هانذا اتقدم بالشكر والعرفان للاستاذ الدكتور عبد الرحيم بلال الذي اهداني مؤلفه " تاسيس دولة الرعاية" والذي يقع في مائة صفحة من القطع المتوسط ، سعدت بقراءته حيث اضاف الي معرفتي الكثير باسلوبه السهل وافكاره المرتبة وتحليله الوافي والمنطقي . عمد المؤلف الي تقسيم دراسته الي ثلاثة اجزاء رئيسية تتفرع الي فرعيات تفصيلية ، منتهجا اسلوب النظري والتحليلي ، وعن مفهوم وطبيعة دولة الرعاية والديمقراطية الاجتماعية واقتصاد السوق الاجتماعي يقول " ان مفهوم دولة الرعاية مهم لما يحيط به من التباس يتضح في الراي القائل بان الدولة السودانية في عهد الاستعمار البريطاني ودولة ما بعد الاستقلال كانتا دولتي رعاية اجتماعية ، نظرا لما كانتا تقدمانه من خدمات تعليمية وصحية محدودة لعدد محدود جدا من السكان في المدن ، وذلك بهدف انتاج القوي العاملة اللازمة للادارة وللمشاريع الاستعمارية ، ولكن الاغلبية العظمي من السكان خاصة في الريف كانت محرومة تماما من تلك الخدمات علي قلتها ، وفي هذا السياق لابد من توضيح ان مفهوم دولة الرعاية في هذه الدراسة يتطابق مع مفهوم الدولة الاجتماعية ." لقد اعتمد المؤلف وبشكل اساسي علي المدرسة التحليلية الشي الذي تطلب منه سبر اغوار الحياة المجتمعية عبر الزيارات والرحلات الميدانية سعيا وراء الوصول للمعلومة من اصولها تحقيقا لمصداقية المعلومة ومن ثم نتائج تحليلها ، وفي هذه الجزئية يري الكاتب وجوب اضافة المضمون المجتمعي للديمقراطية الاجتماعية بما لا ينفي الديمقراطية الليبرالية بل تبني عليها وتحتفظ بميزاتها وتتجاوز نقائصها . و لعل المؤلف في الجزء الرئيسي الاول لمؤلفه امن علي بيان ان دولة الرعاية الاجتماعية لابد لها من محددات لوظائف ثلاث وهي - موازين القوي السياسية -البيئة المجتمعية وقيمها وثقافتها -العلاقة التبادلية بين الوظائف المذكورة واولويات تخصيص الموارد لهذه الوظائف حسب اولويات القائمين علي امر الحكم . وبعد تحليل متان توصل الكاتب الي عدم جواز الفصل بين توزيع الثروة من جانب وانتاجها وتعظيمها من جانب اخر ، كما ابان ان البعض من الذين يعطون الاولوية لوظيفة انتاج الثروة ومن ثم توزيعها لاحقا كانما يحدث في تتابع زمني ، الا ان المؤلف يؤمن علي ان توزيع الثروة العادل يعد من العوامل الاساسية في انتاج الثروة وتعظيمها ، بينما عدم التوزيع العادل للثروة يؤدي الي اقصاء وفقر وافقار بعض الشرائح الاجتماعية مما يؤثر سلبا علي الانتاج ، كما يؤدي الي خلل في الصرف علي القطاعات المختلفة وكذا اهمال القطاع الزراعي التقليدي منه علي وجه الخصوص ، ويؤدي ذلك الي الشعور بالغبن بين سكان القطاع وبخاصة الموجودين بالاطراف ،الشي الذي قد يؤدي الي الاحتجاجات المسلحة . مفهوم الكفاءة . عرفه المؤلف بانه القيمة السوقية للعمل في المدرسة الليبرالية ، وفيه يتطابق مفهوم الكفاءة مع مفهوم العدالة ، اما في المدرسة الاجتماعية فان مبدا العدالة يتحقق بتدخل الدولة فيما يسمي بالتوزيع الثانوي من خلال انشاء نظم الضمان الاجتماعي والتاهيل والتدريب والاطر المصححة والمنظمة للاقتصاد ، بينما التوزيع الاولي هو الذي يتم عبر اليات السوق . ان من اجمل