موظفة في "أمازون" تعثر على قطة في أحد الطرود    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    الحراك الطلابي الأمريكي    "غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    نهب أكثر من 45 الف جوال سماد بمشروع الجزيرة    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    ابتسامات البرهان والمبعوث الروسي .. ما القصة؟    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    تجارة المعاداة للسامية    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مرسال الشوق إلي أرض الجذور علي متن لوفاتهانزا - هل من عودة تاني؟؟. بقلم: د.عبدالمنعم عبدالمحمود العربي
نشر في سودانيل يوم 15 - 01 - 2014

بقلم د. (طبيب) عبدالمنعم عبدالمحمود العربي- المملكة المتحدة
مرسال الشوق
يظل الحنين إلي الوطن ومراتع الصبا يلازمنا في غربتنا التي طالت ولا زالت تطول. الشوق يشمل كل الأشواق إلي الأهل الأقارب والجيران والصحاب وإلي كل الأماكن القديمة والأزمان المرتبطة بها وحتي في بعض الأحيان شوق عارم إلي أولئك الذين رحلوا عن دنيانا فللذكريات الحبيبة معهم رحيق يظل عبقة يعطر سمواتنا القريبة والبعيدة والأنجم البعيدة المضيئة أيضاً تظل دوما تذكرنا بليالي الأنس الحلو الجميل معهم في زمن مضي ورغم بساطة وصعوبة الحياة فيه آنذاك فقد كان هو زمناً جميلاً يحلوا للكثيرين منا استعادة وترداد ذكراه العطرة
العام الماضي زرت السودان تحملني الناقلة الجوية الهولندية المعروفة (KLM ) وعند ليلة الوداع تلك صعب عليّ فراق الأهل والوطن وصعب عليّ أن تكون تلك الرحلة أخر رحلة لي علي تلك الناقلة المميزة بخدمتها الممتازة. فودعت البلد والنيل ملوحاً عبر شباك الطائرة وأناالمغادر المشتاق وبي لوعة قائلاً : سلام سلام إليك يا نيل وأشواق لك ليس لها حدود
يمر عام أخر و يحملني نفس الشوق العارم مرة أخري إلي زيارة الوطن والأهل وبالتحديد إلي الوطن الصغير "بربر" تلك المدينة العريقة التي لم أزرها طيلة السبعة عشر سنة هي جزء من عمر زمان في الحياة ضاع أكثره في الغربة وعمر زمان من رحيل آخر الفوج من الأهل الذين غادروا إلي الدار الآخرة. و رحلة هذه المرة لا تخلو من شبه رحلتي السابقة ذلك لأنني سافرت علي متن الناقلة الجوية الألمانية لوفتهانزا وأشواقي إلي زيارة الوطن ورؤية الأهل كان يلفها ثوب الحزن لأن رحلتي هذه المرة ستكون أيضاً وللأسف الشديد آخر رحلة لي إلي الخرطوم علي متن اللوفتهانزا التي ستتوقف رحلاتها نهائيا في التاسع عشر من الشهر الحالي (يناير 2014).
هكذا كنت جالساً في مقعدي طيلة الرحلة من فرانكفورت إلي الخرطوم. كان غالبية الركاب من الأحباش والسياح الغربيين وكان لكل منهم شأن يغنيه. مع مشارف المغيب المهيب حطت الطائرة علي تراب الوطن السودان وفتح الباب واستنشقنا هواء الخرطوم طلقاً طيباً ونزلنا أرضها أهلا وسهلا وركبنا البص ومن عادة غالبية السودانيين الإنتقاد السلبي حيث بدأ شخص يجاورني يعلق علي طريقة الإستقبال فقلت له يا أخي أولاً دعنا نحمد الله علي سلامة الوصول وثانياً قلت له قد سافرت أنا إلي معظم أقطار الدنيا وأمتع اللحظات عندي هي عندما تهبط بي الطائرة فقط علي أرض الوطن فلكل بل طعم ولكن طعم البلد الوطن حلو لذيذ لا يقاوم أو يباري. والسودان بلد جميل بنيله وبأهله والخرطوم مدينة مؤهلة لتكون أجمل مدينة في العلم لو وجدت الرجل الفنان المناسب والطاقم المفكر المبدع المناسب و الذين مع بعضهم و شئ من خبرات أجنبية يصلون إلي الوصفة المناسبة التي تحيل تلك المدينة من قرية كبيرة قذرة محفرة شوارعها وصحراء ميادينها الي جنة الله في الارض.
