذي أنقذ جميع أسرى المسلمين لدى جيوش الروم، من الموت (قلياً) في قدور الزيت المغلي، عندما وافق على أن يتنازل عن كبريائه التي (حَرَّقت روح الروم)، وأن (يُقبِّل) رأس القيصر ! .. نُبل الفكرة ومغزاها العميق يكمن في (مبدأ) تحرُّر قرارات القائد/السياسي من شوائب الاعتبارات الشخصية، نزولاً عند مصلحة الرعية/الشعب، الأمر الذي يسمو بالقرار السياسي، و يثمِّن قيمته عالياً، حتى وإن كان مضمونه تنازل، أو اعتذار ! منى أبو زيد