Hassan Elhassan [[email protected]] جمعتني بالسر قدور في القاهرة حقبة التسعينات عبر تواصل يومي بين نهار مكتب الإعلام الخارجي لحزب الأمة ومساءات جريدة الخرطوم بحي قاردن سيتي حيث كان السر يتولى قسطا كبيرا من عبء التحرير إلى جوار كوكبة الخرطوم النابهة ، الدينمو مزمل ، حيدر طه ، محمد المصطفى الحسن ، عوض ابو طالب – المرحوم وديع خوجلي – دسوقي – احمد عبد المكرم – ياسر - نجاة عبد السلام – سكينة كمبال ، فيصل محمد صالح وغيرهم من الزملاء ، بقيادة الأستاذ الراقي والرقيق فضل الله محمد والمدير العام متعدد المواهب والاشراقات الأخ الباقر أحمد عبد الله . . وغير جغرافيا المكان تلتقي خطانا في مربعات كثيرة فكلانا ينتمي إلي ذات المنطقة وذات التاريخ والانتماء والاهتمامات وهي رافعات إضافية كما هو معلوم في الثقافة السودانية . ولا يقل السر قدور شانا وعبقرية عن أهرامات ثقافية وإبداعية كبيرة في العالم العربي وهو المتمسك بثقافته وخبرته السودانية عرفه المبدعون في القاهرة ، المسرحيون والإعلاميون والفنانون والقصاصون والمطربون والشعراء والصحفيون والكتاب ورواد الطباعة والنشر وعشقته أزقة القاهرة ومقاهيها وشوارعها يطلق سخريته على الأشياء والأحياء ويدندن بكلمات أغنياته الجديدة في وسط البلد غير آبه للمندهشين من حوله من الأشقاء المصريين . غزير الطرفة عميق المعنى حاضر البديهة ساخر في تعليقاته ومختصراته . شخصية بهذه الخصوصية الإبداعية لو أنها ولدت على تراب بلد آخر لكانت محل أضواء كثيرة وكتابات متواترة وشيقة ورغم الجهد الذي يبذله بعض المهتمين السودانيين من زملاءنا الصحفيين والكتاب ، ككتابات الأخ فيصل محمد صالح الذي كان على مقربة من السر قدور في رحاب جريدة الخرطوم يوم كانت تصدر من القاهرة إلا أن هناك الكثير من الجهد الذي ينتظر المهتمين لاسيما مراكز الدراسات ودور النشر السودانية لإصدار سلسلة من تاريخ حياة الشخصيات السودانية من المبدعين في شتى المجالات لإنعاش ذاكرة الأجيال عبر إنعاش جماعي لذاكرة الوطن . عاصر السر قدور شخصيات سياسية تاريخية في الحركة السياسية السودانية لاسيما الديمقراطيتين الأولى والثانية و في ساحات حزب الأمة الصحفية والثقافية نال حظه من رعاية أفذاذ القادة وفي رحاب دار الصحف الاستقلالية خاصة صحيفة الأمة أمثال عبد الله بك خليل ، و حسن محجوب مصطفي ، زين العابدين حسين شريف – محمد آدم بن الخياط – شخصيات تولته بالرعاية وتعهدته بالتوجيه فوسع ذلك من مداركه وضاعف من نهمه للقراءة والتثقيف الذاتي وفجر في دواخله ينابيع الإبداع فازدهت به الحركة الفنية والمسرحية والغنائية والإذاعية في السودان حتى علا نجمه وسطع في سماء الإبداع . عرف السر قدور طريقه إلى ما كان يعرف بحوش الإذاعة فانضم إلى كوكبة المسرحيين الرواد والممثلين ككاتب ومؤدي في وقت مبكر. عمل مع عثمان حميدة «تور الجر» وعبد الوهاب الجعفري، عثمان اللورد، الفاضل سعيد، أحمد عاطف وإسماعيل خورشيد ومع دخول التليفزيون السوداني في الستينات دائرة البث ضاعف من نشاطه التمثيلي ومن كتاباته المسرحية وكتب عددا من النصوص المسرحية، منها مسرحية «المسمار» التي مثلها علي مهدي في الثمانينيات. يعتبر السر قدور من أبرز شعراء الأغنية وله أغنيات معروفة من التي رددها كبار المطربين السودانيين ومثالا لا حصرا من أشهر أغنياته الخالدة : الشوق والريد – يا صغير – أرض الخير التي يؤديها الكاشف ياريت – قمر باين – نسيم شبال – عيونك فيها شي يحير- الريد يجمع يفرق – لكمال ترباس حبيبي نحنا اتلاقينا مرة - للعاقب محمد حسن ، وغيرها من الأغنيات التي تعلق بلسان من يسمعها كلما ولحنا. ويروي السر قدور في احدى مقالاته قصة أغنية الشوق والريد يقول السر من أغنياتي التي قدمها الفنان الكاشف ثلاث أغنيات ارتبطت بمواقف طريفة الأولى كانت أغنية ( الشوق والريد ) وكان ذلك في بداية الستينات .. وكان الشعر الحديث قد أصبح موضة بين شباب الجيل الجديد وقد ظن أولئك أننا نحن الذين نكتب بالأسلوب التقليدي نعجز عن مجاراتهم في هذا الميدان ... فكتبت أنا عدداً من القصائد المرسلة بعضها بالفصحى وبعضها