حمدتُ الله كثيرا أن قيّض لي مشاهدة نهائيات كاس العالم في كرة القدم لهذا العام، ونهائيات اتحاد كرة السلة الأمريكي بين فريقي ميامي (هيت) وسان أنطونيو (سبيرز) في وقت واحد، وشكرته على نعمة الصحة التي تمكنك من الاستمتاع بهذين الحدثين الرياضيين في هذا العمر المتقدم وأنت في كامل وعيك، أو تكاد، وفي هذا الزمن الردئ الذي أصبح فيه كل شئ ماسخا، أوله طعم الحنظل، ونضبت فيه المُتعة الخالصة وتم فيه تجفيف البهجة البريئة. غير أن عيني الثالثة، الناقدة، الفاحصة، المتفحصة– قاتلها الله – أفسدت عليّ، كعادتها، الاسمتاع بفنون نايمار البرازيلي وميسي الارجنتيني في كرة القدم، ولبرون جيمس لاعب ميامي وتوني باركر لا عب سان انتونيو في نهائيات كرة السلة. حلّقت بي فوق الاستادات الفخمة في مدن البرازيل المختلفة، المليئة بالوجوه المُلّونة بالبهجة وبأعلام بلادها، وفوق الشواطئ ذهبية الرمال، الممتدة من بورت أليقري في الجنوب إلى ناتال في الشمال، لتريني الفقر المُمِض في "البافيلات" العشوائية في ريو دي جانيرو ساوباولو، والعنف الإجرامي المُنظم، والظُلم البيّن لسكان البرازيل الأصليين، ولغاباتهم المطيرة التي هي رئة العالم، في الأمازون. غير أن أكثر ما شدّ انتباه عيني الثالثة في كل هذا المهرجان الرياضي العالمي هو انتشار الوشم (التاتوو) بين مشاهير كرة القدم وكرة السلة من كل الجنسيات والألوان. تراهم وقد غطوا أعناقهم وأذرعهم وأرجلهم بالوشم؛ كتابة ورسومات ملونة، وثعابين ووجوه وتصاميم هندسية وغير هندسية. صرفتني كثرة التاتوو وانتشاره عن متابعة المباريات أحيانا، وطفقت أفكر في هذه الظاهرة ببعض الحنق والسخط، وشئ من العجب الممزوج بالإشمئزاز. والحق يُقال أن ظاهرة انتشار الوشم (التاتوو) لا تقتصر على مشاهير الرياضة فقط، بل تتعداهم لتشمل ملايين الأشخاص العاديين في بلدان كثيرة حول العالم، شبابا وكهولا، رجالا ونساءً. أقدم بعضهم على تغطية أجسادهم بأكملها، من حلمة أذنهم إلى أخمص قدمهم، بالوشم. لا يكتفون "بالاستمتاع" به في غرف نومهم وحماماتهم، بل يعرضونه على الملأ في الطرقات والأماكن العامة بارتداء ما لا يستر. أقول لزوجتي حين يفيض بي الكيل، و"يركبني" الشئ السوداني: "الخواجات ديل جنّو؟ ده شنو الخمج البسوُّو فيهو؟ القصة دي حلاوة شنو؟ ثم ثانيا مُكلفة ومؤلمة وما بتتمسح!" لماذا يُشوهون وجوههم وأجسادهم بهذا الفعل القبيح؟ وهو، بهذه المُناسبة، نفس رد فعلي حينما أرى ما يضعونه في أنوفهم، وشفاههم، وألسنتهم، وحواجبهم، وجباههم، ووجناتهم، (وأماكن لا ترونها)، من أقراط وحلقات وقطع من الحديد والمجوهرات والأسلاك! قبل عقود، اقتصر الولع بالوشم على قلة من الناس. كنا نراه في شكل عصفورة صغيرة على صدغ فلاح مصري، أو صورة لمحبوبة على ذراع بحار يجوب بحار الدنيا، يسكر في موانيها حتى يغيب عن الوعي، ويستيقط صباح اليوم التالي ليكتشف أنه قد قبل أن يُغطي معطم جسده بالوشم. كان الوشم – عموما – يرتبط في ذلك الزمان بفئات اجتماعية مُعينة ومهن معينة من بين غير المتعلمين ورجال العصابات وغيرهم. بيد أن عيني الثالثة التي لا ترحم لم تتركني استرسل في ذمّ التاتوو و"الخواجات" لأصل إلى ما درج صبية الحركة الإسلامية (الذين ما عادوا صبية) على تكراره عن قرب انهيار أمريكا والحضارة الغربية نتيجة للتفسخ والمجون والجدب الروحي. ذكّرتني وأنا في وسط استنكاري واستهجاني للتاتوو والأقراط بأن نحو نصف السودانيين، شماليين وجنوبيين، (وأنا منهم)، كانوا حتى منتصف القرن العشرين، من "المشلّخين" أو مثقوبي الآذنين، وهو ما يراه الكثيرون تشويها مُريعا، قاسيا، مؤلما للخديْن والجِباه، وما كان السودانيون يرونهم تجميلا يتغنى به المُغنون (الشلوخ مطارق، وحلو درب الطير في سكينة، والتِي، التِي ، يا وجع قلبي!). ولم تكتف عيني الثالثة بذلك بل مضت لتذكرني بعادة سودانية أخرى شبيهة بالتاتوو اندثرت حتي نُسِيَتْ، وهي ما كنا نسميه "الشطارة". كان الشبان في قُرى السودان وأحيائه الشعبية، حتي ستينيات القرن الماضي، يستخدمون أعقاب السجائر المشتعلة (دون فلتر) لحرق دوائر في بشرة سواعدهم، قد تمتد من الرسغ إلى المرفقين، يتباهون بعددها، علامة على "شطارتهم"، أي شجاعتهم، وتحملهم للألم. لعنة الله على عيني الثالثة! لا تتركني استمتع بكرة القدم دون مُنغصات، ولا تتركني أتحامل على الآخرين، وأنظر إليهم من علياء تفوقي "الحضاري" والروحي وأنا من خير أمة أخرجت للناس! /////////