[email protected] شهد القرن السادس عشر انفجار حركة الإصلاح الديني الذي رفع لواءه مارتن لوثر ، مؤسس حركة الإصلاح البروتستانتي ، وذلك بمعارضته لصكوك الغفران التي قادت إلى أكبر ثورة إصلاحية في أوربا شهدها ذلك القرن. وفي خواتيم القرن العشرين وصل تسلسل الوكالة عن الله في غفران الذنوب والوعد بالجنة الذي حمل لواءه الفقهاء المسلمين المعاصرين حداً فصل بين "ما وقر في القلب" و "صدقه العمل". ولم تقف الوكالة في عهد الإسلام السياسي الحديث عند آية الله الخميني في فتواه الشهيرة ضد سلمان رشدي ووعد قاتله بظلال الجنة الوارفة ، ولا الترابي في أوج مجده عندما كان يؤدي واجب التهنئة إلى أسر الشهداء بزواج أبنائهم من الحور العين ، ولا أبو مصعب الزرقاوي بوعد من يفجر نفسه في العراق لمقاومة الاحتلال بالجنة ،وإنما تعدى كل هؤلاء وتطور الدين أخيراً في شكل وصفات دوائية تغفر الذنوب بالجرعات. قبل يومين لجأ دعاة إسلاميين إلى ابتداع ما وصفوه بالعلاج الفعّال للذنوب والهموم والآلام والأحزان .حدث هذا في العاصمة السعودية الرياض حيث قام بعض الدعاة وعند مداخل المساجد بتوزيع عبوات دوائية تحمل اسم الماركة الدوائية الشهيرة "بندول" ،مرسوم عليها أقراص البندول ومكتوب عليها "علاج الذنوب: دواء فعّال لعلاج جميع الذنوب والهموم والآلام والأحزان ، لجميع المراحل العمرية ، دواء ساري الصلاحية حتى نهاية العمر".وفي نهاية الوصفة تم الترويج لكتاب (التداوي بالاستغفار) لمؤلفه وهو أحد دعاة الوصفة. أما داخل العبوة فلا يوجد دواء ولا يحزنون وإنما توجد وصفة علاجية توضح أن هذه الإرشادات هي :"لكل من يعاني من داء الذنوب ولكل من أغرقته الآثام والمعاصي ولكل من أجهدته المصائب والنكبات ، ولكل من أثقلته الهموم والغموم ولكل من ضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولكل من ضاقت عليه نفسه بما حملت ، ولكل باحث عن الحقيقة فلم يجدها ، ولكل ضيق برزقه ، ولكل من تمنى الولد ولم يرزق به ، ولكل من أتعبه المرض سنين وأعواماً ". أما الوصفة فهي عن الاستغفار مزودة بآيات قرآنية وأحاديث نبوية عن الاستغفار وفضله. يمكن اعتبار هذه الوصفة إحدى وسائل توصيل الرسائل الدينية بيد أنها وسيلة لا تتناسب مع قدسية الرسالة ، ولا تحترم علاقة الإنسان مع ربه التي لا تشترط لاكتمال الإيمان ولزوال المرض والرزق بالأبناء اتباع ما جاء بها ، وإنما رحمة الله ولطفه بعباده تأتي من أبواب شتى لا يجوز حصرها في وصفة علاجية توزع على جموع المصلين في بعض مساجد الرياض.وبغض النظر عن الجمهور المستهدف من المصلين المؤدين لفريضة وركن من أركان الإسلام الذي لا يخلو من الاستغفار ، فإن مسألة إقحام آيات القرآن والأحاديث النبوية في عبوات فارغة يوزعها المسوقون على أنها أدوية ، تُصنف على أنها نوع من أنواع الاحتيال ، كما أن إقحام فضيلة الاستغفار التي يؤديها المصلون طوعاً يجعل الرسالة تتجاوز حد الدعوة السلمية إلى الدعوة القسرية. ومن ناحية أخرى فإن هذا الأسلوب التسويقي لم يراعِ الله ابتداءً في حق الشركة الدوائية الشهيرة"بندول"، ولم يوضح لنا أن هناك اتفاق مسبق بين الشركة الدوائية وبين الوكالة الدعائية المصممة والمنفذة لعلاج الذنوب.وهل استغفر رعاة الإعلان ربهم جيداً قبل أن يسرقوا حقوقاً لآخرين تتعلق بالملكية الفكرية . لا أظن أننا مقبلون على نوع جديد من فقه الدعوة وإنما نحن مقبلون على إنقلاب فكري إسلامي يجعل الاستغفار وحده - دون العمل - كافياً لإرضاء الله تعالى، وبهذا تسحب هذه الوصفة العجيبة الدين بكل قيمه من الحياة سحباً أبدياً وتستبدله بجرعات. عن صحيفة "الأحداث"