بسم الله الرحمن الرحيم الخُطبة الأولى الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون. وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبده رسوله، صلواتُ الله وسلامُه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلي يوم الدين. يقول اللهُ تعالي في مُحكم تنزيله: (الم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)). أحبتي في الله: الرسالة المحمدية إتفقت مع رسالات الأنبياء السابقين في أصولٍ ثلاثة هي: التوحيد، والعدل، والإيمان بالآخرة. وتميزت عنها بخمس ميزات هي: العالمية، والختام، والشمول، وديمومة المُعجزة، واليسر ورفع الحرج. بهذه المعاني استطاع الإسلام أن ينقل المجتمع الجاهلي من ظلام الشرك إلى نور الإيمان، ومن إطار القبيلة إلى رحاب الأمة، ومن إستبداد الحُكام إلى عدل الإسلام، ومن ضعف السيادة إلى مركب القيادة، ومن ظلمات الجاهلية إلى نور الحضارة، ومن الإنغلاق في المحلية إلى الإنطلاق نحو العالمية، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. وفي زمنٍ وجيز – ربع قرن إلا قليلاً- استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يُحدث نقلة حضارية لم تشهد الإنسانية مثلها، وأن يصنع أمةً عملاقة بهرت الدنيا بقوتها وحضارتها. هذه النقلة لم تصنعها الأموال (لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). ولم تصنعها كذلك قوة السلاح بدليل أن أخصب فترة لاستقطاب الناس للدين الجديد كانت في عامي الحُديبية، وهما عاما وقف إطلاق النار بالمفهوم المعاصر. وأعظم فتح في صدر الإسلام كان فتحُ مكة، وقد فُتحت بغير قتال، لدرجة أن أبا سفيان قال: (إن محمداً يستحوذُ علي القلوب لا الجدران). أحبتي في الله: هذه النهضة الحضارية لم تمت بموت النبي صلى الله وسلم؛ لإن عطاء القرآن مُمتدٌ إلى أن يرث اللهُ الأرض ومن عليها؛ ولإن الخطاب القرآني كان واضحاً: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) . ولذلك أدرك الصحابة رضوان الله عليهم أن رسالتهم في هذه الحياة لم تنته بعد، وأن عليهم مهمة تبليغ هذا الدين إلي الإنسانية كلها، لهذا السبب لم يكن فتح مكة آخر الفتوحات، بل تواصلت الفتوحات في عهد الخلافة الراشدة، وعهد الدولتين الأموية والعباسية لتشمل بلاد الروم، والفرس، وشمال أفريقيا، وإسبانيا، وغرب الصين وجنوبفرنسا، وخضعت بذلك أقوام تحت لواء أمة الإسلام. وهنا يقفز سؤالاً إلي الذهن: ما الذي أدى إلى تخلف المسلمين عن سفينة الركب الحضاري بعد أن كانوا قادتها؟ من إشراقات الدولتين الأموية والعباسية أنهما وسعتا من حركة الفتوحات الإسلامية، وأسهمتا بنصيبٍ وافرٍ في النهضة الثقافية والمعرفية للأمة، ولكن هنالك خمسة عوامل أدت إلي هذا التخلف: -الإستبداد السياسي الذي أعقب دولة الخلافة الراشدة. - الجمود المعرفي الذي كان ثمرة مرة لقفل باب الاجتهاد. - غياب العدالة الإجتماعية. - حدة الصراع علي السلطة نسبة لعدم وجود شرعية مُتفق عليها. - التفرق المذهبي. هذه العوامل عصفت بكل تلك الإشراقات، وأودت بالأمة التي جعلها اللهُ خير أمةٍ أُخرجت للناس أودت بها بعد حينٍ من الدهر إلى غيبوبة كاملة. غيبوبة ساهمت فيها الدول