منذ عشرين عاما يعتبر الخريف هو الفصل الموسمي لرحيل الشباب من انصار البرنامج الاسلامي والوطني، فقد كانت ساحات الوغي هي المكان المحبب للانتقال الي رحاب الخلود، وكقول السمؤل بن عادياء ما مات منا سيدا حتف انفه، ومع توقف مواسم السفر القاصد تلك يبدو ان يد المنية مكتوب عليها في الازل ان تتعود لتغشي ابناء السودان في هذه الفترة، في الخريف ولا تنقطع شق علينا نقل الناعي لخبر وفاة الاخ وليد البحر وانتقاله للرفيق الاعلي فاظلمت الدنيا، ومع كامل يقيننا المستقر في العقيدة بان كل ابن انثي وان طالت سلامته فانه يوما علي آلة حدباء محمول، الا ان النفس البشرية مجبولة علي الحزن والتملي والتفكر في هذه النفس التي وصفها الاقدمون بانها (أجرأ من مجلحة الذئاب)، وربما تكون الايام كفيلة بان تجعل المرء يتعايش مع احزانه ويعيد التطبيع مع الحياة واستمراريتها فيتراجع الحزن من حالة كآبة تملأ القلب بالسواد عند الصدمة الاولي بالخبر، ربما الي نقطة في مخزونة في الذاكرة ومن ذلك قول الرسول الكريم ( كل شئ يولد صغير ويكبر الا الحزن فانه يولد كبيرا ثم يصغر) عليه افضل الصلاة واتم التسليم. خبر رحيل الوليد كفيل علي ان يعتصر القاسية من القلوب ويستدر العصي من الدمع وليس ذلك الا لسر اودعه الله في روحه فهو محبب محبوب لكل من يتعرف عليه او يلتقيه ولو لساعة، عرفه الناس في محيط سكنه وتعليمه منذ أكثر من عقدين من الزمان شابا ساعيا الي الخير يعود مدرسته في الصباح مجتهدا في درسه، ويمشي بين اهل الحي بالفضيلة في العصر ومعتكفا في المسجد مساء، لا يفتقده الصف الاول في اي صلاة حاضرة علي السواء في مكان الدرس او الاقامة. لم اري شخصي يسعي لجمع الصف خاصة بين اقران جيله دون ادني كلل بالعمل علي توحيد الناس وردم الشقة بينهم كوليد شهدناه في ايام المفاصلة الاولي وكيف كان يوطئ اكنافه لمن هم دونه في العمر وشهدناها في ايام الفتنة التي ابتليت بها ساحتنا في الصف الاسلامي والوطني في نهايات العام المنصرم، لذلك لا تجد غرابة في ان يجتمع في جنازته البشير ونافع و ود ابراهيم، وان يكتب النعمان حسين كلمات قوية ومعبرة في حقه، بذات الطريقة التي تحدث بها معاوية يعقوب، ولعل كلماتهما التي سطراها في حقه اكبر شاهد علي نقاء سريرته وصفاء ونبل مسعاه الي فعل الخير وجمع الصف، لا ازال اتذكر اول مرة رايته فيها في منزل الشهيد مختار ويده في الجبص اثر حادثه اقعدته عن مصافحة الاحباب وبها ولكنها لم توقف روحه الوثابة لعمل الدعوة ونشر الخير بين الناس، كنا قد دخلنا المرحلة الثانوية وكان هو قد قبل في كلية الزراعة بجامعة الخرطوم في تلك الايام. كان وليد من اخر ما تركه فينا مختار سليمان، وكنا نظن ونحن نري صورته الباسمة وثغره الباسم مع اطلالة كل صباح ان الدنيا ما زالت بخير وان مختار وسلفه الصالح قد تركوا فينا ما يمكن ان يكون دليلا للخيرات ولنا ان نقتبس من عمرو بن كميل وتروى لغيره: سأشكر وليدا إن تراخت منيتي - أيادي لم تمنن وإن هي جلت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه - ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت رأى زلتي من حيث يخفى مكانها - فكانت قذى عينيه حتى تجلت نكأت فاجعة رحيل وليد في نفسي حدث وقع لي منتصف شهر رمضان وكتبت عنه وقتها هذه الكلمات التي تؤكد ان الذاكرة الانسانية مهمها اتهما الناس بالنسيان الا ان فيها (شئ لله) يجرجر