أجهدتني الأنفلونزا الحادة ولكن برغمي إجتهدت في أن أزور مدينة بربر بعد غياب دام سبعة عشر عاماً متتالية وأيضا لأحقق رغبة إبنتي وابنة شقيقي محمد الصغيرتين لأن أمنيتهما رؤية تلك البلدة التي ولد وترعرع فيها أهل أبيهما. الشكر لأشقائ د. علي والسيد إسماعيل وشقيقتي الأستاذة خديجة الذين صحبوني. شكرًا للطريق المعبد الذي جعل الرحلة سهلة ميسورة وإنني لأرجو أن نعيش ونري نفس الطريق قد تطور إلي طريق أأمن ذي مسارين عريضين ومواصفات وإرشادات واستراحات عالمية المستوي. توقفنا لزيارة أثار البجراوية الجميلة التي تحكي عن تاريخ عظيم لكننا قد أهملناه والزحف الصحراوي قد غطي التل الصخري الذي بنيت علية تلك الإهرامات ولو كانت هذه الآثار في بلد آخر غير السودان لجلبت آلاف السياح فنحن أهل السودان نفتقر الدعاية و الحس والفن السياحي وفقدان البنية التحتية والوجستية لإنجاح مثل هذه الأنشطة الهامة. أتساءل من ياتري من يدلني علي المنتجعات السياحية في بلادنا؟ اين عهد الرحلات الكشافية والمدرسية والجامعية سواء داخل الوطن أو خارجه؟ أين جماليات المدن المختلفة التي تجذب السياح عدا ما نجده في مدينة بورتسودان؟؟ دخلنا عطبرة التي كانت سابقا جميلة ونظيفة شوارعها التي كانت تغسل يومياً. سألنا أحد التجار عن قهوة الإبس البهيجة لنحقق رغبة أخي د بابكر الذي درس بمدرسة عطبرة الثانوية حيث اتصل بنا وطلب منا أن نحتسي فنجان قهوة عند الإبس. إندهش التاجر سائلاً "نعم ماذا تقولون؟ الإبس؟؟ لم أسمع بهذا الإسم" ضحكنا وقلنا له آسفين إننا نحن قوم من زمرة أهل الكهف!
دخلنا بربر فبانت شامخة المدارس التي درست فيها "الأهلية الحكومية الوسطي والثانوية العليا والشمالية الأولية" وقد كانت لي فيها وفي بربر مع أهلي وصحابي جميل الذكريات. والحديث عن الذكريات يحتاج إلي كتب ومجلدات. والذكريات بمعناها العريض وفي كل اللغات كانت ولا زالت حديث الشعراء والكُتَّاب والمؤرخين!. تصدرت خمرياتهم وغزلهم فبعضهم من وصفها بصدى السنين الحاكى، وبعضهم بأنها ناقوس يدق فى عالم النسيان....إلخ. والذكريات عندى هى مبعث الشجون ومشكاة النحيب فى البيداء والحصون وعلى الأطلال "حورية" مهرها آلاف السنين!. لا أزال أذكر أياماً غابرة ما أحلاها من برعمة عند ولادتها وكذلك بعد إكتمالها ونضجها. ففى بربر وطفولة الحياة البريئة تحبو كنا نلهو هنا وهناك فى أرجاء بيت جدتى نشدو ونغرد كالعصافير "الطليقة" وعلى تلك التربة الطاهرة "كم بنينا وبنينا من حصاها أربعاً" وكأننى الآن بجدتى تتربع وسط تلك "الدار العتيقة " التى كانت تحرسها نخلة "طويلة وأذكر جيدا ً جدتي جالسة أمام كانونها " تنفخ حتى تدمع عينيها