الخليفة العام للطريق التجانية يبعث برقية تعزية للبرهان في نجله    ثنائية البديل خوسيلو تحرق بايرن ميونيخ وتعبر بريال مدريد لنهائي الأبطال    ريال مدريد يعبر لنهائي الابطال على حساب بايرن بثنائية رهيبة    شاهد بالفيديو.. الفنانة مروة الدولية تعود لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي بمقطع وهي تتفاعل مع زوجها الذي ظهر وهو يرقص ويستعرض خلفها    ضياء الدين بلال يكتب: نصيحة.. لحميدتي (التاجر)00!    ناس جدة هوي…نحنا كلنا اخوان !!!    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل مصري حضره المئات.. شباب مصريون يرددون أغنية الفنان السوداني الراحل خوجلي عثمان والجمهور السوداني يشيد: (كلنا نتفق انكم غنيتوها بطريقة حلوة)    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    شاهد بالفيديو.. القيادية في الحرية والتغيير حنان حسن: (حصلت لي حاجات سمحة..أولاد قابلوني في أحد شوارع القاهرة وصوروني من وراء.. وانا قلت ليهم تعالوا صوروني من قدام عشان تحسوا بالانجاز)    شاهد بالصورة.. شاعر سوداني شاب يضع نفسه في "سيلفي" مع المذيعة الحسناء ريان الظاهر باستخدام "الفوتشوب" ويعرض نفسه لسخرية الجمهور    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    مصر والأزمات الإقليمية    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية: دمج جميع القوات الأخرى لبناء جيش وطني قومي مهني واحد اساسه القوات المسلحة    الولايات المتحدة تختبر الذكاء الاصطناعي في مقابلات اللاجئين    الخليفي يهاجم صحفيا بسبب إنريكي    أسطورة فرنسا: مبابي سينتقل للدوري السعودي!    عقار يلتقي مدير عام وحدة مكافحة العنف ضد المرأة    الداخلية السعودية تبدأ تطبيق عقوبة "الحج دون تصريح" اعتبارًا من 2 يونيو 2024    كرتنا السودانية بين الأمس واليوم)    ديمبلي ومبابي على رأس تشكيل باريس أمام دورتموند    ترامب يواجه عقوبة السجن المحتملة بسبب ارتكابه انتهاكات.. والقاضي يحذره    محمد الطيب كبور يكتب: لا للحرب كيف يعني ؟!    مصر تدين العملية العسكرية في رفح وتعتبرها تهديدا خطيرا    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    دبابيس ودالشريف    رسميا.. حماس توافق على مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حلايب: ماذا دَارَ في اجتماعِ المحجوب وعبد الناصر يوم 19 فبراير 1958؟ .. بقلم: د. سلمان محمد أحمد سلمان
نشر في سودانيل يوم 25 - 01 - 2014

وصلتني عشرات الرسائل والمكالمات الهاتفية بعد نشر مقالي الأخير بعنوان: "حلايب: هل الهروبُ من المستحقّاتِ الداخليّة مصريٌ أم سوداني؟"، وبعد استضافتي في برنامج الصحفي الحصيف الأستاذ الطاهر حسن التوم "حتّى تكتملَ الصورة" الأسبوع الماضي عن "الصراع الإثيوبي المصري وتجلياته على قضيتي حلايب والفشقة." وقد طلب مِنّي عددٌ من هؤلاء القرّاء والمشاهدين إلقاء مزيدٍ من الضوء على الخلفيّات السياسيّة لاجتماع السيد محمد أحمد محجوب، وزير الخارجية السوداني، بالرئيس المصري السيد جمال عبد الناصر حول حلايب في يوم 19 من شهر فبراير عام 1958، وعن تفاصيل ونتائج وتداعيات ذلك الاجتماع، وموقف الأحزاب السياسية السودانية وقتها من قضية حلايب.
عليه فسوف نحاول في هذا المقال الإجابة على هذه التساؤلات.
