مما لا ريب فيه، أنّ الأخ الصديق كمال إبراهيم سليمان أحمد، الذي أُشتهر بين الناس بكمال ترباس، يُشكِّل حضوراً بارزاً في خارطة الغناء السوداني. ويُعتبر ترباس بحقٍّ وحقيقةٍ في نظر الكثيرين، أنه سيد الغناء الشعبي في السودان، ولكنه زاوج بين الغناء الشعبي والغناء الحديث، وذلك من خلال ما أدخله من أدواتٍ وآلاتٍ موسيقيةٍ حديثةٍ، أسهمت إسهاماً فاعلاً في إبراز أُغنياته، ومِنْ ثِمَّ أعطت بُعداً جديداً للأغنيةِ السودانيةِ. فإني أحسبه صدقاً، كروان السودان. فالكروان هو طائرٌ جميلُ الصَّوتِ، مهاجرٌ يعيش قرب الأنهرِ والشواطئ، له صوتٌ حسنٌ رخيمٌ، يتفاءل به الناس في الصّباح. وأحسبُ أنّ ترباسَ من يتفاءل به الناسُ طرباً وتطريباً، ويعجبني أنه يضع نفسه في مقامٍ عالٍ، ومكانةٍ سامقةٍ من خلالِ تَرَفُّعِهِ عن الصّغائر، وتقديمه لأعمالٍ غنائيةٍ تحملُ مضامينَ اجتماعيّة. فيكفيه أنّه من القلائل – إن لم يكن الوحيد - الذي تغنَّى بمآثرَ ومحاسنَ الأمِّ والأبِ معاً. فقد كُتِبَت أشعارٌ في هذه المعاني والمضامين، ولكنّها لم تجد القَبُوْلَ والذُّيوع كالذي حدث في أشعارٍ تغنى بها ترباس، ذات مضامين اجتماعية ومفاهيم إنسانية. من منَّا لم يطرب أو تغشاه لحظة حزنٍ، واغرورقت عيناه بالدموع، وهو يستمعُ إلى كروان السودان يصدحُ بكلماتِ الأخ الصديق الشاعر التِّجاني حاج موسى: أمي.. الله يسلمك.. ويديك لي طول العمر .. وفي الدنيا يوم ما يألمك.. أمي الله يسلمك.. وبعضهم لا يتمالك نفسه طرباً وحزناً في آنٍ، عندما يسمع ترباسَ يُردد هذا المقطع من تلكم الأغنية: أمي يا دار السلام يا حصني لو جار الزمان ختيت في قلبي اليقين يا مطمناني.. بطمنك أمي.. الله يسلمك.. وأظنُّ - وليس كلُّ الظنِّ إثماً - أن الشاعر والمغني استوحيا بهذه الكلمات الطيبات عن الأم، الحديث النبوي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي قال أمك قال ثم من قال ثم أمك قال ثم من قال ثم أمك قال ثم من قال ثم أبوك". ولقد وجد الأخ الفنان الكبير كمال ترباس في شعرِ عبد العال السيد، ما يوافق معنى ذاكم الحديث النبوي في حسن الصّحبة، إذ أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بحسن الصُّحبة للأم ثلاث مرات، وأفرد واحدةً للأبِ. فلا غروَ أن تغنى ترباس للأبِ أيضاً، حيث قال معنىً وتطريباً: أبوي الطيب الإنسان ويا دراق سيوف الهم حنين كلك سماحة وفأل وفيكا مهابة الأبطال والقلب الكبير يا يابه فيه براءة الأطفال ملان حنيه يا يابه وإرادة تفتت الصخره وعامرة ديمة بالإيمان وزي الوادي في الصحرا.. ومن الجميل الذي تغنى به كمال ترباس، وحمل مضامين وفلسفة حياتية يتأسى بها الناسُ كثيراً، عندما يمرون بظروف قاسيات، فيخفف عنهم طرباً ومعنىً، عندما يردد في أغنيته الشهيرة: ما تهتمو للأيام.. ظروف بتعدي طبيعة الدنيا زي الموج تجيب وتودي ما تهتمو للأيام وفي رأيي الخاص، أن الأخ كمال ترباس قد فُهم في كثيرٍ من الأحايين خطأً، وفُسِّرت بعض عباراته التي قصد منها الطُّرفة واللطافة، بمعانٍّ لم تخطر بباله، من ذلك أنّ البعض يُردد زوراً وبُهتاناً أنّ ترباسَ عندما سألوه أنّ سعر حفلاته لجَدُّ باهظة، فقال وهو يُنكر ذلك جملةً وتفصيلاً "ترباسُ.. لمن استطاع إليه سبيلا"، وذهب البعض إلى أنّه بذلك القول يضع مقاربةً مع الحجِّ الذي هو ركنٌ ركين من أركان الإسلام الخمسة، ولكن أقولُ لتأصيل هذه المقولة التي نفاها أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبةٍ، أنه لا ينبغي أن تُحمَّل هذا المحمل الخطير، بل يجب أن تُفهم فهماً تأصيلياً يهدف إلى تأكيد أنّ الأمرَ عسيرٌ على البعض، فلا يكلف نفسه، مشقةً في الوصول إليه، وهذا يعرف في الفقه بباب المقاربات لا المقارنات. وترباسُ يُقيِّم نفسه تقييماً يضبط مضابطه، وفقاً لتنزيل نفسه مكانتها المستحقة، وكأنّه عندما يقول في إحدى أغنياته الرائعات "أنت المهم والناس جميع ما تهمني"، يقصد بذلك نفسه الأبية التي تسمو على الصّغائر وتهفو إلى العظائم. وأحسب أنّ زيارتي إلى بورتسودان مؤخراً؛ لحضور ختام فعاليات مهرجان السياحة والتسوق في ولاية البحر الأحمر، بدعوةٍ كريمةٍ من الأخ الصّديق الدكتور محمد طاهر إيلا، والي ولاية البحر الأحمر، للمشاركة في تلكم المناسبة الطيبة التي شهدها الأخ الرئيس عمر البشير، وضيفه الكريم الرئيس التّشادي إدريس ديبي، أتاحت لي أنّ أُجددَ ذكريات الطفولة والصبا، وذلك ما قلتُه لرسلائي محمد عبد القادر والطاهر ساتي، من أنّهما عرفا ترباس بأخرةٍ، بينما عَرَفْتُه وأنا تلميذٌ في المرحلة الثانوية العامة، فهو ابن بلدتي كسلا، وكان رفيقاً رقيقاً مع أهليه وأصدقائه، خاصة الأخ الراحل فنان كسلا الشهير إبراهيم منصور- تنزلت عليه شآبيب الرحمة والغفران- فأحسبُه طرب لحديثي ذاك، وحَزُن عند تذكر صديق عمره إبراهيم منصور، وكاد يُردِّد في تلكم الجِلسة قول أبي علي الحسن بن العباس، المعروف بابن الرومي: بكاؤكُما يشْفي وإن كان لا يُجْدي فجُودا فقد أوْدَى نَظيركُمُا عندي بُنَيَّ الذي أهْدَتْهُ كَفَّايَ للثَّرَى فَيَا عِزَّةَ المُهْدَى ويا حَسْرة المُهدِي ألا قاتَل اللَّهُ المنايا ورَمْيَها من القَوْمِ حَبَّات القُلوب على عَمْدِ أخلصُ إلى أنّ رحلتي الأخيرة إلى بورتسودان، أتاحت لي فرصَ معرفةَ الوجه الآخر للأخ كمال ترباس، بعيداً عن الطرب والتّطريب، وقد تحلقنا حوله، في مجلس مؤانسة ليلي، والنَّاسُ نيام في فندق كورال بالمدينة، إذ لم تقتصر معرفتي بالوجه الآخر للأخ ترباس، بل عرفت أيضاً وجهاً آخر، لكلٍّ من الأخ الفريق طه عثمان مدير مكتب السيد الرئيس، والأخ اللواء مرتضى مختار قائد الحرس الخاص للسيد الرئيس، الذي سرى بيني وبينه سوء فهمٍ، فأزالته تلكم الجلسة التي كان نجمها الأخ كمال ترباس، يُضحكنا بقفشاته وطُرفه، كما أطربنا بأغنياته، فالجميلُ في هذه الرحلات أنّها تُوثق عرى الصداقة والمودة والإخاء بين المشاركين في فعالياتها، فلا غَرْوَ أن عرفنا بعض ما جهلنا من هؤلاء النَّفر الطَّيب، وتعارفنا على خصال بعضنا البعض. ولنستذكر في هذا الصّدد، قول الله تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ". وقول الشاعر العربي زهير بن أبي سُلمى: وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مَنْ خَلِيقَةٍ وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ وَكَاءٍ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِبٍ زِيَادَتُهُ أَو نَقْصُهُ فِي التَّكَلُّمِ لِسَانُ الفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ فَلَمْ يَبْقَ إَلا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