وقود قهوتها التى لا تكاد تتركها ليلها ونهارها خاصة "قهوة الضُحى" ودعواتها المتكررة للشيخ "أبوالحسن الشاذلى" مكتشف سر البن العجيب "حسب قولها وعلمها". كنت يومها معجباً "بخربشة" أشاهدها على جدران بيتها العتيق. تارة محفورة حَفْراً وتارة مرسومة بالطباشير الأبيض أو الأصفر أو البنفسجى " لم يدر بخلدى وقتها ما تعنيه هذه الطلاسم وظللت على تلك الحال حتى دخولى المدرسة الإبتدائية. فقد تعلمت لاحقا بدورى نقش مثل تلك الحروف، أيضاً على "جدران بيت جدتى" وكنت كذلك أرسم الأشجار والحيوانات طالما شغفتنى ألوان الطباشير الجميلة. كنا نتسابق عند إنتهاء حصة الجغرافيا نحو السبورة بمدرسة بربر الشمالية الأولية لنفوز بما تبقى من قطع متناثرة من "الطباشير" الملون، تلك الكمية المهولة التى كان يخلفها مدرس الجغرافيا (الأستاذ إسماعيل خضر) وهو الشغوف دوماً بإبراز مهاراته وفنه فى تلوين الخرائط والرسوم البيانية.
وقوفاً علي الأطلال: هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم؟
مر الزمن وعفى الدهر على ديار جدتى وربعها فصارت أطلالاً ويصعب التعرف عليها من كثرة التهدم والتصحر. لقد شاهدتها بعد هذا الغياب الطويل فتوقفت صامتاً متأملاً ولعلّنى ساعتها خلت نفسى مع جدتى "آمنة" وكأنما أشم رائحة ذلك البن الحبشى الأصيل ويد ترتعش تعالج الحطب والموقد العتيق وصوت جميل أكاد أسمعه وهي تردد كلماتها ولحنها المحبب عندما يشدها الشوق والحنين لإبنها الأصغر "الحسين" والذى أبعدته عنها الوظيفة. فعمله كان فى الخرطوم في برلمان السودان وعند ذهابه وعودته من الخرطوم إلى بربر فى شمال البلاد لابد أن يمر"غاشياً" مدينة شندى شمال العاصمة الخرطوم والتى يعمل فيها بعض الأقارب منهم إبن أخته الحسن أحمد عبدالله. أذكر منها المطلع الذى تقول فيه :
قالوا لى الحسين جا قال غاشى شندى
فوقى بشارة للشافوا الأفندى
كانت تعنى بذلك أن عندها جائزة للذى يبشرها بمشاهدة (الأفندى) أي تقصد إبنها "الحسين". الكلمة "غاشى" تستعمل عندنا فى المخاطبة اليوميه بالعامية المتداوله فى شمال السودان ولها نفس معنى الفعل يغشى، غشى، ويغشاها!" وهى تعنى زيارة قصيرة لمكان أو شخص ما وعادة تتم عرضاً أو قصداً أثناء تأدية مهمة أو رحلة فى زمن ما.
وأنا فى تأملى ذاك أرى أنه للأسف قد إندثرت النخلة وايضاً النخيلات عند الجيران ولم تبق منها حتى أعجاز خاوية!!. بل تضاءلت الجدران وأنمحى كل شئ فبقيت آثارها تعبيراً ناطقاً "للذكرى والتاريخ" تلك الكلمات التى ألفتها أيام شقاوتى وجهالتى وهى تملأ تلك الجدران "التى إندثرت" كانت قد كتبتها أيدى أخوالى وأشقائى بمختلف أنواع الطباشير الملَّون الجذاب!!.
