قيل ان فى السفر سبع فوائد ، واحسب ان هذه الفوائد يجنيها المرء اذا كان مرتاحا خالى البال مطلق الحرية كطائر يطير فى الفضآء حيث شآء ،ولكن المضطر والمرغم لا بد له من البحث عن مكان يكفل له الأستقرار والأمن والعيشة الكريمة ، المطمئنة ، ونحن منذ نشأتنا فى سوداننا الكبير بما فيه جنوبنا الحبيب المفقود لم نعهد الأغتراب عن وطننا ولم نطيق مجرد التفكير فى ذلك الأمر، فقد كان الوطن بالنسبة لنا كما قال الشاعر : وطنى لو شغلت بالخلد عنه نازعتنى اليه فى الخلد نفسى بل كان السودان بخيراته وناسه الكرمآء مقصد الوافدين من كل ملة ولون من دول غرب افريقيا ومن شرقها وجنوبها ومن شمالها لطلب الرزق الحلال ، فما ضقنا بهذه الحشود الوافدة ووجدوا عندنا الأمن والملآذ والعيش المستطاب ، فاتخذوا السودان وطناا" ثانيا" ، ولكن ظلم الانسان لأخيه الأنسان الذى جار على أخيه واذاقه الوانا" من الظلم والاضطهاد لم يخطر ببال أى منا ، وممن ؟ من أخوتنا عندما سطا على الحكم الأخوان المسلمون الذين اسماهم النميرى الذى نصبوه هم اماما" للمسلمين وحضوا الناس لاخذ البيعة له ، أسماهم اخوان الشيطان بعد ان خبرهم وكانوا أعوانه ! فهؤلآء البشر أذاقوا السودانيين الويلات من تقتيل الأنفس وحرق الدور وهتك اعراض النسآء ، وتدمير ما شيده المستعمرون ومن بعدهم من الحكومات الوطنية من مشاريع تنموية كمشروع الجزيرة والمناقل الذى كانت العآئدات من بيع القطن المزروع فيهما تكفى السودان ، وقضوا على المؤسسات الناجحة الرابحة ، كما نهبوا خزينة الدولة ويتصرفون فى الأموال العامة بالأختلاس وخلافه من الاساليب الفاسدة وكانها ورثت لهم من آبائهم ، فأصبح السودان قاعا صفصفا بعد ان كان بستانا" يانعا" يفيض بالثمار ، وصار السودان طاردا" لأبنآئه حيث عز فيه العيش واصابت البطالة الشباب ،واصبح أجر العاملين فى الحكومة لا يكفى الأيفآء بشرآء لوازم البيت اليومية من خضار وخلافه لأن اسعار السلع تزداد كل يوم باضطراد كزيادة الأميبيا ، واما اللحم الذى كان لا يخلو منه أى بيت او حلة طبيخ صار من جملة الأمانى ، وان تعجب فأن العجب العجاب ان هناك تسمية جديدة لقطعة اللحم الصغيرة وهى مس كول وتعنى هذه نصف الربع من كيلو اللحم ! وهذه القطعة الضئيلة ثمنها سبعة الآف جنيه ،فتخيل ! ويشترى الواحد هذه المس كول مرة واحدة فى الاسبوع لا تتكرر وذلك لمن اراد التوسعة على عياله او يتوقع ضيفا" عزيزا" ! وبسبب ذلك العذاب صارالكل يود الأفلات الى خارج القطر بأى ثمن ، وهكذا لاتجد منزلا" واحدا" يخلو من مغترب فى سودان اليوم حتى انه صارت نادرة تحكى عن الأم التى قالت لابنها الوحيد والذى ظل بدون عمل لمدة ثلاث سنوات بعد اكماله الجامعة : ( يا ولدى لو ما اتغربت ما عافية منك ) وشمل الاغتراب كل أرجآء الدنيا فنجد السودانيين فى امريكا وكندا وانجلترا واستراليا والسويد والنرويج وهولندا وسويسرا والسعودية واليمن وسلطنة عمان والكويت وفى جزر فى المحيطات والبحار لم نسمع بها من قبل . واصابنا ما أصآب السودانيين من اغتراب عدا الكيزان فى نظام الانقاذ ، فاغترب ابناءى فى امريكا واستراليا والبحرين وبعض اخوتى فى كندا ويوغسلافيا وسويسرا وفرنسا وانجلترا ، وهكذا تشتتت الأسرة فى أديم الأرض وبعد ان امضيت فى مصر عشر سنوات عقب انتهآء عملى فى السعودية توجهت الى امريكا للاقامة هناك للم الشمل مع ابنتى وزوجيهما واحفادى بعد ان صرنا بعيدين ووحيدين فى مصر ولا أمل فى العودة الى الوطن فى ظروفه الحالية تحت نير حكم الطغاة الحالى ، ولكن يظل الحنين اليه مشتعلا" فى القلب ولن يطفئ نار وشوق الحنين سوى العودة اليه والتى نتوق ان تتحقق عن قريب عاجل وركبنا الطائرة الفخمة الحديثة لخطوط مصر للطيران من مطار القاهرة الجديد البالغ الفخامة والنظام، وكانت الرحلة فوق طيات السحب متجهة الى مطار جون كندى فى مدينة نيويورك سلسة هادئة لم يعكر صفوها مطبات هوائية ،فسكن روع البعض الذين يركبون الطائرة لأول مرة ، وحتى الذين ألفوا ركوب الطائرات اعتراهم شيء من القلق حين تذكروا حوادث وكوارث الطائرات ، فقد خلق الأنسان هلوعا . وكان مضيفوا ومضيفات الطائرة فى غاية اللطف والظرف ولعل ذلك يرجع الى اختيارهم بعناية فائقة . وبعد اثنتى عشرة ساعة من الطيران المتواصل اخبرنا كابتن الطائرة بان نربط الأحزمة استعدادا" للهبوط فى مطارجون كندى بنيو يورك ، وهبطت الطائرة فى هدوء وسلاسة حتى وقفت ، وبتلقائية وقف جميع الركاب والذين يربو عددهم الى المائتين يصفقون للكابتن مثنين عليه ،واعلمنا الكابتن من خلال المكرفون ان الساعة الآن فى نيو يورك هى الثامنة مسآء وان درجة الحرارة هى صفر مئوية . ونواصل هلال زاهر الساداتى Hilal Elsadati [[email protected]]