في المقالين السابقين تناولت التحديات التي تواجه الدعوة، والتي نتج عنها فتق نسيج المجتمع السوداني، بسبب الجهل والتطرف الذي غذته المذهبيات. وخلصت في المقالين إلى أن المساجد أضحت محلاً للخلافات والشقاق حتى أن بعض المصلين أصيب بهواجس قادت بعضهم للصلاة في البيوت. فبسبب مذهبية الغشمان الذين يسعون إلى قرصنة المساجد وتشريد المصلين منها، فقدت السكينة حتى في الصلاة. ولطالما أن العلماء الربانيين هم ملح الأرض الذي يصلح، إذ تختلف مواقف أهل العلم في التعاطي مع المجتمع والسلطة. فالفقهاء ثلاثة أقسام: الأول من يتعففون عن مال السلطان والخلافة، ويرفضون اخذ شيء ومنهم الإمام أبو حنيفة والثوري. والقسم الثاني من يقبلون عطاء الخلفاء ويستعينون بهم في سد حاجات المعوزين ومنهم الحسن البصري ومالك. والثالث من يقبلون الولاية ويأخذون العطاء ويتصدقون به ومنهم الشافعي. فلقد راجع الإمام أبو حنيفة نفسه في أمر العلم وقال: من المتقدمين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لم يكن ليفوتهم شيء مما ندركه نحن، وكانوا عليه أقدر وبه اعرف، وأعلم بحقائق الأمور. ثم لم ينتصبوا فيه منازعين ولا مجادلين، ولم يخوضوا فيه، بل أمسكوا عن ذلك، ونهوا عنه أشد النهي. ورأيت في خوضهم في الشرائع وأبواب الفقه وكلامهم فيه. إليه تجالسوا، وعليه تحاضوا.. فكانوا يعلمونه للناس ويدعونهم إلى تعلمه، ويرغبون فيه، ويفتون ويستفتون، وعلى ذلك مضى الصدر الأول من السابقين، وتبعهم الناس عليه، فلما ظهر لي من أمورهم هذا الذي وصفت تركت المنازعة والمجادلة والخوض في الكلام، واكتفيت بمعرفته ورجعت إلى ما كان عليه السلف، وجالست أهل المعرفة، وإني رأيت أن من ينتحل الكلام ويجادل فيه قوم ليس سيماهم سيما المتقدمين، ولا منهاجهم منهاج الصالحين. رايتهم قاسية قلوبهم غليظة أفئدتهم، ولا يبالون مخالفة الكتاب والسنة، والسلف الصالح، ولم يكن لهم ورع ولا فقه. يدهش المرء لتلك المساجد التي بنيت لنشر مذهب معين، وكأن المذهب لا يلتقي مع أهل القبلة من المذاهب الأخرى. وكأن البيوت بيوت المذهب، لا بيوت الله! فمن يدعو إلى الإسلام، ويسد الطريق بسبب نشر المذهب، لا فقه له ولا عقل ولا دين. اختلفت اليهود مع النصاري، وقالت كل طائفة ان الاخرى ليست على شيء. واليوم تختلف الجماعات الاسلامية فيكفر بعضها بعضاً ويفسق البعض البعض. وهذا الاختلاف منهي عنه. لقد وصف الشيخ عيسى موسى أبكر إمام وخطيب مسجد أبو بكر سرور بالثورة الحارة الأولى هؤلاء الجماعة في إحدى خطب الجمعة بأنهم (قراصنة مساجد). وأن منطقهم يقوم على الإخضاع، دون الاقتناع. وفي ذلك ما فيه من الخلل البين، والمخالفة لمنهج النبي عليه السلام. ويشير غير واحد ممن أثق في دينهم، أنه ما دخل مذهب هذه الجماعة في قرية أو مدينة، إلا أحدث شرخاً وتفريقاً بين أهلها، وربما فتنة. فوجود طبع اللؤم لدى بعض الدعاة من المصطنعين، والجرأة الزائدة في النقد