أيام الطفولة ما أحلاها وذكرياتها لا تنسى حيث تبدأ الذاكرة في التخزين عند البعض منذ الثالثة من العمر!. فى "بربر والقدواب" تفتحت عيوننا وذاكرتنا على الأخضر من الزرع وأشجار النيم والسنط والسدر والحراز والطلح الوارفة الظلال وعروش نخل "قد كنا نخشاها "يرعبنا حفيف أوراقها كما نخشى سقوطها عند هبوب الرياح رغم أنها كانت تحبونا برطبات حلوة المذاق تشبع بطوننا. ولا أنسى تلك البواجير "أي الوابورات الزراعية" التى تئن أنيناً وهي تضخ الماء من النهر فيخيل لك كأنها تعزف لحناً حزيناً تودع به يومها عند كل مغيب شمس ومن ثم مواصلة عزفها أغنية جديدة عند "الليل الهادئ"!.
ما أجمل تلك الأصوات تأتيك منبعثة عبر النيل لا يعكرها شئ عندما تسكن القرى سوى نباح بعض الكلاب وهى تتجول هنا وهناك فى حرية ومن غير "حظر تجول"!!. مع تلك الطلمبات توجد سواعد مشدودة تعمل لا تعرف الكلل. فهنالك أبقار تجر المحاريث ورجال من ورائها تكر. يستلهمون الهمم فى لياليهم بترانيم وأراجيز بعضها يعنى الكثير رغم بساطة كلماتها والبعض لا أدرى من أين أتوا به فقد توارثوه أيضاً من الأجداد. ففى أيام الزراعة والسقاية على شواطئ النيل يركزون على "الدوبيت" وموضوعه لا يخرج عن ألحان عذبة لشعر شعبى فى الفروسية والغزل ولوعة المشوق للأحبة...فرغم بساطة الحياة فقد كان فيها صدق الكلمة وصدق العاطفة ومرحاً لا يشوبه كدر. ما أسعدكم يا من عشتم حياتكم فى صفاء ونقاء وغادرتموها كذلك إلى الدار الآخرة فى صفاء ونقاء.
زرت ديار أبي والأهل في السارا وبربارا وافتقدت شجرة الحراز الضخمة التي توارثناها من الجدود فقد قتلها قبل سنوات أحد من شياطين الإنس لأمل في نفس يعقوب وجهل بأنه قد قتل حياتاً كانت عامرة بالخير فقد كانت تلك الحرازة مهبطاً سهلاً وظلاً ومسكنا للإعراب الرحل الذين يأتون بمراحهم من الغنم والضأن والإبل في موسم الجفاف يجاورون نهر النيل . قلت في نفسي مردداً: "حرازتنا الليلة وين مكانا...... حرام قتلوها والزمان قلانا" . وهكذا في لمحة بصر مر بي شريط من الصور المعبرة عن جيل من السودانيين عاش في تلك الديار قد لا يتكرر. من تلك الصور المعبرة والتي مرت سريعاً كشريط سينمائ ذكريات خاصة لأيام المولد النبوي والأعياد والحصاد في تلك البلاد. فموسم الحصاد كان موسم الأفراح الملاح حيث يُرجي الكثير الواعد المحبب من الثروة المرتقبة والكل يجمع ثمرة كفاحه. فطالب الرزق آنذاك لا يعرف الفرق بين ليل مدلهم ولا برد أو هجير مستعر يثنيه عن الكفاح. فهاجس النفس كان هو الحصول فقط علي "اللقمة الحلال". لا أنسى كلماتهم (أعنى الفلاحين والباعة المتجولين) "دى خدمة يمين وعرق جبين". فمع الحصاد تتجدد الحياة وتنتعش الأسواق ويتم إدخار قوت السنة والسنين تحسباً للسنين العجاف. تتم كذلك الزيجات فيفرح الشيب والشباب كما تتحقق أمنيات كثيرة ظلت حبيسة النفس أغلاها أمنية العمرألا وهى "حج بيت الله الحرام" وشرب قهوة الذكريات بمنى وزيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلاة فى المدينة المنورة بل إن البعض منهم قد فاق حبه لتلك الأماكن حب المال والولد حتى ترك الغالى والنفيس و هجر الأوطان وبقى مجاوراً هناك إلى أن توفاه الله. في أيام الحصاد اشتراكية الحياة بعفوية ومحبة وما النفير إلا الصورة الوضاءة لعظمة التكافل والتكاتف بين هؤلاء القوم البسطاء بل العظماء بأفعالهم ونواياهم الصادقة البريئة وقلوبهم الطاهرة وفي تكافلهم يصدق قول القائل :
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت آحادا
ففى تلك القرى كانت تتجسد روح المروءة والإخاء فالكل كان يعمل كالجسد الواحد. في كل ليلٍ قادم موعد لحصد محصول مزرعة "شيخ فلان" فيهرع الشيب والشباب مادين وبكل سخاء يد المساعدة و من على البعد تصل مسامعك ألحان حناجرهم وفى ميلوديا عفوية يرددون:
"التور عقروه فوق جبيل موية والتقيل هدموه"!
