عائشة الماجدي: (الحساب ولد)    تحرير الجزيرة (فك شفرة المليشيا!!)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    تحديد زمان ومكان مباراتي صقور الجديان في تصفيات كاس العالم    كريستيانو يقود النصر لمواجهة الهلال في نهائي الكأس    شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    واشنطن: دول في المنطقة تحاول صب الزيت على النار في السودان    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    شاهد بالصورة والفيديو.. نجم "التيك توك" السوداني وأحد مناصري قوات الدعم السريع نادر الهلباوي يخطف الأضواء بمقطع مثير مع حسناء "هندية" فائقة الجمال    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني الشهير "الشكري": (كنت بحب واحدة قريبتنا تشبه لوشي لمن كانت سمحة لكن شميتها وكرهتها بسبب هذا الموقف)    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    طبيب مصري يحسم الجدل ويكشف السبب الحقيقي لوفاة الرئيس المخلوع محمد مرسي    "الجنائية الدولية" و"العدل الدولية".. ما الفرق بين المحكمتين؟    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    لأول مرة منذ 10 أعوام.. اجتماع لجنة التعاون الاقتصادي بين الإمارات وإيران    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كلمات في حق معلم الأجيال الراحل: الأستاذ المتفرّد عبد الرازق عبد الغفار ... بقلم: ياسر محمد علي
نشر في سودانيل يوم 15 - 04 - 2013


بقلم: ياسر محمد علي، دارالسلام، تنزانيا.
[email protected]
يقولون أن الموت هو أقرب غائب ينتظره الإنسان. وعلى الرغم من يقيننا بأنه سبيل الأولين والآخرين، وأن الدار الآخرة هي المستقر، وما نحن في هذ الدنيا إلا كعابري سبيل، ولكن حينما يحل على عزيزٍ لدينا نحزن ونلتاع.
وعلى الرغم من أن رحيل 'جدي‘ عبد الرازق لم يفاجئني، بعد أن علمت أنه كان يصارع المرض بصبرٍ وجلد. ومما زاد في حزني أنه لم يتسنّ لي حضور العزاء، نسبة لظروف عملي .. مضى أكثر من إسبوعين ومازالت نفسي مثقلة بالحزن على رحيله من دنيانا. وظلت ومازالت صورته عالقة بذهني طيلة الأيام الماضية، التى على غير العادة مرّت ثقيلة.
ومن عجبي أن صورة عبد الرازق ظلت دوماً قرينة في ذهني بصورة أخيه أحمد .. فقد كانت بينهما مودة حميمة. ويعود ذلك في تقديري، بجانب تقاربهما في السن، إلى إهتماماتهما المشتركة. فقد كانا -رحمهما الله- واسعي الإطلاع، عظيمي المعارف، مولعين بالقراءة المتنوعة باللغتين العربية والإنجليزية .. إتسمت حياتهما بالبساطة، وكانا متواضعين موطئي الأكناف، يحبهما كل من عرفهما. متديّنَين، وقورين في غيرما تزمت. بهيجين، مرحين في غيرما إبتزال، يتمتعان بروح دعابةٍ رفيعة، لايكاد المرء يملُّ أو يشبع من مجالستهما.
ورأيت أن أتخفف من أثقال حزني ببثه في بعض أوراقٍ، عسى أن يشاركني من يقرأها بالدعاء لهما. ويقيني أن بعضاً مِن مَن يقرؤوها لديهم معرفة بالفقيد، وربما بأخيه الأكبر، أحمد عبد الغفار، جدي لوالدتي، الذي رحل منذ أكثر من عشر سنوات، ومازال طيفه يَتبدّى أمامي، وكأنه رحل بالأمس.
ولاأنسى كلمةً لعبد الرازق عن أخيه أحمد، عندما زارنا في مدني، في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، وكنت وقتها طالباً في مدني الثانوية. وذلك بعد أن أمضيا وقتاً ممتعاً في حديث الذكريات وموضوعاتٍ شتى في الأدب والثقافة. وكنت أجلس قريباً منهما أسمع وأرقب في متعةٍ، ويتملكني إحساسٌ بالزهو عجيب .. كيف لا، فأحمد من جيل الإداريين الأوائل الذين تخرجوا من كلية غردون في مطلع ثلاثينات القرن الماضي، وعمل موظفاً في السلك الإداري في سودان ماقبل الإستقلال. وتجوّل متنقلاً في شتى أصقاع سودان الحكم الثنائي، الذي كانت تديره قلة من الإداريين البريطانيين بحنكةٍ وإقتدار.