الأموية، والعباسية، والعثمانية بتفاوتٍ في الدرجات، ولسنا هنا بحاجة إلى إجترار سوءات الماضي ف (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ). ولكن المهم أن ناخذ الدروس والعبر حتي لانقع في ذات الأخطاء التي عصفت بنهضة الأمة، وجعلتها لقمةً سائغة تتناوشها الأمم من حولها. أحبتي في الله: مع تخلف المسلمين في عصرنا الحالي عن سفينة الركب الحضاري، ومع الضعف السياسي والاقتصادي والعلمي والعسكري الذي يعاني منه المسلمون، إلا أن الإسلام اليوم هو أوسع الأديان انتشاراً في كافة أرجاء المعمورة: - في فرنسا 30% من الشباب دون العشرين مسلمون، وفي المدن الكبرى يرتفع إلى خمس وأربعين في المائة. - عدد المسلمين في روسيا بلغ 23 مليون مسلم أي 20% من نسبة السكان، ونشرت صحيفة برافدا الروسية عام 2008م مقالاً بعنوان: " الإسلام سيكون دين روسيا الأول في العام 2050م". - في تقرير لشبكة سي إن إن بعنوان الانتشار السريع للإسلام في الغرب: ( أن أعداد المساجد تُنافس أعداد الكنائس في باريس ولندن وروما، وأن نسخ القرآن من أكثر النسخ مبيعاً في الأسواق الأوروبية والامريكية". علاوة على هذا فهنالك مؤشرات تُبشَر بمستقبلٍ أفضل للإسلام: - ازدياد الوعي الديني في البلدان الإسلامية، ونمو أعداد المساجد بصورةٍ كبيرة حتى في الدول الغربية نفسها: * في جذر البليار جنوب شرقي إسبانيا تضاعف عدد المساجد خمس مرات منذ العام 2005م. * عدد المساجد في فرنسا 2300 مسجد، منها ألف مسجد كانت كنيسة في السابق. * في الولايات المتدة الأمريكية تم بناء 1200 مسجد في 12 سنة بمعدل مائة مسجد سنوياً. - إضافة إلى ذلك فقد ازدهرت معاهد العلم والجامعات التي تهتم بدراسة العلوم الشرعية، واتسعت فضاءات الدعوة بصورة مُنقطعة النظير عن السابق، وصار أعداد الدعاة الذين يُبشرون بدعوة الإسلام لا يُحصون، وصارت الحماسة الإسلامية هي الغالبة. ومع كل ذلك فإن بيننا وبين النهضة المنشودة مسافات، ولكي نصل إليها نحتاح إلى امتلاك المفاتيح الآتية: أولاً: المُفتاح الروحي: لايمكن لأية نهضة أن تكون شاملة بمعزل عن الجذور الروحية، قد يقول بعض الماديين: ما علاقة النهضة بالميدان الروحي؟ إن الغرب لم يبن نهضته إلا بعد أن ضرب صفحاً عن المسيحية، ونسي هؤلاء أو تناسوا أن مقارنة النهضة في البلدان الإسلامية بنهضة الغرب القائمة علي نفي الغيبيات خطأ؛ لأن النهضة في بلاد المسلمين كان العامل الاساسي فيها الإسلام وليس إبعاده كما فعل الغرب بالمسيحية، بل إن البعد عن النهضة ارتبط في تاريخ المسلمين بالبعد عن القيم الإسلامية. ثم إن العامل الروحي كان حاسماً في كثير من الإنتصارات في تاريخ الإسلام: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) هل كان من الممكن أن ينتصر المسلمون في بدرٍ بمقاييس القوى المادية لولا المدد الروحي الإلهي؟ بالطبع لا، ولكن هذا يجب ألا يبعدنا عن الأخذ بأسباب القوة المادية، فاللهُ سبحانه وتعالى جعل للكون نواميس وقوانين تُعطي من يتبعها، والنواميس الكونية لا تُحابي أحداً، وعطاءُ الله سبحانه وتعالى يذهبُ للمسلم ولغير المُسلم: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا). ثانياً: المُفتاح الفكري: بعض التيارات الفكرية في بلداننا ترى أن نهضة المسلمين لا تتحقق إلا بتقليد الغرب، هؤلاء يرون أن الغرب بخيره وشره يُمثل مستقبل الإنسانية، وأن الإسلام يعتبر سداً منيعاً أمام النهضة. وبعضها الآخر يرى النهضة في الالتزام باجتهادات السلف، هؤلاء يُقدسون التراث الإسلامي ويُبخسون الإنتاج الحضاري للآخرين، بل إن بعضهم يرى أن تُحذف علامة (+) من مادة الرياضيات بحجة أنها تُبشَر بمشروع صليبي يجب استئصاله!. هذان التياران لا يصلحان لقيادة نهضة إسلامية في القرن الحادي وعشرين؛ ولكن الأمل معقودٌ على تيار الوسطية الإسلامية: - التيار الذي يرى أن نلتزم بالكتاب والسنة مع الإستنارة باجتهادات السلف دون الإلتزام القطعي بها. - التيار الذي لايبُخَس من أهمية النهضة العلمية، والفكرية، والسياسية التي أنتجها الآخرون؛ ولكن يتعامل معها بأسلوبٍ لايتناقض وخصوصيتنا الدينية والثقافية. إذا إستطاع هذا التيار أن يُوسع من ماعونه الشعبي، فلا شك أن هذا يُعتبر عاملاً أساسياً من عوامل النهضة. أقول قولي هذا واستعفر الله لي ولكم. الخطبة الثانية: اللهم إني أحمدُك وأُثني لك الحمد يا جليل الذات ويا عظيم الكرم، وأشكرُك شُكر عبدٍ مُعترفٍ بتقصيره في طاعتك يا ذا الإحسان والنعم، وأسالُك اللهم بحمدك القديم، أن تُصلي وتسلم على نبيك الكريم، وعلى آله ذوي القلب السليم، وأن تُعلي لنا في رضائك الهمم، وأن تغفر لنا جميع ما أقترفناه من الذنب واللمم. أحبتي في الله: ذكرنا في الخطبة الأولى مُفتاحين من مفاتيح بوابة الوصول إلى النهضة، وسنُكمل في الخُطبة الثانية بقية المفاتيح. المُفتاح الثالث: تنزيل البعد الحضاري للإسلام على ارض الواقع الإسلام من حيث الجوانب العقائدية والعبادية مُطبق على أرض الواقع؛ ولكن من حيث الأبعاد الحضارية غائب تماماً عن الساحة العملية: - احترام كرامة الإنسان وحقوقه واحترام المرأة نتحدث عنها كقيم موجودة في ديننا وهذا صحيح؛ ولكن وجودها على أرض الواقع ضعيفاً. - وكذا الحال بالنسبة لتحقيق النظام السياسي الذي يُحقق المساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون والمساواة والعدالة والحرية. - ثم النظام الاقتصادي الذي يحل مشكلة الفقر، ويحترم الملكية الفردية مع الالتزام بالعدالة الاجتماعية. - ثم الاهتمام بالبيئة الطبيعية وحمايتها من التلوث. نحتاج إلى تنزيل هذه المفاهيم وغيرها من المعاني التي دعا لها الإسلام على أرض الواقع، ولا يكفي أن نقول إن الإسلام حوى هذه المعاني لإن هذا ثابت ويُحسب للإسلام كدين ولكن المحك أين واقع المسلمين من هذه المعاني؟ المفتاح الرابع: التوازن بين الدنيا والآخرة بعض الناس يندفعون نحو الدنيا بصورةٍ تفصلهم عن الآخرة، وبعضهم الآخر يندفع نحو الآخرة بصورةٍ قد تجعله بعيداً عن الواقع. والصحيح أن نُوازن بين الإثنين، ويحضرني في هذا المقام نموذجين: - نموذج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كانوا أزهد الناس في الدنيا (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة)، ومع ذلك بنوا حضارة عظيمة حتى بمقاييسنا المُعاصرة، لم يمنعهم الزهد من العطاء بلا حدود في سبيل رفعة الإسلام. الثاني: نموذج الإمام المهدي وأصحابه، هؤلاء بلغوا في