ويتخلل تلك الأصوات إيقاع عصيهم القوية وهى تضرب السنابل ضرباً قوياً غير مبرح والكل يحدوه الأمل الجميل والصبح المشرق الواعد بالخير. كانت أجمل اللحظات وأحلاها عندما تشاهد الجميع كل قد جمع أكياسه ملأى بالخيرات المختلفة من ذرة وبقوليات أهمها الفاصوليا والحمص وكذلك القمح والشعير وكذلك عندما تسمع ألسنة تلهج بحمد الله وشكره وإبتسامة دائمة تعلو الوجوه البريئة الطاهرة. تجدهم يسارعون ويحرصون على إخراج زكاة زرعهم لتوها وكانوا يسمونها "حق الله" وكانوا يخشون أن تختلط حبة واحدة من "حق الله" مع قوتهم وقوت صغارهم. لذلك كانت حياتهم كلها حلوة وحلالاً. إنهم كانوا لا يعرفون ما يسمى بمرض السكرى ولا الذبحة القلبية ....إلخ من إفرازات العصر الحديث. ليت رجال اليوم والمسؤولين عن أمور العباد يفهمون بل يطبقون بماذا تعني كلمة "خدمة يمين وعرق جبين" ويا حسرة علي أمة يموت فيها الحس والإحسان وحسن الأمانة والأخلاق
كنت أتوقع أن أجد في بربر قفزة بل طفرة كبيرة في العمران ومستوي عيشة الفرد وتحسن ملحوظ في الصحة والتعليم والزراعة والبستنة خاصة والسودان قد منَّ الله عليه بالبترول وأيضاً بإنتاج الذهب الخالص خاصة بمحلية بربر إضافة إلي إكتشاف وصناعة أسمنت ومرمر بربر الممتاز فلأسف التطور القليل هو وجود مشروع الراجحي السعودي ولا أدري ما العائد المادي إو الزراعي الذي إستفادت منه القدواب وبربر من هذا المشروع. أيضاً ما يحمد له وجود كلية الشيخ عبدالله البدري عبدالله والتي إضافة إلي تحفيظ القرآن وعلوم الدين قد ابتكرت تأهيل الخريجين بالتدريب المهني الفني حتي لا يمدون أيديهم الي الغير ويتخرجون عالة علي المجتمع.
زرنا المستشفي ووقفنا علي مشاكلهم وقصور الإمدادات حتي النقص المريع في كادر الأطباء والممرضين والأمصال الهامة خاصة تلك التي ضد لسعات العقارب وعض الثعابين ...إلخ فوجئنا أن نسبة الدخول أربعين مريضا فقط خلال الأسبوع. المرجو من الدولة الحاكمة ووزارة الصحة الإهتمام بمستشفيات الريف والمدن البعيدة ليتجنب المواطنون مشقة السفر الي الخرطوم طلباً في الإستشفاء
زرت مدرستي خاصة الثانوية منها وأشكرهم طلابا ومعلمين ومعلمات وجزيل الشكر علي ما استقبلوني به من حفاوة وتكريم في برنامج ثقافي بهيج وأتمني للمدرسة والمدينة أسبوعا حافلا بالبهجة عند حلول يوم الإحتفال المرتقب بيوم اليوبيل الذهبي لتلك المدرسة التي تخرج فيها البروفيسورات والعلماء مهندسين وأطباء وزراعيين وإقتصاديين ومعلمين وفنانين ورجال إعمال وعسكريين بذلوا الغالي والنفيس فاللهم أحفظها نعمة من الزوال
أرجو من محلية بربر أن تستقطع نسبة الخمسين في المائة من منتوج تعدين الذهب لتطوير تلك المناطق المهمشة في مدينة بربر وضواحيها وهذا حق يجب أن يرد إلي أهله.
زرت السوق العتيق وفيه المكتبة العريقة التي أسسها المرحوم الحاج شبرين منذ أكثر من خمسين سنة وتولاها من بعده بجدارة الأخ السيد السر بريمة وشقيقه حسن ولقد سررت كثيرا لترتيب أسواق الخضر والفاكهة وشد ما أعجبني المستوي السياحي لنظام بائعات الشاي وإني لأرجو أن تحذوا الخرطوم العاصمة حذو مدينة بربر في تعميم مثل ذلك النمط الفريد والصحي لبائعات الشاي الذي هو في نفس الوقت السياحي المظهر الذي يشرف المظهر العام للسودان كله بدلا من الفوضي والعشوائية التي تشوه كل العاصمة المثلثة
وفي الختام أودع بربر وأودع الخرطوم بل كل السودان ولساني يردد كلمات تعجبني من أنشودة تعلمتها وأنا بالمدرسة المتوسطة تقول :
طائر يشدو على فنن جدد الذكرى لذى شجن
قام والأكوان صامتة ونسيم الصبح فى وهن
هاجه شوق إلى وطن فبكى للأهل والسكن
فرغم تطور الحياة وتبدلها (أي تحضرها) ورغم ما شاهدته وعاصرته على تلك البسيطة بفضل الله تعالى فى أسفارى تلك مباشرة أو عبر القنوات المرئية بالتقنية الحديثة لازلت ولا أزال مملوءاً شوقاً وحنيناً لذلك الوطن الذى أشبعنا طفولة غناء بالحب والطمأنينة وحرية كحرية الطيور فى الأجواء الفسيحة وكيف لا فذكريات الأوطان تأسر اللب وقد انغرست نقوشها فى مخيلة الذاكرة وتملكت جوانب الفؤاد فبلغت مبلغاً فى السويداء لا ينمحى أبد الدهر!! فلك يا الوطن الحبيب السودان ولأهلك الطيبين الحب من الأعماق وشعور تترجمه أبيات شاعر العشق الإلهى إبن الفارض القائل:
أنتم فروضي ونفلى أنتم حديثى وشغلى
يا قبلتى فى صلاتى إذا وقفت أصلى
أقول: "الفروض والنوافل" وحديث النفس وشغلها وقبلة الصلاة لا تكاد تنفصل عن المرء الملتزم يوماً ولا فى اليوم ساعة ولا فى الساعة لحظة، فإن كان للذكريات فروضاً ونوافلاً فإن للأوطان أيضاً فروض ونوافل ألا وهى الحب والولاء وما أنتم يا أهلى وأحبتى إلا ذلك الحديث وذلك اللحن الشجى الذى يشغل كل سوداني في المهجر و يشغلنى دائماً وأبداً مع حبى لكم وللوطن الكبير "والتظل أنت يا سوداننا ملكنا درة نفيسة فى أيدينا" !!