2
تشكّلتْ أوّلُ حكومةٍ وطنيةٍ سودانية في شهر يناير عام 1954برئاسة السيد إسماعيل الأزهري بعد فوز الحزب الوطتي الاتحادي في الانتخابات البرلمانية التي جرتْ في شهر نوفمبر عام 1953. وقد شملت تلك الانتخابات منطقة حلايب والتي فاز في دائرتها (الدائرة 70) السيد محمد كرار كجر. كما جرت الانتخابات في القرى التي كانت تقع شمال وادي حلفا وخط 22 شمال (وشملت قرى سره وفرس ودبيره وأرقين والتي كانت تُعرف ب "نتوء حلفا") والتي فاز في دائرتها (الدائرة 74) السيد محمد نور الدين.
لم تُثِرْ مصرُ أو تحتج على مسالةِ إجراء الانتخابات السودانية في دائرة حلايب وفي قرى شمال حلفا، أو تزعم أنها أراضي مصرية، أو حتى أراضٍ متنازعٍ عليها. ساد ذلك الصمت رغم أن مصر كانت في ذلك الوقت إحدى دولتي الحكم الثنائي الاستعماري للسودان (على الأقل من الناحية النظرية)، ورغم وجود السيد حسين ذو الفقار كممثلٍ لمصر في السودان ومستشارٍ للحاكم العام حتى نهاية شهر ديسمبر عام 1955.
3
في 19 ديسمبر عام 1955 قرّر البرلمانُ السوداني إعلانَ استقلال السودان رسمياً في الفاتح من يناير عام 1956. كانت دولتا الحكم الثنائي (انجلترا ومصر) أول دولتين تعترفان باستقلال السودان.
لم تحمل مذكرة الاعتراف المصري باستقلال السودان أي إشارةٍ إلى منطقة حلايب أو تبعيّتها لمصر، ولم تتضمّن المذكرة أي شروطٍ لذلك الاعتراف. وهكذا جاء الاعتراف المصري باستقلال السودان بحدوده عام 1956 التي تشمل حلايب ونتوء حلفا، دون أي شرطٍ أو قيد.
4
ولا بد من مقارنة الصمت المصري عن حلايب بإثارة إثيوبيا مسالة منطقة قامبيلا التي كانت تحت إدارة السودان وقتها. فقد طلبت الحكومة الإثيوبية من حكومة السيد الأزهري إعادة المنطقة إلى إثيوبيا قبل أن تقوم الحكومة الإثيوبية بالاعتراف باستقلال السودان. وقد قامت حكومة السيد الأزهري بإعادة منطقة قامبيلا إلى إثيوبيا في أول يناير عام 1956. وتمّ في ذلك اليوم إنزال العلمين الإنجليزي والمصري، ورُفِعَ العلم السوداني لدقائق ثم تمّ إنزاله. ثم رُفِعَ العلم الإثيوبي، وتمّ تسليم المنطقة للحاكم الإثيوبي الجديد وطاقمه الإداري وفرقته العسكرية.
وقد قامت حكومة السيد الأزهري بتعيين السيد حامد بشرى والذي كان وقتها مأمور منطقة قامبيلا قنصلاً للسودان في منطقة قامبيلا في نفس ذلك اليوم، الأول من يناير عام 1956. وقد تمّ تعيين القنصل السوداني لقامبيلا حتى قبل إنشاء وزارة الخارجية السودانية وتعيين السيد مبارك زروق كأول وزيرٍ سودانيٍ لها. وقد قامت إثيوبيا بالاعتراف بدولة السودان المستقلّة في ذلك اليوم بعد أن تمّ حسم قضية منطقة قامبيلا.
زار السيد إسماعيل الأزهري منطقة قامبيلا مع السيد هيلاسيلاسي امبراطور إثيوبيا في مارس عام 1956، وتمّ تاكيد تبعيّة المنطقة لإثيوبيا. في ذلك الوقت تواصل تأكيد تبعيّة منطقة حلايب للسودان بتعيين إداريين سودانيين لها، وبإرسال أول فرقة عسكرية للمنطقة في شهر مارس عام 1956.