الزهد شاؤاً بعيداً، وعندما رآي الإمام المهدي بعضاً من الزينة في بيت المال بعد فتح الخرطوم قال: (وشياطين الإنس والجن من الدنيا المُشاهدة بالعيان، وسحر من اللذة والزينة والجاه الذي يُعقب الخُسران، فلا خلوص لنا إلا بك فأرفعنا منها بلطفك يا منان)، ومع ذلك طرد الاستعمار البريطاني رغم اختلال ميزان القوى المادية، ووحد السودان، وأقام دولة قوية استطاعت أن تصمد بعد وفاته ثلاثة عشر عاماً رغم الطُوفان الإستعماري الذي أحاط بها من كل الإتجاهات. المفتاح الخامس: الأخلاق مع ازدياد نسبة التدين في مجتمعنا الإسلامي بصورةٍ كبيرة، إلا أن لدينا مشاكل أخلاقية: ظاهرة الأطفال مجهولي الأبوين، شيوع الرشاوي، استغلال السُلطة، المُحاباة في الوظائف، ظاهرة الثراء الفاحش وأكل المال العام الخ. لا يمكن للأمة أن تنهض في ظل وجود هذه الأمراض، سُئل أحد المسئولين اليابانيين عن سر التطور الاقتصادي، والتكنلوجي الذي شهدته بلاده للدرجة التي وضعتها ضمن قائمة الدول الثماني العظام في العالم، فأجاب قائلاً: هذا التطور ثمرة لشيئين: الأخلاق، والتواصل بين الأجيال. المُفتاح السادس: العدل لا يُمكن لنهضة أن تقوم في غياب العدل؛ لإن العدل هو ميزان الله على خلقه، ولإن غيابه يُحفز على عدم الإنتاج لذلك قال بن خلدون في مقدمته الشهيرة: ( إن الظلم مؤذنٌ بخراب العمران). المُفتاح السابع: التعاون والتنسيق المشترك بين الدول الإسلامية التطلع نحو دولة إسلامية واحدة على صورة الخلافة الراشدة هدفٌ صعب المنال، وكذلك التوحد خلف قيادة إسلامية واحدة، وأقرب مثال لذلك تجربة التنظيم العالمي للإخوان المسلمين. هو الآن لديه انتشار في عدد كبير من دول العالم، ولكن هنالك حركات إسلامية كثيرة انشقت عن هذا التنظيم أو ترفض الانضمام تحت لواء قيادته: الجبهة الإسلامية القومية في السودان خرجت من رحم التنظيم في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، كذلك حركة مجتمع السلم في الجزائر، ثم إنشق بعض القيادات وكونوا حزب الوسط الإسلامي في الأردن، ثم حركة التوحيد والإصلاح مع اعترافها بالمرجعية الفكرية المشتركة مع الإخوان إلا أنها ترفض الانضمام للتنظيم. والبديل أن تبتعد الجماعات الإسلامية عن التنازع وتقترب من التعاون والتنسيق المُشترك؛ لإن في الاتحاد قوة ( وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ)، وعلى الدول الإسلامية أن تُنسق فيما بينها، وأن تتعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والعلمية ألخ. الغربيون على الرغم من عدم تمتعهم بعوامل وحدة مثلنا لا دين واحد ولا لغة واحدة، إلا أنهم استطاعوا أن ينشئوا اتحاداً يُنسق بين الدول الأعضاء في كافة المجالات. المسلمون يؤمنون بكتاب واحد، ورسولٍ واحد، ويُصلون على قبلة واحدة، ويُمارسون شعائر عبادية واحدة، ووجدانهم مُشترك، ومصالحهم مُشتركة، ومن باب أولى أن يُحققوا التعاون فيما بينهم سيما وأنهم مأمورون بذلك (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاتَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَان) اللهم أرحمنا فأنت بها راحم ولا تُعذبنا فإنك علينا قادر. ملحوظة: الخطبة تم تحريرها لتتواكب مع القراءة النصية.