من الضروري أن نعرف السترة، باعتبارها من اشتقاقات الستر. والستر لغةً: تغطية الشيء، وستر الشيء يستره ستراً، أي أخفاه وتستر، أي تغطى، وفي الحديث: "إن الله حيي ستير يحب الحياء والستر"، أي من شأنه وإرادته حب الستر والصون لعباده. ويقال رجل ستور وستير، أي عفيف. والستر اصطلاحاً: ستر المسلم وهو تغطية عيوبه، وإخفاء هناته، وعرفه ابن حجر – يرحمه الله – عند شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "من ستر مسلماً.."، قائلاً: "أي رآه على قبيح فلم يظهره، أي للناس، وليس في هذا ما يقتضي ترك الإنكار عليه فيما بينه وبينهم، ويحمل الأمر في جواز الشهادة عليه بذلك على ما إذا أنكر عليه ونصحه ولم ينتهِ عن قبيح فعله ثم جاهر به، كما أنه مأمور بأن يستتر إذا وقع منه شيء، فلو توجه إلى الحاكم وأقر لم يمتنع ذلك، والذي يظهر أن الستر محله في المعصية قد انقضت، والإنكار في المعصية قد حصلت، تلبث بها فيجب الإنكار عليه، وإلا رفعه إلى الحاكم، وليس من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة". وعرفه الإمام النووي – يرحمه الله – بأنه: "الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس هو معروفاً بالأذى والفساد". ومعنى الستر هنا عام لا يتقيد بالستر البدني فقط أو الستر المعنوي فقط، بل يشملهما جميعاً، فمن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ستر بدنه كأن رأى منه عورة مكشوفة فسترها. وهناك ستر معنوي، أي ألا يظهر المسلم عيب أخيه المسلم، ولا يسمح لأحد أن يغتابه ولا أن يذمه، من فعل ذلك ستره الله في الدنيا والآخرة، فلم يفضحه بإظهار عيوبه وذنوبه. وأحسبُ أن هناك فهماً مغلوطاً في فقه السترة، لدى الكثيرين، إذ يحسب بعضهم أن الفهم المتقدم للسترة هو مطلق لا قيد فيه، ولكن في الحقيقة السترة سترتان، سترة قدمنا لها بشرح وافٍ، تدخل في قوله صلى الله عليه سلم "من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة". أما الستر غير المستحب والذي ذهب البعض إلى إدخاله في باب الكراهة، فهو ستر المجاهر والمتهتك، فهذا لا يستحب أن يتستر عليه بل يظهر حاله للناس حتى يجتنبوه، وينبغي رفع أمره للقاضي حتى يقيم عليه ما يستحقه. وقال الإمام أحمد بن حنبل – يرحمه الله-: "ليس لمن يسكر ويقارف شيئاً من الفواحش حُرمة ولا صلة إذا كان معلناً مكاشفاً". أخلصُ إلا أن السترة ليست مطلقة. قد يستر المرء لدفع ضرر أكبر من الفضح، وذلك التزاماً بقاعدة أصولية تدعو إلى دفع الضرر الذي هو مقدم على جلب المنفعة، ولكن في الحق العام لا يجوز الستر، لأن ذلك يدفعه إلى مزيدٍ من الفجور والوقوع في الآثام، وربما تمادى في إثمه هذا اعتقاداً منه بأنه مستور عليه، فمثل هذا ينبغي أن يُفضح أمره ويُرفع شأنه إلى ولاة الأمر، وتقديمه بلا أدنى رأفة إلى السلطة القضائية حتى يُقام عليه ما يستحقه من عقوبات، لأن ستر مثل هذا الرجل أو المرأة يطمعه في مزيد من الأذى والمعصية. والحق العام لا يعفى بسترة، ولكن يقتص من المجرم تعزيراً. ومن المفاهيم المغلوطة أيضاً أن عقوبة التعزير أقل عقوبة من الحد، ولكن في حقيقة الأمر هي عقوبة تقديرية للقاضي أو لولي الأمر، قد تكون أشد عقوبة من الحد نفسه. فينبغي أن يُفهم أن من يختلسون المال العام أو يسرقون أموال الدولة نهاراً جهاراً، مادياً وعينياً، فلا يجوز سترهم، بل على الجهات المعنية والوسائط الصحافية والإعلامية كشفهم للناس ولولاة الأمر، ضمن الكشف عن قضايا الفساد والإفساد عامة، لتيسير أمر اتخاذ الجهات العدلية، وولاة الأمر، ما يرونه من عقوبة مستحقة. ومن الضروري تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة أيضاً، والتذكير ببعض المفاهيم الغائبة عن فقه السترة الذي فُسر تفسيراً خاطئاً، جهلاً وظلماً وخداعاً. ولنستذكر قول الله تعالى: "يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ".