في تقديري أنه لم تكن هناك ضرورة - من الأساس - لسن قانون الثراء الحرام، أو أن تُجهِد الدولة نفسها بموضوع تقديم إقرارات الذمة الذي يتطلب القانون تقديمه من رئيس الجمهورية ونوابه ومساعديه والوزراء والولاة والقضاة وضباط الجيش ..الخ، ذلك أنه من بين الصفات التي أنعم بها الله على شعب السودان أنه يعرف كل شيئ عن ذمة أي شخصية عامة حتى لو كان حكم كرة القدم، فالشعب يعلم – مثلاً – أن ذمة الرئيس البشير حينما بلغ السلطة كانت على البلاطة، ولم يكن يملك من حطام هذه الدنيا ولو سيارة (هلمان 60) مثل أقرانه من أفندية الحكومة في ذلك الوقت، حتى أنه يا عيني، ووفق ما رواه بنفسه، إضطر لإستئجار عربة تاكسي عمومي لتأخذه من منزله إلى القيادة العامة لتنفيذ الإنقلاب، كما أن هناك من المسئولين الآخرين الذين يعرف الشعب بأنهم بلا ذمة من الأصل. وما حملني لمعاودة الكتابة عن هذا الموضوع، هو تواتر الأخبار التي نُشٍرت حول هذا الموضوع خلال الأيام الماضية ، ومن بينها قيام الرئيس عمر البشير بتشكيل لجنة لفحص إقرارات الذمة من بين أعضائها المكاشفي طه الكباشي (بتاع الطوارئ) والشيخ أبوقناية وآخرين ، وخبر آخر عن حملة يقوم بها النائب العام تهدف لحمل الوزراء والمسئولين على تقديم إقرارات الذمة الخاصة بهم، كما وقع أيضاً على يدي تصريح لمسئول بوزارة العدل قال فيه بأن هناك عدد من المسئولين الحكوميين قاموا بنقل ملكية العقارات المسجلة في إسمائهم إلى أسماء أشخاص آخرين، وذلك بغرض التحايل على قانون الثراء الحرام بعد أن أعلن النائب العام عن عزمه على "تفعيله" خلال الأيام القادمة. الحقيقة أن النائب العام لو أراد خيراً بهذا الشعب، فعليه أن يستمر في تعطيل تطبيق قانون الثراء الحرام، برغم أننا لا نعرف من أين جاء النائب بسلطة تعطيل القانون إبتداءً حتى تكون له سلطة تفعيله، فليس من العدل أن تقدم إليه إقرارات الذمم بعد كل ما حدث لها من إنتفاخ، فالذمم المالية التي ينبغي أن يقدم بشأنها الإقرار هي ذمم 1989 وليس ذمم 2013، والقول بغير ذلك يضفي مشروعية على إكتساب تلك الأموال، ومثل هذه النتيجة تسمى في القانون "غسيل الأموال". والسبب في ذلك، أن قانون الثراء الحرام قد جعل الأساس في تقرير مشروعية الأموال الموجودة في ذمة الموظف العام، هو حصرها – فقط - بما يطرأ من (زيادة) على ما هو مدون في إقرار الذمة الخاص بالموظف، فإذا تقدم وزير - مثلاً - بإقرار ذمة يفيد بأنه يتملك ثلاثة عمارات بمدينة الرياض وفيلا بالمنشية ومزرعة بالباقير وثلاثة سيارات دفع رباعي، يكون إقراره سليماً ومن ثم تقوم اللجنة بقيده كما هو ومعه تعظيم سلام، دون أن يكون لها الحق في سؤاله عن مصدر تلك الممتلكات، ولكن تكون للجنة سلطة سؤاله عن شرعية حصوله على سيارة الأتوس المستعملة التي يرد ذكرها عند تجديده لإقرار ذمتة بعد مرور عام على ذلك. والثابت بالقطع، أنه وحتى تاريخ 28/12/2006 لم يحدث أن تقدم مسئول حكومي واحد بإقرار يوضح ما في ذمتة المالية من ممتلكات، وقد وردت هذه الحقيقة بلسان الأستاذ الهادي محجوب مكاوي رئيس إدارة الثراء الحرام بديوان النائب العام الذي أجريت معه مقابلة صحفية في ذلك التاريخ بجريدة الصحافة، ولا يدري أحد على وجه اليقين متى تقدم أي منهم بتقديم إقرار ذمة بعد ذلك، بيد أن الذي يُفهم من تصريحات النائب العام، أنه لا يزال هناك من لم يتقدم بإقرار الذمة حتى كتابة هذه السطور. والحال كذلك، فلا ينبغي أن ينطلي الحديث عن "تفعيل" هذا القانون بعد تعطيله لربع قرن، فهذه كذبة كبيرة، ويخطئ من يعتقد بأن هذا النظام يمكنه محاسبة مسئول، فهذه مهمة مستحيلة، لأنه ليس هناك من له ذمة نظيفة من بين أركان النظام ليقوم بمساءلة غيره، فالنظام يخشى أن تتدحرج كرة المحاسبة لأنه يعلم بأنها لن تتوقف، ويعلم بأن كل فاسد تتم محاسبته سوف يكشف فساد مائة يقفون خلفه ومثلهم أمامه، سواء تم ذلك بقانون الثراء الحرام أو الحلال. ولكن يبقى السؤال، هل تستطيع حتى الحكومة القادمة محاسبة الفساد الذي جرى في هذا العهد !! وهل تستطيع أن تسترجع الأموال التي تم نهبها !! الإجابة على هذا السؤال ليست بالسهولة التي يُطرح بها، وتاريخ ثوراتنا السابقة يجعلنا لا نُسرف في التفاؤل، فقد قامت الحكومة الإنتقالية للإنتفاضة 1985 بإجراء تسويات مالية مع الذين وُجهت اليهم تهماً بالفساد في عهد مايو، حيث قاموا بموجبها بدفع مبالغ مالية لم تشكل سوى جزء يسير مما حصلوا عليه من فسادهم، ولم يتم تقديمهم لمحاكمات، وقد فعلت الحكومة المنتخبة بعد ذلك (إئتلاف الأمة والجبهة الإسلامية) ما هو أسوأ من ذلك، حيث قام النائب العام (حسن الترابي) بإساءة إستخدام السلطة الممنوحة له بموجب القانون (المادة 215 قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983) بوقف محاكمة وزير البترول ومساعديه الذين كانت قد وجهت إليهم المحكمة أكبر تهم فساد في تاريخ السودان الحديث حتى ذلك الوقت. كما يزيد من تعقيد هذا الموقف، ما قامت به الإنقاذ – تحسباً لمثل ذلك اليوم – من تعديل لقانون الإجراءات الجنائية الحالي بإدخال مواد تقضي بسقوط الجرائم بالتقادم، وقد مضت على معظم جرائم الإنقاذ الكبرى المدد الكافية لسقوطها بهذا التقادم، وسوف يخرج كثير من متنطعي القانون وبينهم خصوم لهذا النظام – كما حدث في السابق – لينادوا بالتمسك بحرفية قواعد العدالة التي تقضي بعدم سريان القانون بأثر رجعي . ونحن نتمنى أن يختلف الأمر هذه المرة، فلا بد أن يقتص شعبنا لنفسه من هذه المخلوقات التي سرقت عمره وهدمت أحلامه ، وجلبت عليه كل هذا الدمار، فلن يتعافى الوطن بلا محاسبة وبدون قصاص عن تلك الجرائم، وقد أتيحت لكاتب هذه السطور فرصة التباحث مع الأستاذ علي محمود حسنين حول هذه المواضيع، وقد وقفت على الجهد المقدر الذي قام به في صياغة مسودة بالقوانين التي تضمن معالجة كل الثغرات التي تتيح إفلات المجرمين، وسوف نقوم قريباً بإستعراض ما ورد في تلك المسودة لنتيح فرصة مناقشتها، كما أن هناك من أبناء الوطن من يعملون الآن على رصد وتوثيق المعلومات والجرائم والمخالفات والسرقات التي وقعت في هذا العهد وأسماء الأشخاص الضالعين فيها، و..... حتماً سوف نقتص من هؤلاء المجرمين، فليوفروا على أنفسهم مشقة تقديم إقرارات هذه الذمم المخرومة. لقد سبق لنا ختم مقال سابق كُتب في ذات السياق، بتناول قصة تُروى في سيرة سيدنا عمر بن الخطاب، ولا أجد أفضل منها لأختم بها هذا المقال أيضاً، فقد رُوي أن الخليفة العادل رأى أبوبكر الصديق - وكان أميراً للمؤمنين - يخرج من خيمة تعيش فيها أرملة فقيرة مع أيتامها الصغار، فلما خرج أبابكر ، دخل عليها عمر وسألها : ماذا كان يصنع عندك هذا الشيخ ؟؟ فقالت له : “جاء إلينا ليصنع لنا طعامنا ويكنس بيتنا ويحلب شياهنا ويغسل ثيابنا" فجلس عمر على الأرض وقال وسط دموعه : "لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبابكر". ونحن نقول لأميرنا هذا: لقد أتعبتنا يا عمر.