5
في شهر يونيو عام 1956 حدث الانقسام الكبير في الحزب الوطني الاتحادي وبَرَزَ حزبُ الشعب الديمقراطي تحت رعاية السيد علي الميرغني. وضمَّ الحزبُ الجديد عدداً من قيادات الحزب الوطني الاتحادي شملت السادة علي عبد الرحمن، وميرغني حمزه، ومحمد نور الدين، ومحمد أحمد أبوسن، وحماد توفيق، وأمين السيد.
في يوليو عام 1956، أي بعد شهرٍ من الانقسام، تحالف حزب الشعب الديمقراطي مع حزب الأمة وسقطت حكومة الأزهري لتحلَّ محلّها حكومة السيدين (السيد عبد الرحمن المهدي راعي حزب الأمة، والسيد علي الميرغني راعي حزب الشعب الديمقراطي). ترأّس الحكومة الجديدة السيد عبد الله خليل وأصبح السيد محمد أحمد محجوب وزيراً للخارجية. وانتقل السيد إسماعيل الأزهري وما تبقّى من حزبه إلى المعارضة.
رغم عدم الاستقرار السياسي الذي ساد السودان في تلك الفترة فقد ظلّت حلايب تحت الإدارة السودانية حتى عام 1958 بطريقةٍ سلميةٍ وهادئةٍ ودون نزاعٍ أو احتجاجٍ مصري، كما كانت منذ عام 1902. وقد تأكّدت تبعيّة حلايب للسودان من خلال إجراء الانتخابات السودانية عام 1953، وعدم تعرّض مصر لحلايب في مذكرة اعترافها باستقلال السودان في الفاتح من يناير عام 1956، ومن خلال تعيين السودان للإداريين وإرسال وبقاء الجيش السوداني في حلايب منذ مارس عام 1956.
فما الذي جَدَّ في شهري يناير وفبراير عام 1958؟
6
بدأت في شهر يناير عام 1958 الاستعدادات في السودان للانتخابات البرلمانية الثانية.
قرّرت مصر فجأةً ولأوّلِ مرّة إثارة مسألة مثلث حلايب في 29 يناير عام 1958. في ذلك اليوم أرسلت الحكومة المصرية مذكرةً تحتجّ فيها على نيّة السودان عقد انتخابات في منطقة حلايب باعتبار أنها تتبع لمصر بموجب اتفاقية الحكم الثنائي لعام 1899. وقامت مصر بإرسال فرقةٍ عسكريةٍ إلى منطقة حلايب بعد إرسال تلك المذكرة. وأعقبتْ مصرُ تلك المذكرة بمذكرةٍ أخرى في 9 فبراير عام 1958 تُعلن فيها نيّتها إجراء استفتاء الوحدة مع سوريا في تلك المنطقة أيضاً.
أعلن السودان رسمياً في 13 فبراير عام 1958 رفضه التام للمذكرة المصرية وللاستفتاء الذي قرّرت مصر إجراءه في حلايب. وأعلن السودان أن المنطقة أراضي سودانية بمقتضى تعديلات اتفاقية الحكم الثنائي والتفاهمات التي تلتها، وبحكم الإجراءات العملية والإدارية التي قام بها السودان في المنطقة خلال فترة الحكم الثنائي وسنوات الحكم المدني الأول (أي بين الأعوام 1902 وحتى عام 1958).
