بسم الله الرحمن الرحيم جاء في قواعد الاحكام لابن العز: (الطب كالقانون، جعل كي نجنى ثمار السلامة و نتقى متاعب المرض). و قال الامام الشافعي: (لا أعلم علما بعد الحلال و الحرام أنبل من الطب). و الطب هو علاج الجسم و النفس. و يقول ابن منظور ان (اصل الطب الحذق في الاشياء، و يقال لمن حذق بالشيء طبيبا). اود في هذه العجالة أن أتطرق الى اخلاقيات المهنة او ما اصطلح على تسميته بالممارسة الطبية الجيدة بمعنى Good Medical Practice و قد اصدر المجلس الطبي السوداني دليلا جامعا مانعا حوى كل ما يتعلق بقواعد و آداب السلوك للمهن الطبية، واختصارا، الممارسة الجيدة. و كلمة الجيدة تحمل العديد من المعاني السامية فهي ضد الرديء و تعنى فيما تعنى تجويد العمل و حذقه و اتقانه. الطبيب في مقدمة من يُتوخى فيهم حذق مهنته و اتقانها. و اولى موجباتها عدم العجلة في فحص المريض، و تشخيص علته، ووصف الدواء الناجع الشافي لعلته. لكن الطبيب بشر من لحم و دم. و فيما بين زمرهم نجد الصالح و الطالح و الطبيعي و"الشرير" و الرزين و الاحمق و النشط و الكسول و منهم "من بالجد عاشق خياله و ساكن فيه ظلا ظليل". ومنهم من هو مثل النسيم يباشر المرضى بود وعناية. و منهم من يكون متجهما لا تطمئن له القلوب. تلكم طبيعة البشر، و لا نخال أن الاطباء يختلفون عن بقية خلق الله. و تلك الاوصاف تقودنا الى سؤال يفرض نفسه : هل الطبيب الجيد هو بالفعل الطبيب الكامل؟. هذا افتراض تصعب مقاربته، فالضغوط التي يتعرض لها المريض والطبيب كبيرة في حجمها و مآلاتها ذلك لارتباطها بحق المرضى على الطبيب، و شعور الطبيب بانه يبذل اكثر من طاقته. و في المبتدأ الحد الفاصل فيما بين الحياة و الموت. وعلى الطبيب أن يحسن التعامل مع مرضى بهم الكثير من عزة نفس رغم فقرهم و قلة تحصيلهم العلمي. ولكن كيف للطبيب أن يحسن التواصل مع مرضاه و قد هدته ساعات طوال من العمل المضنى في اكثر من مشفى و جامعة، ولبعضهم اكثر من عيادة. لا مناص من الاعتراف ان العلاقة بين الطبيب والمريض علاقة مركبة معقدة يتعين ان تكون مشمولة بالمسؤولية المهنية و الإحسان و الرجاء و استواء المقصد. و في تقديري المتواضع يتعين ان يتسم تواصل الطبيب مع مرضاه بقدر كبير من سعة الصدر و الاريحية و ابتداء بالسلوك المهني الممتاز. واحسب ان عهد التعالي المهني في السودان من جانب الاطباء و غيرهم من صفوة المهنيين قد انقضى بانتشار التعليم و الوعى المجتمعي مما ادى الى حراك اجتماعي و اقتصادي تساوى فيه الناس. من الطبيعي أن يتوقع المرضى وذويهم الكثير من الطبيب، وبعضهم يعتقد ان الطبيب والخدمة التي يقدمها مجيران لمصلحته طالما انها مدفوعة الأجر "وبزيادة". أما التوقع فمشروع، وأما الاعتقاد فضرب من سقم التفكير. و لعل سلوك بعض زمر الاطباء قد افضت الى سقم تقييم العلاقة. وقد رأينا في بعض عيادات الاطباء عشرات المرضى من ينتظرون الى ساعة متأخرة من الليل الفحص الطبيعلى يد نطاسي انهكته الساعات الطوال فأضحى منهكا جسديا وعقليا . و هنا تكمن احدى اسس المتلازمة الخبيثة. مريض ينشد العلاج و لا يمنح في اغلب الاحيان الفرصة الكافية لسماع تاريخه المرضى الذى افتى جهابذة