ما جاء بصفحات الكتاب ان العمل هو قلب الفكر الاجتماعي كمصدر للثروة ومصدر لكرامة الانسان ومشاركته في الحياة بشكل عام والحياة الاقتصادية علي وجه الخصوص ، بينما تقوم الدراسة بالاشارة لتمييز بين توزيع العمل وانواعه وتوزيع عائداته . ان الدراسة التي قدمها الاستاذ الدكتور بلال لم تغفل الجانب الخاص بالوظيفة الا نمائية حيث استعرض هذا في دولة الرعاية وخاصة هدفها ومبداها الاساسي بما يتم معه التشغيل الكامل والانتاجية العالية للعمل عن طريق تاهيل القوي العاملة بحسبانها القاعدة الاجتماعية لدولة الرعاية . ولعل المؤلف اراد الاستفادة من تجارب الاخرين وخبراتهم فعمد الي دراسة الخصائص التاريخية لدولة الرعاية في اوربا الغربية واسباب وعوامل نشاتها ، وذلك ليس للنقل بل لاستخلاص الدروس لتاسيس دولة الرعاية في السودان ، وقد تبين من دراسته لمناهج اخري ان اهم عوامل نشاة دولة الرعاية تطور الطبقة العاملة المنظمة وسعي النخب الحاكمة لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي في سياق صعود الطبقة العاملة المنظمة . وفي جزئية اخري المح المؤلف وفي فذلكة تاريخية عن بدايات العولمة مع التطور التكنولوجي السريع وصعود الليبرالية الجديدة في ثمانينات القرن مما ادي الي تسيد اقتصاد السوق الحر . وكذا وفي الاطار التطبيقي لمفهوم دولة الرعاية في السودان يقسمه المؤلف الي ثلاثة اجزاء ، ضرورة دولة الرعاية في ظروف الازمة الاجتماعية والاقتصادية واسبابها الي تعود الي الانحياز المديني والمتغيرات المرتبطة بالانتقالات التي يمر بها المجتمع السوداني عشوائيا ودون تدخل من الدولة لتقليل المخاطر وتعظيم المنافع في هذه الانتقالات ، فالانحياز المديني يؤدي الي انهيار اقتصاد الريف واستنزاف موارده ، وينمي الشعور بالغبن بين الاقاليم والشرائح الاجتماعية المختلفة ، بينما يجد المؤلف في جزئية اخري ان اهم مؤشرات الازمة الفقر والعطالة وكذا مؤشرات الفوارق الاجتماعية – الاقتصادية بين الشرائح الاجتماعية والاقاليم . وهكذا يتجول المؤلف في وظائف دولة الرعاية الثلاث وهي التوزيعية والانمائية والامنية ، وتعريفه لوظائف الدولة بحسب تاريخ البحث العلمي في قضايا الدولة والتنمية المستدامة والحكم الراشد وحقوق الانسان ، ويشملها في الوظائف الاقتصادية والاجتماعية والبيئة والسياسة والثقافة ، ويؤكد علي ترابطها ببعضها في علاقات تبادلية وثيقة كما هو الحال مع حقوق الانسان ، هذا ولم يترك الباحث تلك الوظائف دون محددات حيث انه يري ان تحليل الوظائف الثلاث هو الاساس التحليلي لطبيعة دولة الرعاية وعلاقتها باقتصاد السوق الحر واهم قضاياها الاجتماعية كالفقر والبطالة ، ويخلص الي القاء الضوء علي محددات الوظائف في ثلاثه وهي موازين القوي ومواقف الطبقة السياسية ثم العلاقة العضوية التبادلية بين الوظائف الثلاث ثم البيئة المجتمعية ومن ثم يعرج علي الليبرالية والاجتماعية ووظائف الدولة واقتصاد السوق الحر ، ويذهب في تحليله غير المخل الي ان المدرسة اليبرالية في شكلها القديم والحديث تدعوا لاطلاق العنان لاليات وقوي السوق الحر غير المقيد ، لانها كما تري المدرسة الليبرالية هي الاقدر من الدولة