أما عبد الرازق، فكان من أوائل أساتذة الفنون الجميلة في سودان ماقبل الإستقلال أيضاً، وكان أحد الذين وضعوا لبنات كلية الفنون الجميلة، التابعة لجامعة السودان حالياً. وكان من الذين ساهموا بفعالية في وضع المناهج في بخت الرضا، في أيامها الناصعات الُأول. وهو رجلٌ يحِجُ إليه كل كبار أساتذة الفنون الجميلة في السودان توقيراً وإحتراماً. فقد كان من أوائل الذين إبتعثتهم الإدارة البريطانية إلى فرنسا وإيطاليا لنيل دراساته العليا في الفنون الجميلة، في منتصف أربعينات القرن الماضي.
هذين الأخوين -رحمهما الله- لم أرى مثلهما في حياتي. فهما من جيل الرواد، الذين كان في حياتهما جزءاً من تاريخ السودان المعاصر. وللأسف عجزنا أو بالأحرى حالت شواغلنا -نحن الأبناء والأحفاد- دون أن نوثّق جانباً من حياتهما الزاخرة.
.. قال لي عن أخيه أحمد: {جدك أحمد دا، الزّيو في السودان نادرين جداً} .. كانت هذه كلماته، ولم أنساها مطلقاً. كما أنني لم أذكرها لأحد، إذ ظننت وقتها أنه إطراءٌ من باب المجاملة. ولكنني فيما بعد علمت بما يشبه اليقين صدق قوله، إذ أن أحمد كان بالفعل رجلاً قلَّ نظيره بين أقرانه.
فقد ربطتني به صلةٌ خاصة، إذ بجانب أنني كنت أول أحفاده، فقد كنت "ولد البيت" الوحيد، حيث كان كل أبناءه آنذاك خارج البلاد، فكانت العلاقة مابين الأبوة والصداقة. وكان، رحمه الله، يحكي لي من وقتٍ لآخر قصصاً فيها كثيرٌ من الحكمة والطرافة، وفيها تشجيعٌ وحثٌ على الإجتهاد والمثابرة. ولكن ماكان يبهرني بحق، وهو ما لم ألحظه وقتئذٍ، أنه كان يُدير زمنه بطريقة تدعو إلى الدهشة والإعجاب.
كان شعلةً من النشاط، بعد أن تقاعد في 1965. يبدأ يومه بعد صلاة الفجر وتلاوة القرآن لحين شروق الشمس. فقد كان تالياً لكتاب الله، حافظاً له. ومنذ الصباح الباكر يبدأ عمله كأي فلاح في "الجنينة"، وهي حديقة صغيرة، حازها بعد جهدٍ ومكابدة مع السلطات المحلية، للحصول على إذن لإستغلال جزء من الميدان الخالي أمام منزله. وبالفعل إستطاع أن يحوّله إلى حديقةٍ غنّاء، عمّ خيرها كل الجيران. فكان يزرع فيها كثير من الخضروات وبعض أشجار الفاكهة.
كان هذا برنامج الصباح الدائم. وبعد الإفطار يتكئ وعلى جانبيه أكثر من كتاب، فقد كان قارئاً نهِماً، له مكتبة زاخرة بكتب الأدب والتاريخ باللغتين. ولاحظت فيما بعد أنه في الإنجليزية كان محباً لأدب الرحلات. كما كان حريصاً على قراءة مجلتي {Readers' Digest} ونسختها العربية {المختار} منذ الأربعينات، ولكنه كان أكثر شغفاً بمجلة العربي الكويتية، التي كان يداوم على قرائتها شهرياً، وكان يستمتع بمقالات رئيس تحريرها الأول، العلامة الدكتور أحمد زكي، عليه رحمة الله. وبموته توقف عن شرائها، إذ تدنى -في نظره- مستواها. وكانت مكتبته تحوي كل أعدادها منذ بداية صدورها وإلى موت أحمد زكي.
شدّني أيضاً شغفه المستمر بمجلة {National Geographic Magazine}، التي كانت تصله أعدادها بإنتظام. وكنت أستمتع بتصفّحها لما كانت تحويه من صورٍ بديعة .. كل صورةٍ منها كانت مقالاً بحاله، فأحببت من خلالها التصوير الفوتغرافي، وشغفت بهوايته، فإنتسبت إلى جمعية التصوير الفوتغرافي بالمدرسة، وكان رئيسها أستاذ الكيمياء المصري البدين-خفيف الظل، عادل ديمتري الياس، الذي علّمنا فن تحميض الأفلام وطباعة الصور، ويالها من تجربةٍ لاتنمحي متعتها من الذاكرة.