غير أن حكومة السيد عبد الله خليل لم تكن تتحدّث بصوتٍ واحد في مسألة حلايب. فقد قرّر السيد رئيس الوزراء عبد الله خليل اتخاذ موقفٍ متشدّدٍ من القضية، بينما كان شركاؤه في الحكومة من حزب الشعب الديمقراطي يتحدثون عن العلاقة الوطيدة والأزلية مع مصر، وضرورة حلِّ الخلاف بالتفاوض و"تفويت الفرصة على الامبريالية العالمية والاستعمار" كما ظلّ الشيخ علي عبد الرحمن والسيد محمد نور الدين يردّدان ويصرّحان لوكالات الأنباء والصحف. وقام السيد الأزهري رئيس الحزب الوطني الاتحادي بإرسال رسالةٍ إلى الرئيس عبد الناصر لتأكيد علاقات الاخوّة بين البلدين وضرورة حل الخلاف بصورةٍ ودّية وأُسريّة. غير هذا فقد لزم الحزبُ الصمتَ.
7
إزاء هذا الارتباك في قضية حلايب داخل حزبي الحكومة السودانية قرّر السيد عبد الله خليل إرسال وزير خارجيته السيد محمد أحمد محجوب إلى القاهرة.
في 18 فبراير عام 1958 وصل السيد المحجوب القاهرة. قابله نظيره المصري في المطار وأخبره أن الحكومة المصرية سوف تستضيفه في قصر الطاهرة. اعتذر المحجوب موضّحاً أن إقامته في القاهرة لن تطول. يبدو ان المحجوب كان يعي جيداً أن كل صغيرة وكبيرة في قصر الطاهرة مرصودةٌ. من المؤكّد أن المحجوب تذكّر تجربة صديقه وزميله الوزير خضر حمد الذي وقع في شباك الأمن المصري عام 1955 عندما كان يقيم في قصر الطاهرة ضيفاً على الحكومة المصرية، وحاول عمل صورٍ من قصيدة الشاعر الأستاذ أحمد محمد صالح "إلى نجيب في عليائه."
التقى وزير الخارجية محمد أحمد محجوب بالرئيس جمال عبد الناصر منتصف نهار يوم 19 فبراير عام 1958. كان عبد الناصر ودوداً ومهذباً مع المحجوب، وظلّ يخاطبه خلال الاجتماع ب "الأخ محجوب." عرض الرئيس عبد الناصر على السيد المحجوب مقترح ألّا تُجرى انتخاباتٌ سودانيةٌ أو استفتاءٌ مصريٌ في حلايب، وأن تناقش الدولتان مسألة حلايب بعد الانتخابات والاستفتاء. غير أن المحجوب رفض ذلك الحلَّ الوسط وأوضح للرئيس عبد الناصر تبعيّة حلايب للسودان دون شرطٍ أو قيد. تواصل اجتماع المحجوب مع الرئيس جمال عبد الناصر حتى نهاية ذلك اليوم، ولكنّ الطرفين فشلا في حلّ النزاع من خلال التفاوض.
8
في حوالى الساعة الخامسة عصر ذلك اليوم أوضح السيد المحجوب للرئيس عبد الناصر أنه حاول الاتصال هاتفياً ببعثة السودان للأمم المتحدة في نيو يورك، لكن يبدو أن الأمن المصري يقف في طريق تلك المكالمة. ابتسم الرئيس عبد الناصر وسأل المحجوب إن كان لدى السودان الإمكانيات للتنصّت على المكالمات الهاتفية، وعرض عليه تدريب سودانيين في مصر للقيام بتلك المهمة. شكره المحجوب وأخبره أن السودان يملك تلك الإمكانيات ويقوم فعلاً، مثل مصر، بالتنصّت على المكالمات التي يعتقد أنها تهدّد أمنه.
أخذ الرئيسُ عبدالناصر السيدَ المحجوب إلى مكتب مجاور وسلّمه سماعة الهاتف وهمّ بالخروج. غير أن المحجوب طلب منه البقاء قائلاً "سيخبرك رجال الأمن المصري بمضمون المكالمة لاحقاً فلماذا لا تسمعها أنت بنفسك مباشرةً مني الآن؟" بعد قليلٍ من التردّد بقي الرئيس عبد الناصر في نفس المكتب مع السيد المحجوب.
