تتملكني دهشة طاغية كلما شهدتُ قدوم فصل (أو بالأحرى معجزة) الربيع في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، وفي سان فرانسيسكو هذه المرة. بعد صخب الألوان في الخريف، وأحمرار واصفرار ثم ذبول أوراق الأشجار، تدخل معظم النباتات في بيات شتوي طويل، عارية الغصون بعد أن نزعت عنها أوراقها وأزاهيرها وثمارها، يابسة وشاحبة شحوب الموت ويباسه، وكأنها تحبس أنفاسها في انتظار الربيع. تبدأ الحياة تضج في سكون في عروق الأشجار والنباتات مع بداية الربيع، ثم تتفتق براعم تنمو على الأغصان الميتة وجذوع الأشجار، تستحيل إلى وريقات غضة تطل برؤوسها على استحياء خشية الصقيع قبل أن تتفجر الواحدة تلو الاخرى وفق برمجة جيناتها المتباينة، هامات من الخضرة الناعمة النضرة، والأزاهير عجيبة الألوان، تُعطر الهواء عند الصباح وفي الغسق، وتزيح غمّ الشتاء وكآبته وشحوبه. تذكرني خضرة الأشجار في الربيع دائماً بقول الشاعر الصحراوي في وصف اشجار حدائق قصر فرساي على مشارف باريس: "شجراً تقرَّض مِنُّو، تَملَّح مِنّو، وتسطل مِنُّو دون دخان، وتِتْحنّن!" غير أن ربيع جابر أفسد عليّ ربيع سان فرانسيسكو، إذ أن كتابه الأخير "طيور الهوليداي إنْ" أصابني بشئ من الاكتئاب رغم المتعة الخالصة من قراءته، ورغم أهازيج الربيع التي تصطخب من حولي وتملأ حواسي جميعها. ربيع جابر روائي وصحفي لبناني من مواليد 1972، لم أسمع به إلا العام الماضي. درس الفيزياء في الجامعة الامريكية في بيروت ونشر أول أعماله، "سيد العتمة"، في عام 1992 وهو في العشرين من عمره، وصدر آخر أعماله "طيور الهوليداي إن" في عام 2011، وصدر له بين هذين التاريخين نحو عشرون رواية. ولربيع جابر أسلوب عجيب في الكتابة واختيار أعجب لمواضيع رواياته. ففي "دروز بلغراد"، أول رواية قرأتها له، تدور أحداث الرواية (في القرن التاسع عشر) حول معاناة حنّا يعقوب، بائع البيض اللبناني المسيحي، الذي اختُطِف في مرفأ بيروت ونُفيَ مع عدد من الدروز إلى بلغراد شاركوا في قتل مسيحيين في لبنان إبّان أحد النزاعات الطائفية التي لا تنتهي. وفد فازت الرواية بجائزة (بوكر) العربية في عام 2012. أما روايته "أميرْكا" – كما ينطقها أهل سوريا الكبرى – فهي تأريخ للهجرات السورية/اللبنانية في بدايات القرن العشرين إلى الولاياتالمتحدة من خلال متابعة ستين عاما من حياة وكفاح ومعاناة (مارتا حداد) التي سافرت بمفردها إلى الولاياتالمتحدة بحثا عن زوجها. وفى «طيور الهوليداى إنْ» التي أفسدت عليّ بهجة ربيع سان فرانسيسكو، تدور الأحداث عن الحرب اللبنانية في بيروت، وعن تهجير المسيحيين اللبنانيين من مناطق مختلفة من بيروت إلى بيروت الشرقية، وتهجير المسلمين من بيروت الشرقية إلى بيروت الغربية. وتحكى الرواية عن الحرب الأهلية اللبنانية، وخاصة حرب الفنادق في وسط بيروت، من خلال حياة الأسر التي تسكن بناية أيوب فى حى العبد بالأشرفية، هذه البناية التى تسكنها تسعة عشرعائلة بعضها مُهجر من مناطق مختلفة من بيروت، وأخرى تركت البناية لتقطن مساكن أخرى حسب التقسيم الطائفى. ما أثار اكتئابي في طيور "الهوليداي إن" هو الطريقة "الهادئة" غير المباشرة، والفعّالة في الوقت نفسه، التي صوّر بها ربيع جابر عنف ووحشية وعبثية الحرب الأهلية اللبنانية في منتصف السبعينات، من خلال متابعته لحياة سكان بناية أيوب في بيروت الغربية، ولمعاناتهم وآمالهم وأحلامهم، ولإنسانيتهم بمحاسنها وعيوبها ودماملها. ولم أملك، وأنا أتابع سرد ربيع جابر الممتع إلا أن أتذكر حالنا وحروبنا المستعرة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق التي تبدو الحرب الأهلية اللبنانية بالنسبة لها، بكل دمويتها ودمارها وعبثيتها، اشبه بالنزهة. على الأقل كانت الفصائل اللبنانية المتحاربة تتفق على فترات هدوء ووقف للقتال لتمكن المدنيين من شراء الخبز، وكان مطار بيروت مفتوحا معظم الوقت، ومرافئ لبنان جنوبا وشمالا تُيسر الهجرة لمن أراد الفرار بجلده. "الشئ" بالشئ يُذكر: ماذا حلّ بربيعنا الذي كان، حتى حين قريب، قد ملأ الدنيا وشغل الناس، ناطقا غير رسمي (وإن زعم أنه مخوّل لإطلاق الحديث على عواهنه من جهة عليا لم يشأ أن يُخبرنا بها)، وناطقا عن الهوى، وأخرسا عن الحق؟ [email protected]