وأحياناً، بُعيد صلاة العصر، كان يطلب مني أن أحضر له "المزيكة"، آلة الأكورديون، كما كان يسميها. فقد كان العزف على الأكورديون إحدى هواياته. وكنت أستمتع بعزفه لمقطوعات من أغاني الحقيبة القديمة. فتعلمت منه عزف الأكورديون. وإنتسبت أيضاً لجمعية الموسيقي في المدرسة، وكانت تعجُّ بمواهبٍ كُثر، صار بعضهم الآن من أعلام وأساطين الموسيقى في السودان {د. الفاتح حسين وعثمان النو}. وبالطبع لم تسنح لي بينهم فرصة، إذ كنت واحداً بين كثير من "التعلمجية". ولكن جائتني الفرصة طائعة لأعتلي خشبة المسرح، كعازفٍ للأكورديون، ضمن أوركسترا إتحاد الطلاب السودانيين، في إحتفالنا بعيد الإستقلال في مطلع ثمانينات القرن الماضي في مدينة بونا بالهند.
إستطاع أحمد عبد الغفار أن يحقق من خلال مساحة لاتزيد عن الأربعمائة متر مربع، وبجهد يديه إكتفاءاً ذاتياً، وفاض خيره للجيران. ولكن لم تكن تلك غايته، إذ كانت الزراعة والعمل اليدوي إحدى هواياته، فكان عمله مجلَبة لكثيرٍ من المتعة والسعادة، التي لم تكن آثارها تفارق مُحيّاه الوضيء.
بعدها فهمت تعليق عبد الرازق عن أخيه أحمد، فقد كان رجلاً متعدد المواهب والهوايات، لايوجد فراغ في وقته، وكان يستمتع بكل نشاطٍ يقوم به .. بالفعل كانت حياته، قياساً بإقرانه، غير عادية. فقد كان موظفاً، تدرّج في سلم الوظيفة إلى أصبح باشكاتب المديرية، ثم مزارعاً ناجحاً، ومتبتلاً ورعاً حافظاً لكتاب الله، وقارئاً نهماً في الآداب والثقافة، ومجيداً في عزف الأوكورديون، وخطاطاً بارع .. كان إنساناً وفناناً، عفوياً، محباً للناس والحياة. وإلى أن رحل لم أسمعه يرفع صوته مغاضباً .. ألا رحم الله أحمد وأسكنه فسيح جناته.
أما عبدالرازق فقد عرفته في مطلع السبعينات وأنا بعد صبياً يافعاً، عندما زرنا بيته في الحلفاية مع الأسرة، وهناك رأيت مجموعة من المنحوتات لوجوهٍ وأخرى لمجسماتٍ غريبة الشكل، وكانت كلها بديعة، بالغة الإتقان .. ولاأنسى إحساسي حينما ميّزت فجأة من بينها وجهاً مألوفاً لدي، وكيف أنني تسمّرت أمامه في دهشةٍ وزهول، متمتماً إلى نفسي: "هَيْ، دي بتشبه عمتي ميمونة"!! .. فقد كانت منحوتة لزوجته، الحاجة ميمونة عبد الوهاب، متعها الله بالصحة ومدّ في أيامها.
ففي بيته شاهدت وتحسست، لأول مرة في حياتي، منحوتاتٍ متنوعة من صنع يديه، رحمه الله. فقد كان صالون بيته عبارة عن متحفٍ صغير .. ومنذئذٍ ترسخ في نفسي الإحساس بتميّزه، حيث رأيت فيه إنساناً مختلفاً عن كل أهلي، بل وعن كل من عرفت. وكلما زاد وعيي، كبُر الإحساس عندي بذلك. وأحسب أن تلك المنحوتات قد ولّدت في نفسي حباً لهذا الضرب من الفن الذي يصعب إتقانه.
