تسليم البيك عبد الله خليل الحكم للمؤسسة العسكرية بقيادة الفريق إبراهيم عبود في عام 1958 ما زال حدثا حياً يثير الكثير من الاسئلة والمواقف المتباينة اتجاه الخطوة التي اتخذها وتداعياتها التي لا تزال ماثلة حتى أيامنا هذي. طالعت قبل عدة ايام مساجلة في ذات الصدد بين الدكتور عبد الله محمد قسم السيد والكتاب الصحفي المعروف النعمان حسن بخصوص دور البيك في تحمل ما آل اليه السودان نتاج هذه الخطوة غير المسبوقة في تاريخ السياسة السودانية. حمل الحوار قدرا من الرصانة وجهدا مقدرا من الطرفين في تثبيت البراهين التاريخية للحدث ومن ثم استخلاص كل منهما نتائجه التي تعزز من قيمة رأيه. وشخصيا أرى في افادات دكتور قسم السيد قدرا من العناية والمنهجية العلمية في تتبع المسار التاريخي للمرحلة التي "دفعت" أو "ارغمت" البيك لاتخاذ قراره التاريخي. ومع ذلك ففي تقديري، وهذا ما ساوضحه في قادم السطور، أن النتيجة التي استخلصها الدكتور لا ترقى الى مستوى الجهد البحثي الذي اختطه في مسار تحليله للواقعة التاريخية وذلك حين إتخذ رأيه منحىً يقينياً بأن ما فعله البيك وفقا لمعطيات الواقع السياسي وقتها هو ما يجب فعله، بل هو ما متوقع فعله من أي شخص في موقف البيك وقتها!. ولكن ما هو هذا الموقف وتلكم الظروف التي دفعت البيك لاتخاذ هذا الموقف؟ وهل حقا لم يكن في الامكان أبدع مما كان، كما تقول العبارة المحفوظة؟ في استطراد مطلوب يتطرق دكتور عبد الله للصعوبات التي واجهت حكومة البيك الائتلافية بين حزب الامة وحزب الشعب الديمقراطي بقيادة على عبد الرحمن، ومحاولة مصر المعادية لحكومة البيك وقتها في استثمار هذا التوتر للاجهاز عليها والاتيان بحكومة تناصر شعارات وحدة وادي النيل. ولما كان الانقسام حاصلا بين تيار وحدة وادي النيل، كان لا بد للحكومة المصرية من رتق الفتق اولا ومن ثم العمل على التخلص من حكومة البيك. في خطوة عمليه، تتبع مسارها الدكتور، استدعت الحكومة المصرية الحزبين المتصارعين (الوطني الاتحادي بقيادة الازهري والشعب الديمقراطي بقيادة الشيخ عبى عبد الرحمن) بغية تقريب وجهة النظر بينهم ومن ثم توحيدهم. وجد عبد الله خليل في هذه الخطوة تآمر حقيقي على السيادة السودانية من قبل دولة أجنبية هي مصر، ومن ثم قرر تسليم السلطة للجيش ليقوم ب"حماية" البلاد من خطر "الاستعمار" مجددا...وهذا ما يراه الدكتور عين القرار الصائب... أو على الاقل هذا ما تقوله هذه الاسطر التي اقتبسها من مقاله: " في هذا الجو السياسي الذي يهدد ليس الوضع الديموقراطي بل استقلال البلاد وسيادتها لم يكن أمام عبد الله خليل رئيس الوزراء إلا أن يسلم الحكم للجيش حتى يقوم بمهمة الدفاع عنها. بالتالي هذا التسليم والتسلم والذي سمي مجازا انقلابا عسكريا كان الهدف منه إنقاذ البلاد من خطر إعادة إستعمارها من جديد من مستعمرها السابق، قبل أن يكون إنقلابا عسكريا على وضع ديموقراطي خاصة أنه قد سرت إشاعة بأن مصر تخطط لتدبير إنقلاب عسكري في السودان يطيح بحكومة حزب الأمة. وكما يقول منصور خالد كان تسليم عبد الله خليل للسلطة للفريق عبود في هذا الظرف أكثر جدوى من الحفاظ على ديموقراطية لا يستحي بعض المشاركين فيها أن يقفوا ضد مصالح شعبهم. وحتى تخلق أزمة داخلية لحزب الأمة وفي فبرائر من عام 1958م ارسلت