بالعامية .. وذات صباح كنت أجلس مع الفنان الكاشف في المحل المجاور لجريدة " صوت السودان " حضر إلينا المرحوم أحمد سنجر وهو يحمل صحيفة يومية ولوح بالجريدة في وجهي ثم شن علي هجوماً عنيفاً واتهمني بالعجز والتقليد الأعمى واستنكر أن أساهم في إفساد الشعر بهذه البدع .. ولكي يشارك الكاشف في النقاش طلب أن نقرأ له القصيدة وعندما قرأتها له دافع عنها دفاعاً مجيداً وقال أنها شيء جديد في شعر العامية . وهنا صرخ فيه العم سنجر .. طيب يا إبراهيم روح غنيها لو فالح .. وانتهى الجدل بهذا التحدي ومن الطريق إلى أم درمان ونحن في العربة طالب مني الكاشف أن أقرأ عليه القصيدة مرة أخرى .. وقرأتها ثم قرأتها مرتين وعندما وصلنا إلى جوار سينما أم درمان حيث أسكن أوقف العربة . وقبل أن أنزل قرأت له القصيدة للمرة الرابعة .. ثم وضع رأسه على عجلة القيادة وأسمعني القصيدة كاملة .. وقال لي مع السلامة .. وفي اليوم الرابع من هذا الموقف كان الكاشف يغني في حفلة ساهرة في المسرح القومي الأغنية الجديدة ( الشوق والريد ) إستجابة لتحدي صديقه الشاعر أحمد سنجر رحمهما الله . يضيف السر قدور إلى كل مجلس يشارك فيه طعما ومذاقا خاصا ولا يتواني في إطلاق تعليقاته الساخرة ، أذكر يوما انني قدمت مساءا إلى مقر جريدة الخرطوم أحمل أحد الموضوعات ووجدت مشادة ساخرة بين بين الأخ الباقر احمد عبدالله حول إعلان تهنئة بعيد الاستقلال فكان الباقر يقول للسر قدور إن الحزب الاتحادي الديمقراطي بعث لنا بإعلان تهنئة الاستقلال ولم نتلقى إعلانا مماثلا من مكتب حزب الأمة حتى الآن وكان السر أحد المشرفين على مكتب إعلام حزب الأمة فرد على الباقر قائلا بسخريته المحببة ولماذا نحن نعلن فنحن الذين صنعنا الاستقلال وأنتم كاتحاديين تهنوننا به فضجت صالة التحرير بالضحك . وللسر قدور طرائف كثيرة منها أنه كان يسير يوما مع صديق عمره المرحوم الشريف زين العابدين وبكري النعيم عبر شارع سليمان باشا وهما في طريقهما إلى شقة بكري في شارع أبوبكر خيرت وكان السر يتقدمهما وهو يدندن بإحدى أغنياته بطريقتة الخاصة التي يعتبرها البعض ضربا من العشوائية فنظر إليه أحد الأشقاء المصريين وهو يظن أن السر في طريقه برفقة الرجلين إلى إحدى عيادات الطب النفسي في ذلك الشارع فقال للأخ بكري ( ربنا يشفيه خدو بالكو منه ) فانفجر الجميع بالضحك من تعليق الأخ المصري وماتواتر من تعليقات السر بعد ذلك . كان السر كثيرا ما يحتفي بمقدم المرحوم الدكتور عمر نور الدائم إلى القاهرة وكانا كليهما يحتفيان بمقدم المرحوم الشاعر الزين الجريفاوي إلى القاهرة من الخرطوم وهو الاتحادي الفذ رفيق الشريف حسين الهندي منذ معارضة نظام نميري في مطلع السبعينات وقد اشتهر بقصائده وملاحمه النارية وهو من مدرسة الشريف زين العابدين الهندي في الشعر القومي . فكنا نتردد معا على الشاعر الجريفاوي في غرفته بوسط البلد في فندق عتيق ( سكرابيه ) حيث يلح الدكتور نور الدائم على الجريفاوي للاستماع إلى آخر قصائده المعارضة التي ينتقد فيها نظام الانقاذ في سنين بطشه الأولى . ورغم تواصل السر قدور مع الخرطوم عبر برنامجه السنوي المميز على قناة النيل الأزرق بعد تمدد ظلال الحرية إلا أنه يظل معلما وهرما سودانيا شامخا في سماء القاهرة بين أهلها وحواريها يزينها بابداعته واشرقاته وسخريته وهو يجسد تواصلا عمليا مع الأشقاء في مصر من المبدعين المصريين الذين تعلقوا بالسودان من خلال نوافذ السر قدور المشرعة كالشاعر المبدع أحمد فؤاد نجم والأصيل عبد الرحمن الأبنودي والمطرب المميز محمد منير وغيرهم من الفنانين و المبدعين والإعلاميين من الرواد في شتى المجالات . إن ما نحتاجه حقا في ظل انتشار شركات الإنتاج الإعلامي وتعدد القنوات الفضائية في بلادنا هو الالتفات والتنافس في إنتاج البرامج الوثائقية التي تسجل صورا من حياة هؤلاء المبدعين السودانيين من ساسة وشعراء وفنانين وأدباء وكتاب وصحافيين وغيرهم من الذين يشكلون بإبداعاتهم في شتى الميادين هوية وبطاقة السودان الثقافية ، أسوة بقنوات ووسائل إعلام الدول الأخرى التي تحتفي بمبدعيها وتتباهى بهم في فضاء العالم المفتوح.