[email protected] (1) حين أطربتني قصة قصيرة، كتبتها القاصة السودانية المبدعة الرائعة ليلى أبو العلا ، و حلقت بعيداً في أجوائها ، وكنت كالصوفي المستغرق في ساحة الذكر ، يدور على وقع الطبول والدفوف : الطار في ضربه الشجي والنوبة في أنينها ، قلت أترجم . والترجمة التي عنيت لك ، هي عند أهل الذكر والمتصوفة ، حال ينتقل فيها "المجذوب" إلى دنياوات من الصفاء الروحي ، فتجري على لسانه، كلمات مبهمات ، هي من السريانية ، أو قل رطانة محضة . القصة التي عرضت لي من كتابة ليلى ، عنوانها "الأيام تدور . ." وقد جاءت ضمن مجموعتها القصصية التي صدرت عن دار " بوليجون" في بريطانيا عام 2001 بعنوان " أضواء ملونة "( coloured lights ). وآمل أن نجد ، أنا والأستاذة المتخصصة في الترجمة ، سامية عدنان ، فرصة لنشر وطباعة هذه المجموعة القصصية وقد أكملنا ترجمتها إلى العربية، مشاركة بيننا منذ عام 2005 . . (2) كتبت إليّ ليلى، أنْ قد سرّها أن أحداً أعجب بقصة من قصصها التي ظنتها عصيّة من ناحيتين: على الهضم وعلى الفهم، لما فيها من دلالات رمزية عميقة ، فوق أن أحداثها تقع بعد قرابة المائة عام من زماننا هذا ، وألمحت إلى أنها محاولة في التجريب القصصي مُحدثة . . حين أكملت ترجمة قصة " الأيام تدور . . " ونشرتها في صحيفة "الزمان" اللندنية ، ثم في صحيفة " الحياة" | اللندنية أيضا من بعد ، قال أصدقاء لي ، أن الترجمة بدت أجمل من القصة في أصلها الإنجليزي ، وذلك بالطبع غلو معجبين . . ولقد اتبعت أسلوبا في الترجمة ، يقربني إلى الروح الذي كتبت به القصة ، وإلى السياق والسلاسة الشعرية التي لونت أسلوب ليلى وقاموسها اللغوي المميز بالإنجليزية التي تجيدها إجادنها لسانها الأم. وذلك عين الأسلوب الذي عناه عثمان عبد الرحيم " أبوذكرى" ، واتبعه في ترجمته لمقالَي " آركل" : أصل الفونج ، الصادر عن دار عزة – الخرطوم 2003 ص 16، والذي سأتناول رؤيته في الترجمة في سياق هذا المقال. . (3) لم تكن هذه سوى تجربة أولى لي ، لنشر محاولاتي الخجولة في الترجمة . نعم ، مارست الترجمة كهاو يجرب ، من الإنجليزية إلى العربية أو العكس ، لسنين خلت . ما أعجبني الذي ترجمت . رأيته أشد جفافا من الأصل الذي نقلت عنه ، فأدركت أن ممارسة الترجمة كهواية ، أمر شاق و صعب ، ويحتاج لتأهيل وتمرين وصقل ، وقد صارت الترجمة ، مثلما أوضح " أبوذكرى" ، في تأملاته التي وردت في مقدمة ترجمته لمقالَي "آركل " ، علما يدرّس في الجامعات ، وتخصصاً ينقطع إليه أهله ، فلا يبزهم هاو ٍ متطفل مثلي - مهما سما بهوايته - بمثل حذقهم و إجادتهم ونسجهم . غير أني دائما كنت أعود إلى ترجمات أستاذنا الراحل جمال محمد أحمد ، والذي ما فتئت أعتمد نفسي تلميذاً له ، وإن لم أجلس أمامه في فصل دراسي أيام عهده معلما ، فهو من جيل ونحن من جيل آخر ، وما رافقته إبان سنواته الدبلوماسية ، فقد كان وزيرا كبيرا.. وقت أن ولجت الدبلوماسية يافعا . لكنني ظللت أستغرق في أسلوبه الفريد في الترجمة فيبهرني . كنت قد انقطعت قارئا محباً لكتابات جمال ، زماناً طويلا . حين اطلع الأخ الصديق الصحافي الحاذق ، السر سيد أحمد ، على ترجمتي لقصة ليلى أبو العلا "الأيام تدور" ، كتب عنها معجباً في مقالٍ له راتب وقتذاك في صحيفة "الرأي العام" ، وبعض ما قاله هو أن ترجمتي لقصة ليلى أبو العلا ، ذكرته بأستاذنا جمال وترجماته ، وكيف أن للدبلوماسية رصيداً وسهماً مميزاً في الترجمة ، ونقل آدآب وفنون الآخرين إلينا . كان السر محقاً ، وفي باله ترجمات جمال الثرة تلك ، وأعظمها شأنا "أفريقيا تحت أضواء جديدة" ، التي ألفها المؤرخ البريطاني باذل دافيدسن ، وترجمها عن الانجليزية ونشرها جمال ، أوائل الستينات من القرن الماضي ، إذ صدرت عن دار الثقافة في بيروت عام 1961 . أعادني الصديق