انقسمت كل الأحزاب السياسية السودانية بلا استثناء لفصائل مختلفة كظاهرة ميزت الساحة السياسية على مدى العقود الماضية. وتتابعت خلال السنوات القليلة الماضية المذكرات المقدمة من قطاعات مختلفة من قواعد الأحزاب السياسية للقيادات. يمكن الإشارة على الأقل لثلاثة منها تداولتها الصحف وأجهزة الإعلام في الفترة الماضية تخص أحزاب الأمة القومي والاتحادي الأصل والمؤتمر الوطني . وهنالك محاولات وأشكال أخرى من التعبير للدفع في اتجاه الإصلاح بخلاف المذكرات كالاحتجاجات من القطاعات الشبابية والتمرد والاستقالات أو تجميد النشاط من بعض الأعضاء والقياديين. وقد اختلفت المذكرات التي قدمت لرؤساء وقيادات الأحزاب في المحتوى والشمول والعمق في تناول قضايا الإصلاح وفي التعبير عن رغبات جماهير هذه الأحزاب. كما اختلفت في الدوافع التي حركت معديها للتقدم بها وربما في بعض الأهداف من وراء تقديمها. ولكنها اتفقت كلها في التعبير بشكل أو آخر عن الحاجة الماسة للإصلاح مما يستوجب من قيادات الأحزاب إعطاء الأمر ما يستحقه من جدية والتعامل معه بموضوعية. والحقيقة التي تبدو للعيان هي أن الحاجة للإصلاح الحزبي ليست قاصرة على أحزاب بعينها ، وإنما أصبحت أمرا واقعا تواجهه جميع الأحزاب. فالتجربة السياسية السودانية منذ الاستقلال والتي سادتها في معظم السنوات نظم شمولية أطاحت بفترات ديمقراطية قصيرة ، لم تفرز واقعا سياسيا معافى لحركة الأحزاب ونموها الطبيعي . يضاف لهذا طبيعة التركيبة الحزبية نفسها والتي تعبر عن الواقع الاجتماعي السوداني بكل مفرداته وخصائصه الإثنية والقبلية والجهوية والطائفية مما يعتبره البعض قيدا على حركة الإصلاح وعلى إمكانية بناء مؤسسات حزبية عصرية فاعلة. الإصلاح في الأحزاب السياسية السودانية إذن أصبح ضرورة ملحة لا مهرب منها، يحتمها الواقع الماثل داخل الأحزاب نفسها بكل مشكلاته من ممارسات سياسية مرتبكة، وضعف تنظيمي وانعدام للمؤسسية ،وغياب للرؤية السياسية الواضحة والبرامج وغيرها، وأيضا تأثير الواقع السياسي السوداني المأزوم الذي تعمل فيه هذه الأحزاب بكل تعقيداته وتراكماته. ولقد دللت تجربة الانتفاضة ضد النظام في سبتمبر الماضي على التفاوت الكبير في مواقف القيادات ومواقف الشباب والقطاعات الحية في تلك الأحزاب التي شاركت في تلك الاحتجاجات وقدمت الكثير من التضحيات. كذلك فإن المد الديمقراطي المتواصل وانعكاسات ثورات الربيع العربي وتأثيرها على أنماط إدارة الحراك السياسي ، والحاجة لأساليب حديثة مبتكرة تتماشي مع المتطلبات الجديدة للقطاعات الحية في قواعد الأحزاب ، وضرورة الاستفادة من وسائل التقنية الحديثة في العمل والاتصال والتواصل وغيرها ، كل هذه الأمور تتطلب شجاعة سياسية وتنظيمية لابد من أن تتحلى بها القيادات الحزبية للتجاوب مع التطلعات الاصلاحية لجماهيرها وقواعدها. لكن موقف القيادات من دعوات الإصلاح الحزبي كانت سلبية في الغالب ولا تخلو من الحذر