حكومة مصر خطابا الى حكومة السودان تعلن فيه سيادتها على اراضي سودانية شمال شرق السودان، شمال خط العرض 22 شمالا وهي المنطقة المعروفة بمنطقة حلايب و منطقة شمال مدينة حلفا، مناطق: سره، ودبيرة، وفرس. رفضت الحكومة السودانية ذلك الموقف المصري واعتبرته غزوا لأراضيها وعملت ةعلى توضيح ذلك للعالم من خلال مجلس الأمن. لم تقف الحكومة السودانية في توضيح سيادتها على هذه المناطق بل حذرت في نفس الوقت في رسالتها إلى مجلس الأمن بأنهم في حكومة السودان: اولا: نحرص على الدفاع عن السيادة السودانية على المنطقتين. وثانيا، مستعدون للتمهل لحل المشكلة سلميا. وثالثا، نرى ان المشكلة يمكن ان تتطور الى مواجهة عسكرية. رسالة واضحة المعالم والنوايا من حكومة يقودها حزب الأمة لما سيترتب عليه عدم إنسحاب مصر. جاء الرد المصري على موقف السودان ملئ بالإستفزاز في 20-2-1958م الأمر الذي جعل حكومة السودان أكثر تمسكا بحقها وهذا ما دفع الحكومة المصرية للتفكير في الإطاحة بها".... إنتهى الاقتباس. خلص الدكتور الى هذه النتيجة وتركنا في حيرة من أمرنا أمام اسئلة معلقة لم يشغل بها نفسه كثيرا لأنه كان في عجلة من أمره لتقرير ما يراه صحيحا طالما أنه تحرى الدقة العلمية في ايراد الحادثة التاريخية التي افضت الى قرار البيك. ولكن فات عليه أن الاستشهاد شيء واستخلاص النتائح شيئا آخر. في تقديري أن الأمر ليس بهذه التقريرية. فالمآخذ على الموقف الذي اتخذه عبد الله خليل كثيرة. فالبيك من واقع كونه ممثلا للشعب من خلال حكومته لم يستشر الشعب في القرار الذي اتخذه حين تسليم السلطة للجيش بذريعة المؤامرة الخارجية التي تحيكها الحكومة المصرية، أو يتحرى الشفافية اللازمة في مثل هذه المواقف ان كانت هناك مؤامرة. كما أن الثابت أن البيك سلم السلطة بليل ومن غير تفويض من الشعب الذي نوبه السلطة مما يعزز من قيمة الافتراض المتداول بأنه ايضا كان ضالعا في مؤامرة لعبة الكراسي السياسية التي كانت ولم تزل سائدة في لعبة الممارسة الديمقراطية في تاريخ السودان السياسي. المأخذ الثاني حتى لو افتراضنا جدلاً أن المؤامرة ثابتة ولا يطالها الشك بحسب تقدير البيك وحزبه لها، فمن الواضح أن التقدير في تسليم السلطة للجيش بحجة أنه الاقدر على حماية الوطن حجة غريبة ومردودة ، لأن مهمة الجيش اصلا حماية الوطن و مهمة النظام الحاكم تنحصر في أمره بالقيام بهذا الدور حين يتبين أن ذلك هو الحل الوحيد المتاح بعد استنفاد الحلول الدبلوماسية. وهذا لا يتطلب بأي حال من الاحوال أن تكون هناك عملية احلال وابدال في موقع السلطة السياسية. فلم نسمع من قبل أن هناك مؤسسة عسكرية اشترطت مسبقا أن يتم لها التنازل عن السلطة السياسية مقابل حمايتها للبلاد!. ثم ان البيك هو أدرى الناس بقدرة الجيش السوداني إن كان بمقدوره خوض معركة حماية الوطن المزعومة أم لا. فالثابت أن الحكومة المصرية لم تلبث أن احتلت حلايب و منطقة شمال مدينة حلفا، مناطق: سره، ودبيرة، وفرس في محاولة لتصعيد أزمتها السياسية مع حكومة البيك، وهو انتهاك صريح للسيادة الوطنية ،ومع ذلك فضل البيك الحلول الديبلوماسية في حل الأزمة، وتلك واقعية وحنكة سياسية تحسب لصالحه بلا شك، ولكنها تلاشت عندما حس البيك بتهديد مباشر للسلطة التي بحوزته، مما يقدح بالتالي في