رفع المحجوب سماعة الهاتف وعندما تمّ توصيله بالمندوب الدائم للسودان في الأمم المتحدة في نيو يورك ذكر المحجوب في تلك المكالمة كلمةً واحدةً فقط باللغة الانجليزية وهي:
Release
وترجمتها "إطلق." ثم أعاد المحجوب السماعة إلى مكانها وسط دهشة الرئيس عبد الناصر. بعدها بقليلٍ غادر المحجوب قصر القبة إلى سفارة السودان بالقاهرة ثم إلى منزل السفير، ومنها صباح اليوم التالي إلى الخرطوم.
وهكذا انتهت زيارة المحجوب إلى القاهرة بالفشل التام في حسم نزاع حلايب ودياً وسلمياً. ووضح فشل الزيارة في عدم اشتمالها على دعوة العشاء التقليدية من مصر ورئيسها ووزير خارجيتها للسيد وزير خارجية السودان الذي كان في زيارة رسمية للقاهرة، والذي كان يُفترض أن ينزل في ضيافة الحكومة المصرية في قصر الطاهرة.
غير أن ذلك الاجتماع كان من الاجتماعات المصرية السودانية القليلة التي اتسمتْ بالندّية الكاملة بين طرفي الاجتماع، والاحترام التام للجانب السوداني من الجانب المصري.
9
في 20 فبراير عام 1958 رفع السودان شكوى رسمية لمجلس الأمن الدولي في نيو يورك. كانت كلمة "إطلق" التي اشتملتها مكالمة السيد المحجوب الهاتفية لسفير السودان في نيو يورك كلمة سرٍّ اتفق المحجوب مع سفيره أنها تعني تسليم شكوى السودان ضد مصر بخصوص حلايب إلى مجلس الأمن الدولي إذا فشلت مفاوضاته مع الرئيس عبد الناصر. كان المحجوب يعرف أن مكالماته في القاهرة سيتمُّ التّنصّتَ عليها لذا احتاط لذلك الأمر.
اجتمع مجلس الأمن في 21 فبراير عام 1958، ووقتها تراجعتْ مصر، بناءاً على بيانٍ تلاه مندوبها السيد عمر لطفي، عن قرارها بعقد الاستفتاء، وسمحتْ في نفس الوقت للسودان بإجراء انتخاباته في حلايب. كما أعلنت مصر سحب فرقتها العسكرية من المنطقة. عليه فقد قرّر مجلس الأمن حفظ شكوى السودان والاجتماع لاحقاً بناءاً على طلب أيٍ من الطرفين وموافقة أعضاء المجلس.
وقد تمّ سحب الوحدة العسكرية المصرية بالكامل من حلايب، وبقيت الوحدة العسكرية السودانية هناك بمفردها كاملةً. وتمّ أيضاً إجراء الانتخابات السودانية في موعدها وفي كل أرجاء حلايب، ولم يتم إجراء الاستفتاء المصري هناك. وقد ظلّت حلايب سودانيةً وباعترافٍ مصريٍ كامل حتى عام 1992 حين قامت مصر باحتلالها، متنصّلةً عن كل وعودها والتزاماتها القانونية والأخلاقية وعلاقات الود والإخاء مع السودان.
10
لماذا قرّرت مصر في 21 من شهر فبراير عام 1958 الانسحاب التام من حلايب؟ هناك في رأيي أربعة أسبابٍ لذلك الانسحاب:
أولاً: كما ذكرنا من قبل فقد كان في ذهن الرئيس عبد الناصر ومستشاريه مشروع بناء السدِّ العالي وترحيل أهالي حلفا عندما قرّروا الانسحاب من حلايب في فبراير عام 1958. فلم يكن منطقياً دبلوماسياً ولا عملياً أن تتمسّك مصر باحتلال حلايب وتطالب السودان بإغراق حلفا وقراها بعد ذلك من أجل قيام السدِّ العالي. عليه فقد قرّرت مصر النظر إلى الصورة الكبرى والانسحاب من حلايب على أمل مواصلة السودان لموافقته على قيام السدِّ العالي وإغراق مدينة حلفا و27 من القرى حولها و200,000 فدان من الأراضي الخصبة. وهذا بالضبط ما حدث عندما وقّعت حكومة الفريق إبراهيم عبود على اتفاقية مياه النيل في 8 نوفمبر عام 1959، ووافقت على إغراق منطقة وادي حلفا وقراها والترحيل القسري لحوالى خمسين ألف من النوبيين السودانيين.
