الكتلة الديمقراطية تقبل عضوية تنظيمات جديدة    كاميرا على رأس حكم إنكليزي بالبريميرليغ    الأحمر يتدرب بجدية وابراهومة يركز على التهديف    عملية منظار لكردمان وإصابة لجبريل    بيانٌ من الاتحاد السودانى لكرة القدم    نائب رئيس مجلس السيادة يلتقي رئيسة منظمة الطوارئ الإيطالية    ردًا على "تهديدات" غربية لموسكو.. بوتين يأمر بإجراء مناورات نووية    مستشار رئيس جمهورية جنوب السودان للشؤون الأمنية توت قلواك: كباشي أطلع الرئيس سلفا كير ميارديت على استعداد الحكومة لتوقيع وثيقة إيصال المساعدات الإنسانية    لحظة فارقة    «غوغل» توقف تطبيق بودكاستس 23 يونيو    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    تشاد : مخاوف من احتمال اندلاع أعمال عنف خلال العملية الانتخابية"    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    دول عربية تؤيد قوة حفظ سلام دولية بغزة والضفة    الفنانة نانسي عجاج صاحبة المبادئ سقطت في تناقض أخلاقي فظيع    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    وزير الخارجية يبحث مع نظيره المصري سبل تمتين علاقات البلدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    تمندل المليشيا بطلبة العلم    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جيلي عبدالرحمن.. عمر في الغربة
نشر في سودانيل يوم 11 - 01 - 2014

امضى الشاعر السوداني جيلي عبدالرحمن حوالي 30 عاما في موسكو حيث تلقى تعليمه العالي في معهد غوركي للآداب ثم عمل في صحيفة " انباء موسكو " ودار النشر " التقدم" . ومارس الى جانب نظم القصائد ترجمة الشعر من الروسية الى العربية باسلوبه الرائع . وعاش جيلي طوال حياته في الغربة بعيدا عن وطنه السودان وكان آخر ديوان شعري له هو " الجواد والسيف المكسور". ونقدم ادناه ذكريات صديقه د. أبوبكر يوسف ."ولد الشاعرجيلي عبد الرحمن بجزيرة صاي في النوبةعام 1931 وسافر الى مصر صغيرا حيث كان يعمل والده ، والتحق بالأزهر . نشر جيلي أولى قصائده ومقالاته في جريدة " المصري" القاهرية في أوائل الخمسينات من القرن الماضي. عمل بمجلة "روز اليوسف" وفي جريدتي "المساء" و"الجمهورية" ثم جريدة "الشعب". سافر للإتحاد السوفيتي عام 1961 ودرس بمعهد جوركي للآداب بموسكو حيث حصل على الماجستير في الآداب، ثم على الدكتوراه في الآداب من معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية في موسكو. تزوج زميلته( ميلا ملاحات) وهي مسلمة من أذربيجان وأنجب منها بنتين هما (رنا وريم). عمل محررا بجريدة أنباء موسكو (1969)ومراجعا بدار التقدم للنشر بموسكو(1975) حيث صدرت له ترجمة لمختارات من شعر الشاعر الكازاخي الكبير أباي كوننبايف و مختارات من شعر المقاومة السوفيتي " أشعار مقاتلة" ( بالاشتراك مع ابوبكر يوسف وماهر عسل). سافر الى اليمن الجنوبي حيث عمل أستاذا بجامعة عدن ( 1978-1983) ثم بجامعة الجزائر (1983-1990). وفي نهاية حكم نميري عاد الى السودان لفترة قصيرة ثم ذهب للقاهرة للعلاج وتوفي بها في الرابع والعشرين من شهر اغسطس عام 1990م. صدر له كتاب "المعونة الأمريكية تهدد استقلال السودان" ( 1958)، وعدة دواوين منها "قصائد من السودان" بالاشتراك مع الشاعر تاج السر الحسن (1956) وديوان "أغاني الزاحفين " مع نجيب سرور وكمال عمار ومجاهد عبد المنعم (1958 ) . وبعد فترة أصدر ديوان "الجواد والسيف المكسور" من القاهرة (1967) وأعيد طبعه في الجزائر ( 1985). وبعد وفاته صدر له ديوان "بوابات المدن الصفراء" عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. ولجيلي دواوين لم تطبع هي "الحريق وأحلام البلابل" و"القبر المغبون" و"الموت يدهم حلم البرتقال". . . أمضى جيلي عبدالرحمن نحو عشرين عاماً في موسكو، وهي بعض من سنوات الغربة التي قضاها متنقلاً بين الجزائر وعدن والقاهرة وغيرها . وقد ترك جيلي أثراً كبيراً في الشعر العربي بديوانه الوحيد المطبوع في حياته " الجواد والسيف المكسور" الذي كسر فيه عمود الشعر التقليدي واختط لنفسه طريقاً خاصاً فكان إحدى أهم العلامات البارزة في تطور الشعرالعربي الحديث . لكن صفحة أخرى من إبداع جيلي وحياته ما زالت مجهولة وأعني تجربة جيلي الفريدة حينما تولى ترجمة بعض الشعراء الروس إلى العربية على نحو رائع . وقد تعرفت على جيلي عبدالرحمن لأول مرة أو بالأحرى رأيته في إحدى القاعات بموسكو عام 1963 في مهرجان شعري . وكنت قد لمحته من قبل مع الشاعر الراحل أيضاً نجيب سرور قبل ذلك بسنة في إحدى محطات مترو الإنفاق بموسكو لكني لم أقترب منهما رغم شوقي للتعرف لجفوة كانت بيني بين المرحوم نجيب سرور الذي كان يدرس الإخراج المسرحي في موسكو آنذاك وكانت بيننا صداقة ومودة شابتها في تلك السنة سحابة عابرة . في ذلك المهرجان الشعري رأيت جيلي : تلك القامة النحيلة التي سبق أن رأيتها في محطة المترو ، وذلك الوجه الأسمر الممتلئ قليلاً في شبه استدارة ، والعينين الخفيضتي النظرة عن حياء داخلي وإحساس بالخجل ( لا لذنب ارتكبه كما أدركت فيما بعد ولكن خجلاً مما يرتكبه الآخرون ) . وكانت على إحدى مقلتيه بقعة زرقاء حرمته النظربهذه العين وزادته انطواء . في تلك القاعة ألقى جيلي إحدى قصائده المعروفة وهي قصيدة " لوركا " . وما إن صعد جيلي إلى المنصة حتى تحول في لحظة واحدة إلى كتلة ملتهبة من العواطف مشحونة بطاقة تتفجر قوافي وإيقاعات مدوية كصوت الرصاص وطبول الحرب الأفريقية . وبدا للسامعين كأنه لا شيء في العالم يستطيع الوقوف بوجه هذا السيل الجارف من الشعر اللاهب المنطلق كحمم البراكين من فم جيلي ، بينما تتردد بين الفقرة والأخرى لازمة قاطعة كأمر عسكري "شدوا على الزناد " ! دوت القاعة بتصفيق هادر عاصف وظلت الأكف مشتعلة به طويلاً . ونسيت نفسي في تلك اللحظة فقد أصبحت ذرة في هذا الخضم الجياش . وهتفت القاعة بحرارة تطالب جيلي بإعادة إلقاء القصيدة . وبعد تردد وحياء صعد جيلي إلى المنصة مرة أخرى ليتحول ثانية إلى لهب يصهرنا معه في أتون الإيقاع والصور. من يومها أحببت جيلي عبدالرحمن الشاعر الفطري العذري كغابات أفريقيا ، الأسمر كمياه النيل والعذب مثلها والذي كان رغم كل ما يحمله من هموم وبعد ذلك من أمراض حاضر النكتة يعشق " القفشة " ويجيد اقتناصها . لكن معرفتي وصداقتي الحقة مع جيلي لم تترسخ إلا بعد ذلك بسنوات وتحديداً في بداية 1969 عندما تقرر إصدار صحيفة " أنباء موسكو " الروسية باللغة العربية فوقع الاختيار عليَّ كمترجم ومحرر مسؤول عن الصفحة الأدبية وعلى جيلي عبدالرحمن والمرحوم الأديب السوري سعيد حورانية كمراجعي أسلوب ، لتصحيح ما قد يشوب الترجمة من أخطاء، وانتقاء العناوين ،وكتابة مقدمات للمقالات إلخ . وعملنا معا ثلاثتنا في هذه الصحيفة جنباً إلى جنب خمس سنوات كنا نلتقي خلالها يومياً