علي تخصيص الموارد حسب العرض والطلب ، وكذا تؤمن بحرية الافراد والفاعلين عامة ومسئوليتهم عن مصائرهم وشعارها في الاقتصاد ( دعه يعمل دعه يمر ) . اما فيما يختص بالمدرسة الاجتماعية او الديمقراطية الاجتماعية ، فهي تدعوا الي الدولة الاجتماعية او دولة الرعاية ، وهي الدولة المتداخلة لتحقيق العدالة الاجتماعية ، وتصحح فشل السوق لاسيما في الجوانب الاجتماعية والبيئية وفي توفير السلع العامة ، كالتعليم والصحة والبيئة والهواء النقي والماء النظيف للجميع ، وفي ذلك يستند المؤلف علي راي جوزيف تشيقلينز الحائز علي جائزة نوبل والخبير الاقتصادي والذي يقول " ان الاسواق بمفردها لاتؤدي بالضرورة الي الكفاءة الاقتصادية "، كما لم يغفل المؤلف جانب العدالة التوزيعية بين السوق وتدخل الدولة في المدرستين الليبرالية والاجتماعية مفندا نهج كل منهما بين التوزيع الاولي والتوزيع الثانوي الذي يتجه الي تلبية الاحتياجات الاساسية ويضمن لكل مواطن الحد الادني لاحتياجاته ، دون النظر الي القيمة السوقية لعمل المواطن وممتلكاته ، وذلك من اجل تحقيق الشعور بالامن الاجتماعي والاطمئنان ، وهكذا يسوح المؤلف في منهج المدرستين بين استخدام النساء والسياسات المحفزة للطلب ، وطبيعة النمو الاقتصادي ، _ النمو من اجل الفقراء والنمو بدون تشغيل، وحقوق الانمسان في الموازنات ثم ياتي الي الامركزية والحسابات البيئية ومعايير العمل الدولية وحقوق الانسان ثم الانتاجية العالية الي ان ياتي الي النقابات والمفاوضات الجماعية معرفا للاجور، والتشاركية والشراكات مع المجتمع المدني ثم بيئة العمل والتي يقع تحسينها علي عاتق اصحاب العمل بالتشاور مع النقابات ، وهذا ما يسمي بالشراكة الذكية بين اصحاب العمل والعاملين ، التاهيل والتدريب المهني ، وعندما ياتي الي الوظيفة الامنية للدولة ينظر المؤلف الي الوظيفة الامنية بمنظورين : منظور النخب الحاكمة والمنظور الاخر وهو المفهوم الواسع حيث ان الامن يعني الامن الانساني اي امن المواطنين بمعني الامن الاجتماعي والسلام والتماسك بلا تهميش او اقصاء او استعلاء بما يحقق الذات ويوسع الفرص ويحترم كل حقوق الانسان . وعن ماهية دولة الرعاية يوضح المؤلف انها تحقق الضمان للحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، كما تضمن الحد الادني للاجر ودخل الفرد والاسرة ، كما تحقق النمو في الشعور بالامن الاجتماعي وكذا تجاوز المخاطر الاجتماعية ومظاهرها، المرض والشيخوخة والعطالة ، وتامين افضل مستوي يمكن تقديمه للمواطنين من خدمات اجتماعية وسلع ضرورية مع الالتزام بالوفرة ، وامكانية الحصول عليها والاستطاعة والامان الفني والتماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي وحقوق المواطنة والي اخره من احترام الذات ومساواة النوع . ما تقدم ايها القاري العزيز هو جزء من تلك الدراسة الهامة التي قدمها البروفسير بلال للمكتبة السودانية والتي تكون للباحث والقاري خير زاد في مساره العلمي والاكاديمي ، ولا شك ان ما يتمتع به المؤلف من سعة الافق والصبر علي البحث والتحليل اوجدت هذا السفر الصغير في حجمه والقيم في محتواه . والي لقاء [email protected]