بل إن مصر وافقت على ترحيل القُرى الأربعة (سره وفرس ودبيره وأرقين) التي كانت تقع شمال خط 22 شمال مع القرى السودانية الأخرى إلى منطقة خشم القربة، وليس مع النوبيين المصريين. وقد نسف ذلك الترحيل وموافقة مصر عليه إدعاء مصر بقدسية خط 22 شمال كفاصلٍ حدوديٍ بين البلدين.
ثانياً: كانت مصر تخشى إنْ تمسّكتْ بموقفها من حلايب أن يعطي ذلك التمسّك كرتاً رابحاً يكسب به حزب الأمة الانتخابات البرلمانية ذلك الشهر على حساب حلفاء مصر في السودان - حزبي الشعب الديمقراطي والوطني الاتحادي. عليه فقد كان السبب الثاني هو مساعدة هذين الحليفين المصريين في الانتخابات. فحلم وحدة وادي النيل كان لا يزال حيّاً في أعماق عبد الناصر، خصوصاً بعد الوحدة مع سوريا، وهذان الحزبان كانا ما يزالان في ذلك الوقت أملَ مصر في تحقيق وحدة وادي النيل.
ثالثاً: كان عبد الناصر ومستشاروه يعرفون جيداً ضعف الموقف القانوني والسياسي المصري تجاه حلايب، ويخشون أن يصدر قرارٌ من مجلس الأمن يطالب مصر بالانسحاب من حلايب كما كان متوقعاً. لذا فقد قرّر عبد الناصر استباق الأحداث وعدم إعطاء السودان أرضيّةً قانونيةً إضافيةً في نزاع حلايب. ويبدو أن مندوب مصر في مجلس الأمن قد أوضح لحكومته التعاطف الكبير في مجلس الأمن مع السودان في قضية حلايب، وحذّرها من نتيجة الاجتماع.
رابعاً: كان الدخول في حربٍ مع السودان سيعني هزيمة كبيرة لمشروع وحلم عبد الناصر لتوحيد العالم العربي تحت قيادته. إذ كيف يعقل أن يتحدّث عبدالناصر عن وحدة العالم العربي وهو يدخل في حربٍ مع جاره وضدّ من يدّعي أنهم أشقاؤه وعمقه الأمني والاستراتيجي؟ أليست إسرائيل هي الجديرة بالحرب بدلاً من السودان، كما ظلّت إذاعة "صوتُ العرب من القاهرة" تكرّر كل مساءٍ في تلك السنوات؟
لهذه الأسباب انسحبت مصر من حلايب عام 1958. لكنها عادت لاحتلالها عام 1992، بعد عشرين عاماً من اكتمال السد العالي، وثلاثة أعوام من انقلاب الإنقاذ.
11
كما ذكرنا من قبل فقد أنْستْ الاحتفالاتُ والابتهاجُ بالانسحاب المصري من حلايب السيدَ محمد أحمد محجوب – القانوني الكبير والضليع – والسيد رئيس الوزراء، وحكومتهما أن يؤطِّروا ذلك الانسحاب في اتفاقٍ متكاملٍ حول حلايب مع مصر. وحتى على افتراض احتمال رفض مصر لذلك الاتفاق فقد كان من الممكن تضمين النتائج في مذكرة تفاهمٍ من الحكومة السودانية للحكومة المصرية تعكس ما دار في مجلس الأمن في 21 فبراير عام 1958، وتفسير السودان له.