في العمل وفي أحيان كثيرة في بيته أو بيتي بعد العمل . وكان جيلي آنذاك يحضررسالة الدكتوراه تحت إشراف الأستاذ جريجوري شرباتوف بمعهد الاستشراق في موضوع أثير لديه هو "القصة العربية والسودانية " . خلال هذه السنوات وما بعدها حتى عودة جيلي الأخيرة إلى مصر حيث انتقل الى مثواه الأخير توطدت بيننا صداقة لا تشوبها شائبة . وتعرفت في جيلي إلى قطرة مصفاة من العذوبة والرقة ورهافة الإحساس ، فكان لا يفارقني الشعور بأنه يمشي بين الناس بأعصاب عارية تجرحها أية نسمة . وكنت أبدو له في أحيان كثيرة دعامة قوية في مواجهة شظف الحياة وعنف الطباع . وأذكر مرة أنه حصل على مكافأة مالية كبيرة على ترجمة ديوان الشاعر الكازاخي " أباي " وكنت بحاجة إلى مبلغ من المال فطلبته منه وأنا على يقين من أنه لن يتأخر خاصة أن أياماً قليلة لم تنقض على استلامه المكافأة . وفوجئت به يقول لي إنه لا يملك سوى مائتي روبل من بضعة آلاف استلمها ! وأوضح لي جيلي أن الطلبة السودانيين الدارسين في موسكو وكان بيته يغص بهم عل الدوام " أخذوا الغروش " ! ودهشت لهذا الشخص الذي يوزع في أيام قلائل عدة آلاف من الروبلات على الطلاب الفقراء دون أمل في استردادها .. ولكن أليس هو نفسه جيلي عبدالرحمن القائل : " خلَّينا الدنيا للمفتون .. وعفنا المالْ وسرحنا في خرقتنا .. نقتات الأهوال " ؟ أليس هو الذي أعطيته ذات مرة قصة قصيرة بعنوان " عيد الميلاد " كنت ترجمتها للأديب الروسي فلاديمير ليدين ليراجعها قبل نشرها في الجريدة ، وعند الصفحة الأخيرة رأيت الدموع تنساب من عيني جيلي بغزارة تأثراً بالقصة . وقلت له من باب التخفيف عنه وصرفه عن الحزن : " متى عيد ميلادك يا جيلي ؟ " فقال وهو يغالب بقايا الدموع بنبرة شابتها روح الفكاهة المعهودة فيه : " لو كنت أعلم متى ولدت ! خليها على الله ! " لم أدهش لأنني أيضاً من بيئة قروية وكان كثير من المواليد حينذاك لا يسجلون في السجلات الرسمية . وقلت له ملتقطاً الفكرة التي ظهرت لتوها : إذاً فليكن عيد ميلادك اليوم ولنحتفل به ! ولم يمانع جيلي وصرنا نحتفل بعيد ميلاده الذي تخيرناه صدفة . في أواسط السبعينات أدركت أن جيلي قادر على نقل روائع الشعر الروسي إلى المكتب العربية شعراً، مثل قصائد الشاعرين الكبيرين ألكسندر بوشكين وميخائيل ليرمنتوف لو توفرت له الترجمة الحرفية الأمينة ، خاصة أنه درس الأدب الروسي في معهد غوركي للآداب وأصبحت صلته باللغة الروسية قوية ولكن ليس بالقدر الذي يسمح له بالترجمة بدون مساعدة . وعرضت عليه أن نشترك في هذا العمل الجليل فأقوم أنا بإعداد الترجمة النثرية ويقوم هو بصياغتها شعراً . وشجعني على ذلك بعض النماذج التي قدمها جيلي في ترجمته ومنها قصيدة للشاعر نيكولاي تيخونوف ، كتبها خلال حصار مدينة ليننجراد الرهيب الذي دام تسعمائة يوم، وترجمها جيلي على النحو التالي : " شجيرتي المتجمدة شجيرتي المتجمدة تناثر الرماد في الكهوف على الشطوط الجهمة المستوحدة وأنت تنشجين كالأمواج ، كالعزيف. شجيرتي المتجمدة ينيخ فوقك الظلام والسكون وأنت تحبسين الدمع ، تذرفين وتعبق الدماء في العيون الجامدة. يا أفرعي الخضراء .. أصدقائي، وأنتِ تهجعين في العراءِ أسقيك من دمائي في العاصف الشتائي ! فلتشربي ياأفرعي وليسكبُ الغذاء في حنايا الآضلعِ حتى يذوبَ الثلج في المساءِ يا أفرعي الخضراء.. أصدقائي..