رغم إعلان حكومة دولة جنوب السودان عدم إعترافها بإستفتاء منطقة أبيي المتنازع عليها بين الخرطوموجوبا، إلا أن ذلك يعتبر موقفاً تكتيكياً أنها دعمت بقوة ذلك الاستفتاء الأحادي.. مع إعلان نتيجة الاستفتاء (99.99%) لصالح ضم أبيي لدولة الجنوب، تكون جوبا قد سجلت نقطة ثمينة لصالحها وهدفاً ذهبيا في شباك الخرطوم.. الزخم الإعلامي والتعبئة السياسية التي صاحبة عمليات الاستفتاء قصد منها أن تبقى هذه النتيجة (كرت) ضغط تخرجه جوبا مستقبلا في وجه الخرطوم وهو كذلك حيلة يمكن أن تستند إليها دولا حليفة لجوبا ولها ثأرات مع الخرطوم مثل الولاياتالمتحدة لصالح ضم أبيي لدولة الجنوب.. الخرطوم الضعيفة والمهزوزة بفعل الأوضاع الاقتصادية التي شجعت المواطنين للخروج إلى الشارع فضلا عن الانشقاق المؤثر الذي ضرب حزب المؤتمر الوطني الحاكم، تغاضت عن اتخاذ موقف قوي ضد الاستفتاء وأكتفت بتبرير حكومة سلفاكير غير المقنع، واتكأت على إعلان الاتحاد الإفريقي عدم اعترافه بنتيجة الاستفتاء ناسية أو متناسية أن موقف الاتحاد الإفريقي كان دائما متماهيا مع مواقف جوبا وأن الإعلان بعدم الاعتراف قد يكون مرحيا حتى تمرر الخرطوم الاستفتاء دون زوبعة وتقع في الفخ وفي نفس الوقت يمر نفط الجنوب عبر الأراضي السودانية وتفتح المعابر للتجارة الحدودية لانقاذ اقتصاد جوبا الذي يقف على جرف هار. وزير الإعلام الجنوبي وهو المصنف باعتباره أكثر المؤيدين لعلاقات مع الخرطوم، قال أن نتيجة الاستفتاء يمكن أن تقدم للاتحاد الإفريقي!!، فإن كان الاتحاد غير معترف بها وكذلك حكومة سلفا كير، فما الجدوى من تقديمها للإتحاد إن لم تكن هناك نوايا مبيتة؟!، وقال أيضا أن قبائل المسيرية لا يحق لها التصويت في أي استفتاء معترف به بل لهم بعض الحقوق يمكن النظر فيها!!.. جوبا تلعب بذكاء شديد وبتبادل بديع للأدوار لاجبار الخرطوع على أحد خيارين: الأول إجراء استفتاء معترف به لكن بدون منح المسيرية حق التصويت وحينها لن يكون مختلفا عن هذا الاستفتاء الذي جرى؛ والخيار الثاني أن يحال الملف برمته إلى مجلس الأمن الدولي وهناك ستجد دعم قوي من الولاياتالمتحدة المتحكمة فعليا في المجلس الذي أصبح أداة سياسية تخم أجندتها الدولية. الحقيقة أن أبيي اليوم مثل برمودا أو مثلث الشيطان الذي يبتلع كل من يقترب منه،كم من الطائرات والسفن دخلت مجال المثلث ولم يعرف عنها شيء وأصبحت في خبر كان، اليوم كل خطوة في سبيل تحسين علاقات الخرطوموجوبا بدون حل قضية أبيي ستكون في خبر كان.. الخرطوم تزيد كل يوم أخطائها الاستراتيجية في أبيي مما سيؤدي لفقدانها المنطقة التي تساوي مساحة لبنان (أكثر من عشرة آلاف كيلو متر مربع)؛ لقد أخطأت الخرطوم عندما وافقت على إجراء استفتاء الانفصال في يناير 2011 على قطعة أرض غير معلومة الحدود، أي أن حدود دولة الجنوب لم يكن متفق عليها وكان في يد الخرطوم كرت ضغط قوي لم تستخدمه فما كان لها ينبغي على الموافقة على إجراء الاستفتاء دون حسم قضية أبيي، لكن مارست واشنطن حينها ضغوطا على الخرطوم وقام جون كيري وزير الخارجية الأمريكي الحالي وقد كان وقتها رئيسا للجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس وحمل جزرة في يده ملوحا بتسليمها إلى الخرطوم دون أن تتسلمها وفي طياتها وعدا كذوبا بتطبيع العلاقات ورفع سيف العقوبات التي وقع الرئيس أوباما على تجديدها الخميس الماضي للمرة السادسة عشر!!. ينص اتفاق بروتكول أبيي ضمن اتفاقية السلام الشامل الموقعة بين الحركة الشعبية وحكومة الخرطوم في 2005 على أن حدود 1956 هي الحدود الفاصلة بين الشمال والجنوب وتضع تلك الحدود أبيي ضمن حدود الشمال، وما أتفق عليه هو اجراء استفتاء لمواطني أبيي من قبيلة المسيرية العربية وقبيلة دينكا نقوك الجنوبية، ويخيّر سكان المنطقة بين الانضمام إلى الجنوب أو الشمال وفي كل الأحوال فإن الخيار هو خيار السكان وليس خيار الأرض بمعنى أن تبقى أرض أبيي شمالية ضمن حدود 1956م ويختار دينكا نقوك بين البقاء في الشمال أو الرحيل إلى الجنوب. إن حل القضية بيد السكان الذين تعايشوا على مئات السنين، فالتداخل معقد جدا لم تستطع الأطراف الدولية فهمه، فمقترح الاتحاد الإفريقي أن تقسم المنطقة بالتساوي بين الطرفين، ومن قبله كان حكم محكمة العدل الدولية التي لجأت إليها الحكومة والحركة الشعبية معا حكما توفيقيا أو أقرب إلى أن يكون سياسيا، بمعنى ألا تعود أبيي لأي طرف بشكل قاطع ومحدد بحيث يحدث نوعا من التقسيم يشمل أول ما يشمل الجوانب الاقتصادية التي سيكون لها الأولية والأسبقية على الجوانب الأخرى وهي الأهم خاصة المراعي.. قصص التعايش الفريد المتصل منذ مئات السنين بين المسيرية والدينكا تجاهلته أو لم تستوعبه الأطراف الدولية ولا النخب السياسية في الجنوب والشمال.. التقارير الصحفية تحاول زج كثير من العبارت السالبة مثل الاشارة إلى "أبيي الغنية بالنفط" في محاولة لحصر الخلاف في (مغانم النفط) في حين أن المرعى ومصادر المياه هي القضية الأهم وهي موارد غير ناضبة.. المياه والمرعى قضية تواضع المسيرية والدينكا منذ قديم الزمان على التعاطي معها والتعايش والاتفاق حوله.. هناك فقط بئران وليس حقلان، نفط قد ينضب في أقل من (5) سنوات!!..قبل عدة سنوات كتب الدكتور فرانسيس دينق أحد أشهر أبناء دينكا نقوك المتعلمين، في كتاب شهير أن مقر اقامة ناظر عموم المسيرية في أبيي.. ومن الوقائع التاريخية أن زعيم دينكا نقوك بايع الأمام المهدي الذي أهداه حربة بقيت إلى يومنا هذا رمزا للوفاء والتقدير والاحترام.. إن خصوصية منطقة أبيي هي قاعدة أساسية لمعالجة القضية برمتها. Yasir Mahgoub [[email protected]] ///////7