منطق تسليم الجيش للسلطة بحجة أنه المؤسسة الاقدر على حماية البلاد. المأخذ الثالث، هو استشهاد دكتور محمد عبد الله بالدكتور منصور خالد لتعزيز فرضيته في تبرئه البيك من تبعة تسليم السلطة للجيش. فالمعروف أن منصور نشأ كتلميذ مخلص للبيك وتشرب على يديه اصول السياسة حين كان سكرتيرا له في بداية حياته العملية. وهذا يقدح تماما ً في مصداقية رأيه أياً كان ثقله السياسي والفكري. ومنطق منصور في هذا الصدد ليس بأفضل من تصوره لحكومة تكنوقراط تقوم بمهمة تحديث السودان وتقوده الى الرخاء والاستقرار السياسي، يكون هو لاعبا أساسيا فيها كما فعلمع مايو، أو أن يتخذ موقع المستشار السياسي للحركة الشعبية بفرضية أنها الأقدر على بناء حلم السودان الجديد. ولقد أثبتت الايام خطل التصورين، وليس هناك ما يمنع خطل تصوره في موقف عبد الله خليل من انقلاب عبود، هذا على المستوى الموضوعي، ناهيك عن الحياد غير الموجود أصلاً. كان في مقدور البيك لو صح تصوره لنظرية المؤامرة أن يتخذ الشعب الذي فوضه مرجعا حتى يكون في الموقف القوي والجانب الصحيحمن التاريخ كما فعل رصيفه عبد الناصر إبان العدوان الثلاثي على مصر. فذكاء عبد الناصر في تعامله مع موقف يفتقد الى توازن القوى بينه وأعدائه و لجوئه الى الشعب أربك تماما حسابات القوى الدولية الغاشمة وتصوراتها في التخلص من نظام غير مرغوب فيه. ومع اختلاف الموقف والظرف الا أن اتخاذ البيك لمثل هذا الموقف كان من المؤكد أن يربك حسابات النظام المصري والمتواطئين مع سيناريوه حسبما فصل الكاتب. أما المفارقة الساخرة في تصورات البيك غير الموفقة هي، إن الجيش الذي "إئتمنه" على حماية البلاد لم يدّخر وسعا في تبني أجندة النظام المصري بأكثر مما تصور النظام المصري من حلفائه الديمقراطيين!. فالجيش المناط به ارجاع الأمانة لأهلها وفق تصورات البيك غير الواقعية لم يتمنع فقط، بل عمل على حل الاحزاب ومنعها من ممارسة السياسة، ولم يتساهل فقط في مسألة الجزء المقتطع عنوة من سيادة الوطن، بل تكرم بطمر جزء عزيز من البلاد واغراقه بكل ثرواته وكنوزه لصالح المشاريع الاستراتيجية للنظام المصري وقتها. بالدلائل التاريخية، لم يعرف حتى الآن وجها ايجابيا لموقف البيك من تسليمه السلطة للجيش في عام 1958، ولكن الثابت وبالدلائل التاريخية أيضا، أن ما فعله البيك هو أنه فتح صندوق "بندوره" لتدخل الجيش في السياسة السودانية مرة والى الأبد. وهو تدخل أورد البلاد والعباد مورد الهلاك. ليس ذلك فقط، بل أنه أرسى عادة ذميمة وهي أن الاحزاب الديمقراطية باتت نفسها لا تثق في اللعبة الديمقراطية التي تنتهجها، وتحولت عندها ممارسة الضرب تحت الحزام التي كانت تمارسها سابقا الى نظام ممنهج ومدروس وذلك بزرع خلاياها داخل المؤسسة العسكرية واستدعائها متى ما عنّ لها التخلص من نظام ديمقراطي لم يعد يروق لها!. ختاماً، سيظل موقف البيك من تسليمه السلطة للجيش دائما موضع جدل في سودان اليوم والمستقبل الآني على أقل تقدير، طالما ظلت تداعياته ترمي بثقلها سلبا في عدم الاستقرار السياسي للبلاد منذ وقتها وحتى راهن اليوم. وسيظل موقفه هذا دوما رهنا لمحاكمة التاريخ ما لم يجد السودان لنفسه مخرجا خالصا ومستداماً للورطة التي أورثه إياها البيك، والتي ما زالت الاجيال تدفع ثمنها. 29-04-2014