والتوجس والتشكك في حقيقة الدوافع والأهداف المحركة للمتقدمين بها، وهذا بدوره أثر على مدى التجاوب مع المضامين والرؤى الإصلاحية التي تتضمنها المذكرات وغيرها من أساليب المطالبة بالإصلاح مهما كانت أهميتها وصدقيتها. ولقد تجلى هذا مؤخرا وبوضوح في حزب المؤتمر الوطني والتداعيات والأحداث اللاحقة بعد مذكرة الإصلاحيين لرئيس الحزب ، مع ملاحظة أن المؤتمر الوطني هو حزب صنعته وتدعمه سلطة الانقاذ الحاكمة وأن عملية الإصلاح بداخله تحكمها صراعات ودوافع وماكينزمات مختلفة إذا ما قورن بالأحزاب السودانية الأخرى، لاسيما تلك التي نشأت في رحم الحركة الوطنية. عقبات الإصلاح في الأحزاب السودانية الكبرى كثيرة ، وأهمها هو عدم نضوج الممارسة الحزبية بسبب قصر الفترات الديمقراطية وهيمنة النظم الشمولية التي تقوم بتعطيل الأحزاب السياسية ومصادرة ممتلكاتها وإغلاق دورها ، وكبت الحريات وعدم إتاحة الفرصة للأحزاب لعقد مؤتمراتها العامة والدورية للتواصل مع قواعدها وتدريب الكوادر والقيادات التي تتولى مسئوليات العمل الحزبي على مختلف المستويات. فالإصلاح الحزبي كحركة نمو لكيانات وتنظيمات بشرية يحتاج لظروف سياسية واجتماعية مواتية تمكن الأحزاب من الخوض في تجربة الإصلاح الحزبي في سياق ملائم ، وتفضي لنجاح جهود الإصلاح على مستوى التنظيم والأهداف والبرامج وغيرها. وكما ألمحنا فإن تركيبة الأحزاب نفسها لاسيما الكبرى منها تعكس الواقع السوداني بكل مكوناته القبلية والجهوية والطائفية. ولهذا فإن جهود الإصلاح عند البعض ممن يرون في هذه الكيانات القاعدية وقياداتها معوقا ، ربما تدعو لتجاوز هذا الواقع في عملية بناء الأحزاب بدعوى تفادي الهيمنة والسيطرة ، بينما يرى آخرون من دعاة الإصلاح أنه ليس من الحكمة أن يتم التغاضي عن هذا الواقع الذي يشكل الرصيد الجماهيري لبعض الأحزاب ، وأنه لابد من التعامل معه وتمثيل القواعد بكل تشكيلاتها ومكوناتها في الأجهزة والمؤسسات الحزبية على مختلف المستويات. هذا بالطبع لا يعفي قيادات الأحزاب من دورها في التفاعل مع المطالب الإصلاحية أيا كان مصدرها ومهما كان أسلوبها ، وإتاحة الفرص الكافية للتداول حولها في مختلف المؤسسات والمستويات الحزبية بنهج ديمقراطي حر. ويتطلب الأمر في رأيي أن تبذل هذه القيادات جهدا استباقيا لقراءة الواقع الحزبي والتواصل المستمر مع القطاعات والقواعد الجماهيرية والشباب والنساء والطلاب وغيرهم من الفئات والكيانات لتلمس مدى الحاجة للإصلاح والاستجابة لها ، دون انتظار للمذكرات والضغوط. فبغير الإصلاح لن تتوقف عملية التآكل والانقسام والتشظي في كل الأحزاب القائمة، وربما يدفع عجز القيادات في أحزابنا السياسية الشباب والقطاعات الحية لدائرة اليأس من أن تتجدد أحزابنا السياسية وتواكب كل المتغيرات وأن تكون كيانات حية ومتطورة وفاعلة ، تقوم بدورها المرتجى في التصدي للقضايا الوطنية الكبرى خدمة للوطن والمواطنين. [email protected]