ولاأنسى مابلغ بي من غيظ بسبب زميلٍ، أخطأت بمرافقته في رحلةٍ، قبل نيفٍ وعشرين عاماً، إلى "تاج محل"، بمدينة "أقرا" الهندية {والقاف فيها تُنطق، ككلمة "قلم" بالدارجة} .. تاج محل والقلعة الحمراء في قرية "فاتح بور سِكْري"، فيهما من أعاجيب النحت في الحجر الأحمر وفي الرخام .. إتقانٌ وبراعة، حينما تعلم أنها قد أُنجزت قبل أكثر من ستمائة عامٍ، وكأنها قد إكتملت قبل أيام، لاتملك إلا أن تقف أمامها متأمّلاً في دهشةٍ وإنبهار، إجلالاً وإكباراً لؤلئك النحّاتون، وفي النفس سؤالٌ: من أين أتى هؤلاء العظام ؟!
فالنحت فنٌ شاق، لامجال فيه "للجربندية"، إذ يحتاج بعد الموهبة لصبرٍ وجلَد وعزمٍ وإرادة. لذا فقد كنت حريصاً على توثيق ذلك بالكميرا، التي ماكانت تفارقني، وإذ بذاك الزميل، سامحه الله، "ينهرني" بضيق شديد، وهو يستعيذ بالله من الشياطين التي، في ظنه، كانت تحفنا من كل جانب .. قائلاً لي وقد نفذ صبره: "ياخي بالك طويل، سليت روحنا، أمرُقنا، خلاص شبعنا من شوف الحُجّار دي"، فلم أملك إلا أن أضحك على تعليقه، وتخفيفاً لما به من إغتياظ، ولكنه كان ضحكٌ كالبكاء!
حكيت القصة فيما بعد لراحلنا العظيم، فقهقه بضحكته المحببة إلى نفسي. وقال لي بشئٍ من التأسُّف: "مسكين، إنه لم يرى في ذلك الإبداع سوى حجارة مسكونة بالجن والشياطين".
وعرفت بعدها أن من لايتذوق الفنون الراقية ولايقدر أهلها، مسكينٌ بل ومحروم. ثم ترسّخ في نفسي، أن هذا النوع من الناس به سقمٌ في ذوقه الفني. وفي بعض السقم إعاقة. وهو ماقد نصطلح عليه "بالإعاقة الفنية". فالأعمي ومن به صممٌ قد يكون لهما ذوقاً رفيعاً، أما هذا النوع من الإعاقة، فتصعب معالجته!
ولكي لانذهب بعيداً، فالينظر أيٌّ منا إلى ديكورات قنواتنا التلفزيونية، أو يطوف بمعارض الأثاثات، فستلاحظ بعداً عن البساطة وميلاً إلى التعقيد، وكثيراً من عدم التجانس في الألوان. فسَقْم الأذواق، في تقديري، هو من أبرز أعراض الإعاقة الفنية!
وتكبر المصيبة عندما يؤول الأمر إلى معاقٍ فنيٍ في موقع العمل أو حتى في البيت، فقد يكون الأثاث فخماً، ولكنه غير متسق مع بيئته وغير عملي، فتجد أثاث البيت في المكتب والعكس صحيح، وكذلك الستائر، وأحياناً ترى في بعض المكاتب أو البيوت ألواناً من الطلاء تَغْتَمُ منها النفس، وكأن صاحبها مسكونٌ "بالظار"، وحينها يطرأ السؤال مجدداً: "من أين أتى هذا "الأشتر"!؟ .. فالنتيجة واحدة: ذوقٌ متدَنٍّ.
والإجابة المباشرة، أنه مُعاق فنياً، وبذا فهو معذور، لأنه لايعرف كثيراً الفرق بين الألوان، وأثر ذلك على مزاج الناس وإنعكاسه على أدائهم. وقد ثبت علمياً أن تجويد العمل يستوجب تحسين بيئته. وهنا أعني أثر الديكور بمفهومه الشامل على بيئة العمل، وأرى أن لايتولى أمره غير خبير، ناهيك عن معاقٍ فنيٍّ، "أشتر" الذوق !
بعد التقاعد في 1973، بنى راحلنا العظيم بيتاً له في رفاعة، قريبٌ من النيل. فسيحٌ، ترتاح إليه وتألفه النفس من الوهلة الأولى، لأنه يتسم بالبساطة والأناقة. فأينما جال نظرك لاإسراف ولاتقتير، وكل شيئٍ فيه يجسّد بعضاً من عبقريته. فكثيرٌ منه أثاث بيته صمّمه وصنعه بيديه .. نعم، من صنع يديه. فقد كان عبد الرازق هاوياً للنجارة، متقناً لفنونها. وكان كل ركنٍ في بيته ينضح بالأناقة، إذ هو ترجمة لأفكارٍ بسيطة، جميلة وعملية، تعكس ذوقه الرفيع، وهنا مكمن العبقرية.
