رمضان كريم رمضان كريم، رمضان شهر التوبة والغفران، رمضان هذا الشهر الفضيل، رمضان شهر الصوم ومراقبة النفس. فيه تعمر المساجد وتتواصل فيه الحسنات وتتوالى فيه البركات وتضاعف فيه حسنات أعمال الخير فردية أم جماعية، فيه تتقارب المسافات بين العباد ورب العباد وتتكاتف فيه الأيادي وتحن فيه النفوس الى العبادة وترق الى مشاركة المحرومين وتلين القلوب القاسية، فالحمد لله الذي أهدى لنا هذا الشهر الفضيل لنغسل عقولنا ونطهر قلبوبنا ونصفي نباتنا. هذا العام يأتي رمضان والظروف بالنسبة لي متغيرة تماما، فبالرغم من حياة الغربة بعيدا عن أرض الوطن الا أن رمضان كان يأتي ونحن نحتفي به بشتى الوسائل والعادات السائدة في بلادنا من تجهيز للمائدة الرمضانية التي لا تخلو ابدا من (الثوابت) و (الاصول) المتعارف عليها في السودان من حلو مر وآبري وبليلة وسلطة روب وغيرها مما اعتدنا عليه مذ طفولتنا. بل وقد (صنعنا) الحلو مر في بلاد الغربة بالمملكة العربية السعودية بعد أن كشفنا (شفرة) الخلطة السرية والمراحل التي يمر بها تصنيع ذلك (المنتج) العجيب، والذي تعود فيه براءة اختراعة الى جيل (الحبوبات) الحكيمات اللاتي برعن في ذلك الاختراع الغذائي الكبير ونجحن أيما نجاح فلهن التحية والاجلال والاكبار ولكل من أسهم في (تحسين) جودة ذلك المنتج الرائع، الذي تتمثل جودته ايضا في اسمه العجيب ايضا (حلو مر) فهو خلطة رائعة بين نقيضين (حلو) و (مر) ومن هنا يأتي الاعجاز (الطبي) الذي تدل رائحته المنبعثة من كل بيت موعد اقتراب ذلك الشهر الفضيل، وكانت (عواسته) عبارة عن مؤتمرات تتكرر في كل بيت وناحية من الاحياء تتمثل فيها روح التعاون الاجتماعي بين الجيران والأهل وربات البيون اللائي يجتمعن كل يوم في بيت حيث تتجسد التقاليد والعادات الدالة على التعاون على البر والسماحة السودانية الاصيلة، الا أن قسوة الحياة اليوم وضغط الوضع الاقتصاد (قلص) من انتشار تلك العادات الحميدة السمحة فصارت عملية (تصنيع) الحلو مر تجارة يتكسب منها. وتوقفت تلك العادة الحميدة الا في مناطق ريفية محدودة. هذا اول رمضان لي في السودان منذ خمسة وثلاثين عاما. اذ كنت طيلة تلك السنين المنصرمة احتفي مع عائلتي بقدوم وقضاء ايام الشهر المبارك في المملكة العربية السعودية. وقد شهدت صيام الشهر أو أيام منه في بعض الدول العربية منها مصر وليبيا كما شهدته في مالطا. ولكل طعمه وطقوسه، ففي مصر يحتفون بالشهر باسلوب خاص تمتد فيه الافراح من مأذن المساجد الى طرقات الحارات الشعبية وتزدان فيه بأقواس ورايات ولافتات ترحب بمقدم الشهر الفضيل، ويرقص الاطفال طربا وهم يرددون الاناشيد والاهازيج الشعبية حاملين (فوانيس) رمضان الشهيرة: هاتوا الفوانيس يا أولاد ....هاتوا الفوانيس حا نزف عريس ياأولاد .... حا نزف عريس.... وغير ذلك مما ينشد في استقبال الشهر ووداعه. ولعل مصر من أكثر البلاد العربية التي يجد فيها الشهر الفضيل حظا وافرا من الاستقبال والعناية الشعبية الخاصة وهذا امر لا يخفى على أي زائر أو مقيم في أي من المدن أو الارياف المصرية، هذا فضلا عن البرامج التلفزيونية والاذاعية المخصصة لهذا الشهر من (فوازير) وغيرها من المسلسلات الدينية والاجتماعية التي تنتظم ايام هذا الشهر الفضيل. اما الصيام في مالطا فيأخذ منحى آخر، حيث نسبة المالطيين المسلمين لا تذكر ولا يوجد في مالطا سوى مسجد واحد وهو تابع للمركز الاسلامي الذي شيده العقيد الراحل معمر القذافي والذي له فضل ادخال اللغة العربية في المنهج الدراسي المالطي ابان حكم الراحل الرئيس المالطي دوم منتوف. ومن المعروف تاريخيا أن العرب قد احتلوا جزيرة مالطا واقاموا فيها حكمهم الذي استمر اكثر من قرنين من الزمان، الا أن (الصليبيين) قد ازالوا أي اثر اسلامي من على ارض الجزيرة، ولكنهم لم يستطيعوا أن ينتزعوا الثقافة العربية من اللسان المالطي أذ تشكل العربية حوالى ثمانين بالمائة من اللغة المالطية الرسمية التي يتحدث بها المالطيون اليوم. وقد كان الصائمون على ارض الجزيرة هم فقط ابناء وبنات الجاليات الاسلامية المقيمة على ارض الجزيرة الذين يتنادون كل جمعة ويسعون الى اداء صلاة الجمعة في مسجد المركز الاسلامي الوحيد. وكانت تجربة الصيام في بلد (طيره اعجمي) تجربة قاسية ومريرة اذ ان المشاركة الوجدانية معدومة، بل كان المحافظ على صيامة كالقابض على (الجمر) في خضم مجتمع شبه عار، كنت مجبرا على شق صفوفه وانا (صائم) متوجها الى مقر عملي الذي لا يبعد كثيرا عن محل اقامتي في تلك الرقعة السياحية التي تلامس الشاطئ الممتد الذي يؤمه السائحون والسائحات، فشتان بين هذا المجتمع ومجتمع جله من المعتمرين والزائرين الذين يحرصون على اداء عمرة رمضان من كل عام وقد اتوا من بلاد اسلامية تقع في اطراف الدنيا وجلهم من الشيوخ والمتقدمين في السن الذين يتدفقون حيوية وحماس وهم يسعون بين الصفا والمروة ويطوفون ويتزاحمون ويسعون الى تقبيل الحجر الاسود. ورغم ضعف اجسادهم وبنيتهم الا أن ارواحهم متقدة وهمتهم مشحونة بالايمان ومحبة الله ورسوله. تلكم الصورة الاخيرة في ارض الحرمين الشريفين ، ورمضان كريم. نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعل رمضان هذا العام بردا وسلاما على المسلمين قاطبة في ارجاء المعمورة وبخاصة أهل السودان الذين يعانون من شدة الحر هذا العام علاوة على الشدة الاقتصادية التي اضحت ملا زمة على اجواء السودان وحسب توقعات المختصين بالاجواء الاقتصادية فان الزوابع الدولارية وعدم الاستقرار وتذبذب الوضع سيؤدي الى ارتفاع مصاحب لشهر رمضان في جميع اسعار السلع الرمضانية، نسال الله ان يلطف بالعباد، ومرة اخرى رمضان كريم. [email protected] /////////////