غير الحكيم، وإثارة الصغائر من الأمور ، دونما وجود لاولويات، له أثره البالغ في التنفير من الجماعة. فبسبب المنهج هنالك مشاحنات ملاسنات وبغضاء بين أفراد الجماعة من جهة وبين غيرهم. فما زلت اذكر تصريح شيخ الهدية (رحمه الله) في خلافه مع الشيخ أبو زيد :" لن يجمعني بالشيخ أبي زيد إلا يوم القيامة"، وهو يصور ما يحدث داخل الجماعة. وقد كان وقع التصريح في (مانشيته) العريض وقع الصاعقة. يظل من يبحث عن عيوب للناس لينشرها، ينسى عيوبه باستغراقه في ذلك. وأكبر العيوب أن تعيب ما ليس بعيب. وليس أدل على هذه العيوب خطبة الحاجة التي يستفتح بها، وفيها التعوذ من شرور الأنفس وسيئات الأعمال . فمن آفات المذهبية أنها تثير الشحناء والبغضاء بين الناس. وما قاله ابن قيم الجوزية عن شيخه: ابن تيمية حبيبنا ولكن الحق أحب إلينا منه" يعكس روحاً طيبة في ظل اختلاف وتباين الآراء. فينبغي أن يكون الحق أحب إلى كل مسلم. كما أن في قوله:" ومن صفات المغضوب عليهم أنهم لا يقبلون الحق إلا من أهل مذهبهم" تكمن أكبر علل التمذهب الهدام. فقد دعا علماء أفذاذ لإسلام لا يستند إلى مذهبية منهم الدكتور على شريعتي والدكتور مصطفى الشكعة. وعلى مدار التاريخ فكل من الخوارج والشيعة والفرق المنحرفة هي فرق دينية لكنها ضلت الطريق للوصول إلى الحق. فالمسلم من صفاته انه سمح إذا باع، وإذا اشترى وإذا اقتضى، فما بال دعاة الجماعة فيهم غلظة وجفوة، وقولهم من غير لين. واجب على الدعاة- كل الدعاة- أن يؤدون واجبهم في الدعوة بأفضل الطرق، وما عليهم إدراك النجاح. إن نشر الإسلام المذهبي ربما تعتريه الأهواء والأسقام والأوجاع بسبب مصالح يراد لها أن تتحقق. ولنا في رسولنا صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة. فمن قبل قاتل النبي صلى الله عليه وسلم الكفار على تنزيل القرآن، وقاتل علي رضي الله عنه القراء على تأويله. إن سعد بن معاذ وهو من هو، قد اعتزل الفتنة في صفين لعلو كعبه في الفقه، وسلامة صدره، وصحة منهجه. فمثلما انقلبت الخلافة إلى ملك عضوض، تتحول الدّعوة اليوم إلى منهج يستخدم حرب اللسان تارة، وحرب السنان تارة أخرى، دونما مبررات موضوعية. وفي السيرة النبوية ما يغني عن اللجوء لمثل هذه الأساليب. ففي اختيار المذهب ربما يعاني بعض الناس في الاختيار بين فريق وآخر. ولربما لا تترك الظروف للمرء أن يقف موقفاً واضحاً، ولبعضهم العذر. يقول الدكتور الشرقاوي: وكان بعض الناس في صفين يسعى بين المعسكرين، وكانت الحرب إذا هدأت عشاء يتسامر أهل المعسكرين معاً. وكان ممن يترددون بين المعسكرين نفراً إذا نودي للصلاة صلوا خلف على، فإذا جاء نودي للصلاة صلوا خلف على، فإذا جاء وقت الطعام أو النوم ذهبوا إلى معاوية حيث الطعام ألذ والفراش الين. وكانوا إذا سئلوا في ذلك قالوا الصلاة خلف على كرم الله وجهه اتقى وازكي، ولكن الطعام عند معاوية أشهى. فهذه المغريات والجذرات مع اختلافها من زمان إلى آخر تغري . وعليه، فهنالك (غربان متجيرة)، وهم أولئك المتمذهبين الذين ينكرون صلتهم بالمذهب من بين أعضاء الجماعة، فهم يشكلون (خلايا نائمة) بغرض التنجيد للجماعة، فهم مندسون بين الناس خفاء . وهؤلاء ينكرون صلتهم بالجماعة ولكن سلوكهم يكذبهم. فالجماعة تنشط في الاستيلاء على المساجد بصورة وبأخرى، ولا يهم بعض أعضائها الصورة الذهنية للإسلام، وأثر المنهج على الدعوة عاجلاً أو آجلا. من حق كل مذهب أن يدعو الناس إليه، ولكن الدعوة لها مناهجها وأساليبها ووسائلها. والمدعوين حسب حالهم لا بد من مراعاة معتقداتهم وعاداتهم مدى قبولهم للخطاب. فالقدوة الحسنة وهي لسان الحال تعد أهم من الدعوة بلسان المقال. فالرسالة اللفظية التي تعارضها رسالة غير لفظية، تجعل من المتلقي يميل إلى تصديق الرسالة غير اللفظية. ما كسب الإسلام على مدار الزمان والمكان كسباً أكثر مما حققه عبر القدوة الحسنة. من الطّبيعيّ أن يقود عدم تحقيق الأمن الفكريّ والانحراف فيه إلى مفاسد؛ حيث تعد ظاهرة الخروج على الحكومات من أبرز نتائج الآثار السّالبة للانحراف الفّكريّ. ففي هذا العصر برز بصورة واضحة الغلو في الدّين لدى جماعات التّكفير والهجرة، ومن بين أسبابه التّجرؤ على الفتوى بغير علم، والطّعن في العلماء والتّشنيع على المخالفين، والغلظة والخشونة. فمن لا يحكم الأساس، لا يأمن البأس ولا يرضي جمهور الناس. واليوم هنالك شعائر معطلة في مساجد مشيدة بسبب مقاطعة الناس لها بسبب المذهبية التي فرقت المسلمين. ولقد وقفت على تجربة بنفسي، فمسجد أنصار السنة بحي التربية بمدينة بابنوسة الذي لا يبعد من منزل أسرتي سوى عشرين متراً، لا يغشاه الناس في الحي، ولكني لا أجد غضاضة في أن أصلى متى ما ذهبت. ففي رمضان الأخير(2012م) دعت الجماعة لإفطار جماعي للرجال وللنساء ، ولكن العدد كان أقل من عدد جماعتنا التي تفطر أمام منزلنا. ولئن سلفت دعوة بعض العلماء إلى إسلام بلا مذاهب. فالجماعات التي تقف في طريق نشر الدعوة والإسلام نسأل الله لها الهداية. فالمقاصد الشريفة مطلوبة في إقامة كل جماعة، ولكن انحراف الدور عن تلك المقاصد الشرعية أمر مؤسف. وعليه، لا خيار في ظل واقع مثل هذا، يكثر فيه الهرج، ونرى فيه شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل صاحب مذهب برأيه، إلا الاعتزال، والتمسك بمنهج الحنفاء، وفق وصية المصطفى عليه السلام:"عليك بخاصة نفسك ". فالمذاهب ينبغي أن لا تكون أصناماً تعبد من دون الله. والمذاهب ينبغي أن تسلك طريقها لتصل إلى الهدف الذي تتفق فيه مع غيرها من أهل الملة المنضوين تحت مذاهب أخرى. ويتبقى الرفق بالمدعوين، أمر يزين كل مذهب، وعدمه يشينه. وأناشد من هنا المجتمع المدني والجهات المسئولة بمجابهة هؤلاء درءاً لفتنة نائمة - سببها هوى في الأنفس- فأيقظها الغشمان. والله من وراء القصد، وهو يهدي السّبيل. torshain Adam [[email protected]] ////////////