لقد أصبح ذلك الخللُ أحدَ الثغرات التي استغلتها مصر وعادت من خلالها لاحتلال حلايب عام 1992، ولإعلان ضمّها رسمياً لمصر عام 1995.
12
ظلّتْ التصريحات والمقالات الصحفية والأفعال الاستفزازية المُشِيرة إلى تبعيّة حلايب لمصر، والتهديدات للسودان، تصدرُ من كلِّ ألوان الطيف السياسي والأكاديمي والصحفي والشعبي في القاهرة خلال الأسبوعين الماضيين. كان آخر تلك الأفعال الاستفزازية هي توجّهُ وفدٍ شعبيٍ مصريٍ للمرّة الأولى إلى منطقة حلايب، وعقده مؤتمراً من هناك، وذلك لتأكيد السيادة المصرية على حلايب. وقد ضمّ الوفد نواباً من عدّة محافظاتٍ مصرية وشمل مجموعةً من ممثلي عدّة قبائل مصرية قادمة من محافظات الصعيد والبحر الأحمر وسيناء والإسماعيلية وبورسعيد ومطروح وغيرها. وكان من بين أعضاء الوفد نوابٌ ومسئولون سابقون، وعمدٌ ومشايخ.
وقد أشارت وكالات الأنباء المصرية إلى أن وفداً نسائياً مشابهاً في تكوينه سيقوم بزيارة حلايب في الأيام القادمة لتأكيد السيادة المصرية عليها.
13
ما هي ردّة الفعل في السودان من جانب الحكومة والمعارضة لهذه الاستفزازات المصرية؟
ظلّ الصمتُ هو سيدُ الموقف الحكومي، عدا شذراتٍ من بعض صغار المسئولين تتحدّث بصوتٍ خافتٍ وفي حياءٍ كبير عن العلاقات الأزلية بين الشعبين المصري والسوداني، وأنه يجب ألا يسمح الأشقاءُ بما يعكّر صفو تلك العلاقة.
ورغم أن السيد وزير الخارجية كان قد حدّثنا في الماضي عن إحالة الخلاف إلى "الجهات العدلية" (والتي لم يخبرنا من هي، ومن أحال الخلاف إليها، وما هي مرجعيتها؟) إلا أنه لزم الصمت الكامل هذه المرّة. وتوقّف الحديث بصورةٍ تامةٍ حتى عن التحكيم، أو عن جعل حلايب منطقة تكاملٍ بين البلدين، أو إعادة الخلاف إلى مجلس الأمن بمقتضى قراره في 21 فبراير عام 1958.
تُرى هل هناك علاقةٌ لهذا الصمت بمحاولة اغتيال الرئيس السابق حسني مبارك وتورّط بعض قادة الإنقاذ في تلك المحاولة؟
14
ولا يختلف الحال داخل أحزاب المعارضة السودانية التي لزمت بدورها الصمت التام أيضاً.
شمل هذا الصمت الحزب الذي قاد استراتيجية فبراير عام 1958 والتي أعادتْ حلايب كاملةً للسودان، رغم غرام وولع الحزب وقيادته في السنوات الأخيرة بالمبادرات المحلية والإقليمية.
وشمل الصمت أيضاً أصدقاء وحلفاء مصر في السودان، والذين ما يزالون يحتفظون بصفة "الاتحادي" في إسم حزبهم رغم مرور قرابة الستة عقود على موت مشروع وحدة وادي النيل.
أما التكامل في منطقة حلايب والذي كان يتحدث عنه في الماضي أصدقاءُ مصر في السودان فهو يحتاج إلى الطرفين، ولن يستطيع هؤلاء الأصدقاء الدعوة له (أو حتى الحديث عنه) في وجه الرفض المصري الحازم والحاسم.
تُرى هل هذا الصمتُ التام هو أحدُ تداعياتِ الإقامةِ الطويلةِ للمعارضةِ السودانية في القاهرة في تسعينيات القرن الماضي وبداية هذا القرن؟
[email protected]
www.salmanmasalman.org


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.