الاحداث بعضها ببعض وكقول العرب ( الشئ بالشئ يذكر). رحيل وليد المفاجئ لنا اعاد الينا ذكري اول شاب جمعنا معه ذات الدرب الذي اكرمنا الله بالمسير فيه الي جوار وليد وانشبت المنايا فيه اظفارها. ولم يبرح شهر رمضان يدخل في ثلثه الاخير الا وتداعت ايامه للذاكرة قوية حية، تشابه سيرة اللوليد ومساره في الحياة معه، فيا سبحان الله. قبل ايام خلت كان الاطفال في المنزل يستمعون الي باقة اناشيد "قديمة" السحر1" جلست اشاركهم ودون وعي مني انزلقت في الحلقة وصرت احتسي رشفات من رحيق تلك المعاني السامقة، ودون ان ادري ناديت ابني مصطفي الذي يشرف علي الحلقة وقلت له (يا ايمن اعدها من البداية)، عمت لحظة من السكون وكانها انقطاع ارسال جفت معه مياه الحياة وكفت عن الجريان، توقف الجميع لبرهة بما فيهم الاطفال وامهم وبتعجب جاء السؤال: أيمن .. أيمن، من هو ايمن؟؟ استدركت وفي برهة من الوقت عدت قافلا الي الواقع وانزلتي مراكب الوهم الي دنيا الحقيقة الماثلة، لقد غادر ايمن عبد الجليل الدنيا منذ سنين طويلة ولم يعد هناك. فكيف توافق هذا الخاطر مع نطقي باسمه الان؟!! ربما كان تلاقي خطوط في الازل او فيض من هيام روحه تغشتني وانا في غربة من الزمان والمكان (كقول اهل الطريق) فجاءت في ساعتها تلك تذكرني بان هذه الايام توافق الذكري الرابعة والعشرين لنكبة رحيله المفجع في دمير خريف العام 1989م من دنيا البشر. كانت اول مرة تطرق سمعي هذه الاناشيد برفقته قبل اكثر من خمسة وعشرين عاما. في منزل بحي الصحافة مربع 22، مزدحم بالزوار يغص بالحضور لا يعرف اهل المنزل انفسهم زواره، بلاه ان يكون اطفال بين التاسعة والعاشرة يستطيعون. فمن الصعب التمييز بين الزائر الضيف الغريب، والآخر الذي هو من الاقارب الا اللهم اهل الارحام الاقرب. نعم لقد رمت تلك السنوات خفيفة قبل رحيله ثم كئيبة متثاقلة بعد رحيله، كان رائدنا في الاستماع هو ايمن، لم نكن ندرك كثير من المعاني المتحدرة من كلماته ولم نكن نستطيع ان نميز اكثر من الرزم وجرس الموسيقي ورنين الكلمات التي يختارها الدكتور اشرف ابراهيم احمد من فرقة الشجرة للانشاد والموسيقي والاستاذ عبد القادر محمد زين رد الله غربتهما (الاول هاجر من البلاد، والثاني يقف في الاتجاه المضاد لمبادئه التي ربي النشئ عليها فيما نحسب) هذه دعائم دعوة قدسية كتب الخلود لها مدي الازمان الله غايتنا وهل من غاية اسمي واغلي من رضا الرحمن جاءت باقات الاناشيد تلك كابرز فاكهة لثمار ما يعرف بمدارس محمد (صلي الله عليه وسلم) التي كانت تقيمها الحركة الاسلامية كنشاط صيفي لتربية الاشبال، فخرجت من منطقة الشجرة ومحيطها الجغرافي شباب افذاذ منهم من صار علما فيما بعد ومنهم من قدم روحه فداء الفكرة التي امن بها ونذر نفسه لاقامتها. فكان منهم رجال امثال الشهيد معتز ابراهيم وكثير من عضوية الفرقة شاركت في سوح الوغي، نسال الله ان يجعلهم من ائمة الهدي. كانت فترة الثمانينات تلك تمثل قمة نشاط الحركة وتوهج عناصرها الممتلئة تلك الايام بالبراءة والصفاء. كنت اشعر بشئ من الخجل وانا استمع الي الموسيقي خارج المنزل بسبب التربية السلفية في محيط منزلنا بصورة صارمة، فالاسرة التي كانت تصل الي كتم انفاس التلفزيون عندما تاتي اغنية او نشيد، ولعل لشقيقي الاكبر دور في ذلك لتاثره بمدرسة متعمقة في نهج السلف كان ينشر فيوض علمه عليها الشيخ الشاب معتصم حسن محمد موسي (رد الله