رحب جيلي بالاقتراح وتحمس له ، لكن بيته المفتوح - الغاص دوماً بالأصدقاء والمعارف وحتى بغير المعارف - ومشاغل الحياة ووطأة المرض حالت دون إنجاز ذلك المشروع . كان جيلي مسرفاً في عطائه للآخرين على حساب إبداعه الشخصي ، وكثيراً ما عاتبته على هذا الإسراف . وكنت أرى كيف يغترف الكثيرون بلا رحمة من هذا المورد العذب السيال غير عابئين بما يبقى أو لا يبقى منه للشعر بعدهم . لكن جيلي كان يرد على عتابي بنظرة صامتة خجولة حيية كأنما يقول " لا أستطيع غير ذلك " ! في السنوات الأخيرة اشتد المرض على جيلي وكان يلزمه الفراش بالأسابيع وأحياناً بالأشهر ، وأحس أنه عبء على الصحيفة التي تصدر أسبوعياً . وفي تلك الفترة كنت قد انتقلت للعمل بدار" التقدم" للترجمة والنشر، ولم تكن طبيعة العمل فيها تستوجب المداومة اليومية ، فرأيت أنها فرصة مناسبة لنقل جيلي أيضاً إلى هناك . ومن هذه الدار صدرت ترجمة جيلي عبدالرحمن لأشعار الشاعر الكازاخي " أباي " وديوان : " أشعار مقاتلة " الذي شاركته أنا والدكتور ماهر عسل ترجمته إلى العربية. وأفسح العمل في الدار المزيد من الوقت لجيلي فكنت كثيراً ما أناقشه في قضايا الشعر الحديث والمهام الجديدة التي يواجهها بعد أن كسر عمود الشعر التقليدي وقدم شعراؤه ومنهم جيلي نماذج رائعة للقصيدة الحديثة . وكان جيلي في شعره مزيجاً فريداً من الرومانسية والواقعية . كان شعره تجسيداً للأغنية الوجدانية بطابعها العميق الذاتية ، وفي الوقت نفسه كان جيلي عبدالرحمن يسلك دروباً واقعية تبعده عن شعراء الرومانسية المهومين في بحار ذواتهم وعوالمهم المنفصلة عن الحياة . ومع إعجابي الشديد بقصائد جيلي ذات الطابع الحزين فقد كنت أتمنى لو استطاع أن يخرج من الإطار الضيق للقصيدة الوجدانية الغنائية إلى رحابة الشعر الدرامي والقصصي الذي درسنا معاً في موسكو أعظم نماذجه لدى كبار الشعراء الروس في القرن التاسع عشر، مثل ألكسندر بوشكين وميخائيل ليرمنتوف و فلاديمير مايكوفسكي وسيرغي يسينين وآنا أخماتوفا وغيرهم . كنت أود لو استطاع جيلي بموهبته الشعرية الفذة ان يقدم لنا تجربة الشعب النوبي بماضيه العتيد وحاضره المأساوي في ملحمة شعرية ، سواء مسرحية أم رواية شعرية أم خليط من هذا وذاك . لكن جيلي لم يكن يجيد العزف على آلات الأوركسترا الغربية ، وظل لصيقاً بنايه الأسمر الشجي الحزين. ولست أدري الآن إن كنت على حق أم لا آنذاك في دفعي لجيلي إلى أحضان الثقافة الأوروبية والأجناس الأدبية البعيدة عن طبعه وعن فنه . وأتساءل : ترى لو استجاب لدعوتي وانتقل إلى " الشارع الغريب " .. هل كان سيبقى هو نفسه جيلي عبدالرحمن الذي عرفناه وأحببناه ؟ وهل كان سيظل محتفظاً بعذرية الأرض السمراء ونخيلها المطرق وبيوتها وقراها الحزينة ؟ لقد بقي جيلي في دائرته التي كانت تتلامس وتتقاطع وتحتك بخطوط الدوائر الثقافية الأخرى الروسية والغربية والآسيوية دون أن تتحد مع أي منها . وربما كان ذلك دفاعاً تلقائياً لا شعورياً تذود به موهبة الشاعر الأسمر عن أصالتها وخصوصيتها وتفرد تجربتها . وكانت لقاءات وأحاديث كثيرة بهذا الصدد وبغيره تجمعني مع جيلي عبدالرحمن ، ونجيب سرور، وتاج السر الحسن، وعبدالوهاب البياتي ، وغائب طعمة فرمان ، ، وكانوا قد اجتمعوا في فترة واحدة في موسكو في الستينات والسبعينات ، كما حل على ضيافة موسكو عبدالرحمن الخميسي وسعيد حورانية وسعيد مراد . وكنا نحن الذين جئنا من بلادنا لندرس الأدب نشعر