الوداع بنهاية العطلة:
علي متن الطائرة عدت قافلاً أحمل معي أشواقي التي لم تنضب فأرسلت عنان خواطريالتي كانت تتبعثر تارة وتجتمع تارة فاكتمل وقتها ميلاد قصيدة بزغ مطلعها مودعاً الوطن علي متن ال KLM ليكتمل وانا مودعاً علي متن اللوفتهانزا التي تحملني وتحمله معي "مرسال الشوق" العائد سلام إلي النيل والأهل الذوق في الوطن الذوق:
سلام سلام إليك نيل
سلام وأشواق ليس لها حدود
تسابق مسافاتنا الطويلة
تسابق نفسها ..... تسبق كل الأشياء
تسافر إليك ياوطني
مجددة ذكري لذي شجن
سلام وأشواق إلي شواطئك الخضراء
إلي البساتين النضيرة وخيراتها الوفيرة
وشجيرات الحِنَّاء والريحان الصغيرة
إلي ديارنا في السارا وبربارا
أحيتها سواعد الزراع ليعم الرخاء
فيضاً سهلا ً منساباً مدرارا
سلام واشواق إلي أشجار حواليك
إلي الحراز والسنط والطلح والنخيل
إلي جلسات تحتها عند الصباح والأصيل
سلام وأشواق إلي شجيرات سدر
كم قطفنا من حلو ثمارها
وكم وكم قد تسامرنا عندها
في بواكر الصبا و الزمن الجميل
نبني الأماني قصوراً في الخيال
ونحلق فرحاً في فضاءات المستحيل
سلام وأشواق إلي قري أهوي رباها وسهولها
داكنة اللون بيوتها زرقاء صغيرة شبابيكها
تنير الفوانيس ظلام ليلها الطويل
واسعة برغمها عند المقيل لعابري السبيل
وأشواق إلي أزيار قناوية حمراء اللون
روتنا ماؤها في عطش الصيف الطويل
أشواق إليك صباح الخير مدرستي
صباح الخير والنور
إلي القولد التقيت بالصديق
في ريرة بإلقرشي وسليمان في الجفيل
إلي غبش البوادي يفلحون الحقول
إلي البتول أختي الهميمة تجر العجول
قامتها السمراء تسمو في العلا تطول
أشواقي إلي عرضة حماسة أغنية وقصيدة
إلي رحلة طويلة من حلفا الشمال العريقة
إلي الجنوب حتي إلي يامبيو البعيدة
أشواقي إلي مآذن قديمة عالية عهدتها تُكبِّرُ
وشيوخ تصلي علي البروش تحمد الله وتشكر
أشواقي إلي عازف ربابة وزمبارة
ودرويش يرقص طرباً علي ضربات الطارة
أشواقي إلي قطة لي صغيرة
في طفولتي كانت سميتها سميرة
تنام كل الليالي بجانبي
تلعب بذيلها في أصابعي
أبداً لا تخاف مني
لا تعرف الخداع ولا التجني
أشواقي وسلامي إلي وجوه سمراء
مسح الغبار خيوطاً علي وجنتيها
فهي رغم الضني وصبر السنين
باسمة كريمة هميمة مرفوعة الجبين
لا تهاب الموت ولا الذل المهين
سلام وأشواق إلي جدتي الحنونة
إلي دارها الرحيبة العتيقة
إلي قهوتها.... إلي نخلتها العجوز الطويلة
إلي صلاتها إلي دعاءها الصادق الفطري
فجر الصباحات المنيرة وأوقات الظهيرة
وفي الليالي الحالكات وعند الملمات العصيبة
سلام مرة أخري وأخري
وأشواق إليك يا النيل الخزين
إليك يا وطني يا وطن الصابرين
وإلي أهيلٍ اعزاء طيبين
الحب الكبير وباقات من الورد و الياسمن
تأتيك في الصبح والليل الدفين
من أقصي الشمال من مغترب
باعدته عنك عشرات السنين
عبد المنعم عبدالمحمود العربي
لندن - المملكة المتحدة
السارا وبربارا إحدي الأراضي الزراعية النيلية الخصبة التي توجد في بربر القدواب أسماها كذلك المُسّاح
الإنجليز لعلهم يقصدون تخليد ذكري حبيب ومنزل تركوه من ورائهم في إنجلترا
e mail: [email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.