غربته كذلك) ولها مقامات مستنيرة مثل الدكتور عبد المنعم صبير وآل صبير في السيرة اشبه بآل مقرن في يثرب، الذين بايعوا المصطفي صلي الله عليه وسلم في جماعة متماسكة، ينهجون الي الحق جماعة حين التيقن منه ويرفعون عقيرتهم بالصدح به، ودليلهم ورائدهم العم الراحل عمر عبد الله صبير نسال الله له حسن القبول، الذي كانت حلاقات التلاوة والدرس تضئ سماوات الخرطوم منذ ان كان يافعا في الثلاثين من عمره، وظل علي الدرب حتي وصل جنوب السودان الذي حمل هموم الدعوة اليه، وهو يناهز السبعين، ينشر مفاتيح العلم ويضئ انوار الحق فيه. يبز فيها الشباب ويسابقهم فيها الي الخيرات. في هذه البيئة من حوله وفي تلك الدروب الشائكة كان ايمن الذي لم يكد يكمل العاشرة من عمره يواظب علي الصلوات الخمس في المسجد ويحرص علي اخذ الصبيان معه الي الدار لاقامة جلسات استماع في منزلهم ويحرص علي استجلاء المعاني من الاناشيد، اقمها ارحنا بها يابلال ولله خمس يزلن الخطايا ونهر به كل يوم اغتسال اقمها ارحنا بها يا بلال حتي يتأتي له ترسيخ اهمية الصلاة واحكام غرسها في عقول النشئ، فلا يتضجرون من تكرارها لان عقولهم الصغيرة بلا شك لن تعرف حلاوة الايمان والتلذذ باداء الفريضة في الجماعة، ومداومة الانقطاع في المسجد، فيعمد الي تلقينها لمن هم حوله، فيجتهد في ان يجعل منهم حضورا في كل جلسات الاستماع تلك بالاخص اشقاءه احمد الذي كان يجلس كعادته في صمت، اما اسامة فهو مشغول بمناكفة مهند ابن الجيران في غالبا، صفاء كانت وقتها تتعلم المشي وسارة في رحم الغيب. كان ايمن فتي واسع الذاكرة يحفظ الاشياء فور سماعها وكانه يستذكر شيئا نسيه، وفي احيان كثيرة ومع ذلك يحرص علي التواضع ويسير بسير الضعيف من جلساءه، فلا يحرجهم بترديد الكلمات او يشقيهم باستعراض ذلك، بل تجده يجلس في هدوء ورزانة الي ان يتحدث الناس فيدلي بدلوه ان كان له ان يضيف الي المعاني شيئا، بكل وقار وسكينة. ابعد من هذا كان في حلقات التلاوة يهمهم ان سمع من اخطأ في القراءة في رفق واحتشام خاصة ان كان المخطئ من كبار السن، علي السواء كانت في تلك التي يصحب والده في صلاة الفجر الي المسجد فيها، او تلك التي ينظمها هو للتلاميذ في المدرسة المتوسطة التي لم يكتب له ان يكملها فاختاره المولي الي جواره. لن تمحي من الذاكرة تلك اللحظات قبل اربعة وعشرون عاما اصطحب والده الي مزرعة صديق للاسرة، وامضي عصر اليوم مرافقا له يتفاني كعادته في خدمته وبره، ثم لما دنت الشمس من الاصيل توضأ والده لصلاة المغرب كانت ثوان خاطفة معدودة تلك التي فصلت بين انقطاع نظر الوالد لابنه الذي تركه يشرع في وضوءه وهي فقط ما يحتاجه الصبي من زمن متمم، ثم لما اكمل الوالد لبس جلبابه المديد، نظر فاذا كف ايمن وحدها تعلو صفحة الماء علي السطح وبقية جسده العبقري امسكها النهر في اسفله جري الوالد الي حيث يري ولكن كانت مشيئة الله النافذة والذي لا معقب لحكمه سبحانه وتعالي، فجرف التيار اليد نفسها وغابت تماما، ومع الليل والمصابيح مشرعة علي طول الساحل حتي طلوع الفجر، جاء النهار وخرج الجثمان المسجي فحفرت في رؤسنا الصغيرة اخر صورة له وهو باسم الثغر وضئ الوجه باسم المحيا. وللوليد وايمن نسال الله ان يبدلهما مقام النبيين والصديقين والشهداء في دار قطعا هي خير من دارهم الفانية، وان يرزق والديهم ومحبيهم حسن العزاء والسلوان. abdulghani idris [[email protected]]