بمتعة حقيقية من التواصل مع هؤلاء المبدعين الكبار ونتابع إنتاجهم أولاً بأول في الندوات والأمسيات الشعرية والحفلات التي كانت تقام بكثرة آنذاك . وأعتقد أن أولئك المبدعين أنفسهم كانوا يشعرون بتلك المتعة التي أحسسنا بها وهم يلتقون بجمهورهم الحي الذي يبدي لهم آيات العرفان . وكانت تلك الأمسيات بالنسبة لهم قطرات ولو شحيحة من ينابيع الوطن في سنوات الغربة . لكن القطرات أخذت تشح شيئاً فشيئاً حتى غاض نبعها، وأناخت الغربة على جيلي عبدالرحمن بثقلها ، فتقوقع يحتمي بصدفة شعره ، وراحت تطل من قصائده أشباح الراحلين الأعزاء من الأصدقاء والرفاق والمعارف والأهل . وازدادت وطأة المرض عليه فعاوده إحساسه القديم بأنه " عبء " ، وأصبحت موسكو التي قضى فيها زهاء العشرين عاماً ضيقة عليه ، وبدت له ضائقة به ، ولا حت بوادر أزمة إبداعية كانت انعكاساً لأزمة العلاقة مع الواقع المحيط . حينذاك ، وفي نهاية السبعينات ، أخذت أشجع جيلي على الرحيل عن موسكو والإقامة في أي بلد عربي ، إدراكاً مني أن جيلي أصبح في مسيس الحاجة إلى محيطه العربي ليسمع فيه إيقاع اللغة التي يبدع بها ، ولكي يتواصل مع مبدعين مثله أو شبان واعدين سيحبونه ، وسيمنحهم هو من ذاته ومن عطفه الكثير " دون ثمن ، دون حساب الربح والخسارة " على حد تعبير الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور . وكانت مصر والسودان هما الأقرب إلى قلبه لكنه كان ممنوعاً من دخولهما آنذاك ومن ثم اتجه إلى جنوب اليمن حيث قام بتدريس الأدب في جامعة عدن . وبعدها بسنوات انتقل إلى الجزائر التي عانى فيها كثيراً واستمتع كثيراً بصحبة أدباء وشعراء وقراء جزائريين أحبوه وأعزوه ، وفي مقدمتهم الأديب الطاهر وطّار . وكان جيلي يعود إلى موسكو في فترة الإجازات فنلتقي كثيراً ، ونستعيد الذكريات ، ونحلم بمشاريع لم يقيض لها أن تتحقق . في مقدمة أحلامنا كان إصدار ديوان جيلي الجديد. وكنت أحثه كثيراً على جمعه وإصداره خاصة أنني كنت حينذاك أتردد على بيروت وكانت مطابعها ودور النشر فيها على أتم الاستعداد لنشر ديوان كهذا . وأكد لي جيلي بدوره أن دور النشر في عدن وأماكن أخرى ترحب بل وتحثه على جمع قصائده لنشرها . لكني لم أقرأ حتى الآن هذا الديوان . ولا أدري إن كان أحد بعد موت جيلي قد اعتنى بجمع تراثه ونشره أم لا . الديوان الوحيد الذي قرأته لجيلي كان في أواسط الستينات في القاهرة بعنوان " الجواد والسيف المكسور " وبقدر ما سعد جيلي بهذا الديوان بقدر ما عانى من الحزن والقهر بسبب الأخطاء المطبعية الفادحة التي انتشرت فيه . وأقول الديوان الوحيد باعتباره العمل المستقل بعد أن صدرت دواوين جيلي الأولى مشتركة مع تاج السر الحسن وأخرين. أما ديوانه الثاني "بوابات المدن الصفراء" فصدر بعد موته فلم يسعد جيلي برؤيته. وأياً كان الأمر ، وسواء طبعت دوواينه أم لا ، فسيبقى جيلي عبدالرحمن حياً في ذاكرة بل في قلب كل من عرفه وعايشه واستمع إلى شعره ، ولو مرة ، فقد كان تجسيداً لمعاني العطاء والتفاني ، وكانت حياته كلها التزاماً دائماً بقضايا الفقراء والمضطهدين ، وكان شعره تعبيراً عن هذا الالتزام بشفافية وعمق وعذوبة تعلو به إلى مصاف كبار الشعراء المبدعين".
من سلسلة مقالات " مبدعون عرب في روسيا"- http://arabic.rt.com/info/40406/:روسيا اليوم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.