الطب بانه يشكل اساس التشخيص السليم. إن فحص عديد المرضى الواد تلو الآخر، تنتفى معه، دون شك، فرصة الفحص المتأني و التفكير المنهجي للتشخيص السليم و وصف العلاج الناجع. وفي أغلب الاحيان يكون نتاجه تشخيصا خاطئا وعلاجا جائرا. تلك ممارسات تهز مقومات نزاهة الطبيب وتصيب ثقة المجتمع و مرضاه في مقتل ذلك ان الطبيب الذى يفحص عددا كبيرا من المرضى اثناء يوم واحد قد تدفعه العجلة و الرغبة في ازدياد دخله الى تقديم خدمات مشكوك فيها. و هذه لا شك قضية تتعلق بالممارسة الطبية الجيدة. ومعلوم ان الطبيب يجب ان يتصف بالنزاهة والصدق وسماحة الاخلاق والتواضع والنخوة والايثار والاعتدال والرغبة الاكيدة لمساعدة الاخرين، وفوق كل تلك الصفات حذق العمل. وفيما يتعلق بهذا الضرب من الممارسة الجائرة قد يرى المجلس الطبي السوداني اصدار ارشادات ملزمة لتحديد عدد المرضى اليومي سواء في العيادات او المشافي العامة و الخاصة. الامر كما ترون يتعلق بالالتزام الصارم بتقديم ممارسة طبية جيدة. اما فيما يتعلق بالأتعاب التي يتقاضاها الطبيب فهي تعتمد على مقدرة المريض على تقييم الخدمات المقدمة وهل تستحق بالفعل القيمة التي يطلبها الطبيب. بالطبع ان افتراض قدرة المريض وقناعته بان ما تلقاه من عناية طبية يستحق القيمة المطلوبة امر صعب. وبالمقابل من الخطأ افتراض ان المريض قادر على دفع التكاليف ويمكن للطبيب ادراك من لديه القدرة او عدمها بالنظر الى هيئة المريض. هذا الافتراض او ذاك يفتقد الدقة. وعليه فقد يكون من الاصوب اخطار المريض بالتكلفة قبل كل شيء و من حقه معرفة تغيير خطة العلاج و ما ينتج عنها من ازدياد التكاليف. أن أمر تحديد الاتعاب المهنية للأطباء في الكثير من الحالات يعتمد على المقدرة المهنية والسلوك الأخلاقي العالي للطبيب والحالة الاقتصادية السائدة في البلاد. وليس من العدل والانصاف ان يغلق الاطباء ابواب الرعاية الطبية امام الذين يكتوون بنيران المسغبة و الاملاق . فالمهنة احدى المهن القليلة التي تحكمها مدونة سلوك أخلاقي. ومن المسلم به ان الاطباء كغيرهم من المهنيين يستحقون اتعابهم لكن مهنتهم السامية تفرض عليهم الابتعاد عن مواطن الزلل و اعطاء الانطباع بان الاتعاب هي الحاكمة وان مصلحة المريض وحقه في تلقى العناية الطبية تأتى في المقام الثاني. وفيما اعلم أن المسائل المتعلقة بالأتعاب تعتورها العديد من المشاكل المتعلقة بتحديد الاتعاب. و قد جرى العمل في دول العالم على اعمال معيار ان تكون عادية و عرفية و معقولة. وقد استخدمت شركات التأمين هذا المعيار لسداد المطالبات. ولا تزال الكثير من دول العالم تبحث عن و سيلة معقولة لتحديد الاتعاب المهنية و دعا بعضهم لإجراء دراسات اكتويرية Actuarial. لتحديد الاتعاب المهنية و فيما أعلم أن الامر تعترضه مصاعب عديدة من حيث درجات الاطباء وخبرتهم و مهارتهم و اجور نظرائهم في البلد نفسه، فضلا عن مستوى مداخيل الناس والمصروفات الرأسمالية واجور المساعدين و استخدام التقنيات الحديثة، خاصة و قد دخلنا مؤخرا في حيز الرنين المغنطيسي والمناظير المختلفة و الليزر. لا مشاحة ان أمر تحديد الاتعاب في السودان يجابه العديد من المشاكل لكنها ليست عصية عن الحل. من الممكن و ضع اتعابا تأشيرية تأخذ في حسبانها متوسط الدخول في السودان و الزمن الذى يستغرقه الطبيب في الفحص و التشخيص فليس من العدل و الانصاف ان يتقاضى الطبيب اجرا باهظا و حاشى أن اقول فاحشا لفحص و تشخيص يستغرق بضعة دقائق لا تمكن الطبيب من الالمام الكافي بتاريخ المرض او معرفة بيئة المريض يحرر إثرها تذكرة طبية عجلى قد تأتى بالشفاء أو ينتج عنها التلف. و الطب بطبيعته اكثر من القانون و غيره من المهن يتصل بالتركيز على الحالة محا الفحص Case-Oriented . و الامل معقود في أن يخطو المجلس الطبي خطوة جبارة طال انتظارها يستشرف بها ليس مستقبل الطبابة في السودان فحسب بل توكيد عافية ورفاه المرضى بتحديد عدد المرضى يوميا وعدد ساعات الممارسة الشهرية و ذلك على سبيل الالزام لكل زمر الاطباء وفيما نعلم ان كليات الطب السودانية قد بدأت في تدريس منهج سلوكيات المهنة كمنهج أصيل. والسلوكيات ليست من النصوص الجامدة بل ترتبط ارتباطا بالدين والقانون والفلسفة الاخلاقية والغرض منها تفهم المبادئ التي تحكم الممارسة الجيدة للطبابة واضفاء الالتزام الخلقي والديني على ممارسي مهنة الطبابة في كل زمرها ذلك ان هؤلاء مطالبون بتطوير ورفعة المهنة وكذلك الاهتمام بالمرضى و رفاهم واحترام كرامتهم. وتلك خطوة ممتازة نأمل ان تكون فاتحة خير لتأصيل مبادئ السلوك المهني الممتاز فيما بين زمر الاطباء. وبازدياد عدد المشافي الخاصة السودانية و الوافدة دخلت الطبابة في السودان الى مجال تجارى استثماري بحت. ولست اغالى ان قررت ان مجتمعاتنا تنظر بكثير من الريبة و الشك للرسوم الفاحشة التي تفرضها المشافي الخاصة على المرضى خاصة ان العديد توفر خدمات فندقية ممتازة وقليل من الطبابة الناجعة . لقد عايشت شخصيا فحش تكلفة العلاج ورسوم المختبرات واجراء العديد من الاجراءات الطبية غير اللازمة بغرض فرض رسوم باهظة جديدة. ولعله قد آن الاوان لوضع الامور في نصابها وجعل امر رفاه المرضى و مصلحتهم فوق اعتبارات تحقيق الثراء السريع وليعطي اهل الطبابة مهنتهم حقها فلا يتركوها الا للطبيب الحاذق الماهر لا للطبيب الجاهل الجشع الذى بممارسته الجائرة تتلف النفوس. وليستذكر اهل المهنة ان المبدأ الحاكم بعد الحذق والمهارة سيبقى دوما التلطف بالمريض والرفق به من الجانب الإنساني والمالي. ولا زلت أواصل النداء و الدعوة لحوار مجتمعي يشارك فيه الاكاديميون والمرضى وكافة زمر المهن الطبية من اطباء و صيادلة وغيرهم، والمجتمع المدني والدولة بشقيها الاتحادي والولائي. ولا زلت عظيم الامل ان تتولى احدى الجامعات او المجلس الطبي السوداني الدعوة لعقد لقاء تفاكري وعصف ذهني تتبلور من خلاله الافكار والرؤى، تعقبه ورشة عمل تقدم فيها الدراسات ويتمخض عنها قرارات وتوصيات بغية استشراف رعاية طبية ممتازة تسهم في الحفاظ على صحة كل اطياف المجتمع، وتدعم الاقتصاد الوطني، فلا حاجة لنا للطبابة خارج السودان فالبلاد تذخر بالكفاءات ويمكن بمثابرة الجهود واستواء المقاصد الارتقاء بالصحة؛ و لتبقى الممارسة انسانية خالصة. والله من وراءالقصد. كمال محمد عبدالرحمن Kamal Abdel-Rahman [[email protected]]