كل البيت محاط بالزهور والخضرة المبهجة، وفي أحد أركانه أتيليه صغير يمارس فيه هوايته ومهنته المحببة، فبجانب النحت كان أيضاً تشكيليا بارعاً. وكانت لديه مكتبة زاخرة بكثيرٍ من النفائس. فقد كان قارئاً نهماً ومثقفاً فريداً.
وكم كانت سعادتي غامرة، حينما علمت منه أنه عاكفٌ على تأليف كتاب. فقد كنت موقناً بأنه سيكون أيقونة في مكتبة كل من له إهتمامٌ بالفنون الجميلة في السودان. وتمنيت أن يكون لي جهد المقل، في تيسير طباعته، وقد كان. فشَرُفت بالإطلاع على مسوّدته.
تعرّفت في مصر على عددٍ من الأخيار، الذين لهم أيادٍ بيضاء علي كثيرين من بني الوطن، يفعلون الخير ويَدُلون إليه، في خفيةٍ دون منٍّ أو أذى .. كان من بينهم الصديق الأستاذ محمود عثمان صالح. ذلك الرجل العَلم، الذي سخّر جهده وماله لخدمة الآداب والثقافة عبر مركز عبد الكريم ميرغني. وبتفانيه أصبح المركز واحدًا من أهم دور النشر في البلاد، أو لعله الأهم، إذ كان له فضل طباعة كثيرٍ من الكتب القيمة.
أخبرته عن المؤلف والكتاب. وما أن إطلع على مسوّدته، إلا ووجه بطباعته على نفقة المركز. فحفِلت المكتبة السودانية بكتابٍ قيّمٍ، هو مرجع مهم لكل التربويين ودارسي الفنون الجميلة. وعنوانه: "فلسفة التربية الجمالية: نشأة الفنون الجميلة، بخت الرضا والمستر ج.ب. جرينلو".
وتأتي في تقديري أهمية الكتاب لما يحويه من إستعراضٍ غير مسبوق لتاريخ الفنون الجميلة ومناهج تدريسها في السودان المعاصر، بقلم رجلٍ ساهم في صنع ذلك التاريخ عن جدارةٍ وإقتدار، هذا فضلاً عن سلاسة الإسلوب وغزارة المعلومات.
فقد كان عبدالرازق رجلاً فريدًا. كانت حياته كلها عطاءاً وعمل. ولعلها من مُجلِبات السعادة أن يكون عمل المرء هو هوايته.
يقولون أن الحياة فرحها دوماً مشوبٌ بالكدر، ولكن لم يكن للكدر من سبيلٍ إلى نفسه. فقد كان دومًا ينضح بالسعادة والحِبور. ما أن تجلس إليه، إلا ويغمرك بفيضٍ من روحه المرحة وعلمه الغزير.
ومن عجبي، أن كل من يلاقيه يشعر بأنه الأقرب إليه من بين كل الناس، بغض النظر عن عمره أو مستواه في التعليم أو الوظيفة، ولعَمري إنها لمن صفات الصالحين. فقد كان يحبه الجميع، صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءاً .. فكان بحق معلماً للأجيال.
أحمد وعبد الرازق، أبوهما معلّمٌ شهير، هو الأستاذ عبدالغفار "الفكي" أحمد عوض الله، ناظر مدرسة البندر الأولية بمدني في عشرينات القرن الماضي.
كثيرةٌ في زماننا هذا، الكتب التي تدور عناوينها حول: "كيف تصبح سعيداً وغنياً، وتحقق أكبر قدرٍ من الإشباع في حياتك؟!" .. وأرجح الظن عندي، أنهما لم يقرءا كتاباً من هذه الشاكلة، ولكن كانت حياتهما مزيجاً من موجِبات السعادة. فقد كانا يستمتعان بكل عملٍ يؤديانه. إذ كانا يُشبعان هواياتهما الراقية بذلك العمل. وكانت البساطة والتواضع وحب الخير وخففة الظل من أميز صفاتهما.
كانا أقرب إلى التصوف في روحهما، ولكنهما لم يكونا متصوفين بالمعنى التقليدي .. كانت حياتهما معارجاً ومراقٍ إلى الله .. فقدا كانا -رحمهما الله- "إمامين في محراب الحياة".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.