السر، إلى كلمات أخر قديمات ، جرت على لسان الراحل علي المك (4) أطل الراحل علي المك أمام جمع من الدبلوماسيين ، حين دعاه السفير المغفور له عبد الهادي الصديق ، لندوة في وزارة الخارجية ، في منتصف سنوات الثمانينات من القرن الماضي . تساءل الراحل علي المك عن الصلة بين صنعة الترجمة والسفارة . لكنه قبل أن يجيب ، آثر أن ينقل عن الراحل جمال محمد أحمد قوله ، وهو يحدث عن أسلوبه في الترجمة : " يحملني هذا الذي أقول عن أسلوبي في الترجمة إلى الظن بأن المترجم والسفير كليهما ، إن كبت حرية اختياره ، فقدَ طريقه لمبتغاه . مقام الرجلين في السفارة و الترجمة ، أوسع قدرة من حرية اختيار الوسائل . سيرميني البعض بالإسراف لأني أقابل بين مقام السفير وهو كبير ذو خطر وشأن ، ومقام المترجم ، وأكثر الناس لا يعرفون لعلمه مقاما ذا ذكر . " ثم يقول الراحل علي المك معلقا على ذلك : " إن المترجم سفير . سفير هو من طراز آخر . هو مبعوثنا إلى اللغات الأخر . . يعود إلينا بجواهرها و بلآلئها الباهرات . . " . إنتهى قول علي المك ، وهو كلام مبين ، وقول سديد ، دون شك . . (5) يأتي من بعد جمال وعلي، صديقنا الراحل عثمان عبد الرحيم "أبوذكرى" ليكتب مقدمة نظرية لأسلوبه في الترجمة، وذلك في مفتتح المقالين اللذين أشرت إليهما، وهما عن أصل الفونج ، كتبهما الآثاري البريطاني ، أ.ج .أركل وترجمهما عثمان ، ترجمة محكمة رصينة، ونشرهما في كتاب صدر عن دار عزة عام 2003 . قال "أبو ذكرى " في مقدمته : ( إن المترجمين رسل حضارة ، والناظر لما يدعو له عرب اليوم ومطالبتهم بنقل تكنولوجيا الحضارة الغالبة ، يعلم أن أول ترجمة تمت في الإسلام، كانت في عهد بني أمية لعلوم الكيمياء والنجوم والطب عن لسان اليونان والقبط والسريان . ولما جاء بعدهم بنو العباس، أنشأوا بيت الحكمة وأجزلوا العطاء للمترجمين لنقل كتب الطب والرياضيات والطبيعيات والكيمياء والفلسفة والفلك ، فتيسر للعرب كل ما هو مفيد من الناتج الحضاري اليوناني والهندي والفارسي والسرياني . ) انتهى كلام أبي ذكرى.. (6) نعم ، إن الذي يجمع عليه هؤلاء الكتاب من واقع تجريبهم ، ومن فيض ممارستهم ، ترجمة ونقلا عن اللغات الأخرى ، هو أن من يترجم من لسان إلى لسان ، سفير حقيق . وإن اجتهد البعض في النظر لوضع تعريف ميسر لكلمة "سفير" و"سفارة" ، كونهما من السِّفر(بكسر السين) ، أي الكتاب أو الرسالة ، فإني أميل للأخذ بهذا المعنى الذي يقارب المقاربة المنطقية بين "السفير" و"المترجم" . كلاهما - حسب قول الراحل جمال - يضربان في البرية البعيدة ، ليعودا بما يقرّب وبما يختزل المسافات ، المعنوي الافتراضي منها والجغرافي المحسوس ، فتزداد الأواصر بين الشعوب والقبائل لحمة ووثوقا، تآلفاً واتساقا . تلك من حكم الكتاب . لك أن ترى مقدار السمو الذي عليه أرباب الترجمة ، ينقلون الفكر والإبداع من لغة إلى أخرى ، سمواً يكاد يفوق ما نحفظ للدبلوماسية وسفرائها من مكانة ومقام، وهو ما ألمح إليه المفكر جمال محمد أحمد في أول حديثي . يَعبُر " السفير" مسافات تقاس بالأميال والفراسخ ، أما "المترجم" ، فيشق عباب اللغى ويطوي صفحات الكتب ، يعبر بها من لسان أعجمي إلى لسان فصيح. و إني لأرى إدراك العلوم والإبداع منقولا من لغة إلى لغة أخرى، أجل وأسمى من إدراك العلائق السياسية تنقل بين الملوك والرؤساء في رسائل ومدونات بروتوكولية . الأول ينزل أثره للعوام ، لأناس عاديين ، للشعب . أما جهد السفراء - في الفهم الكلاسيكي المحنّط - هو وصل بين صفوة هنا وأخرى هناك . وصل بين حاكم وآخر ، تجلله حصانات وامتيازات. (7) ألا تعجبون معي ، كيف حظي السفراء ، وعبر سنوات خلت ، بهذا الشأن الخطر، وهذه المكانة السامية التي قال عنها جمال م .أحمد ، لولا أن الملوك في الزمن الغابر كانوا يسقطون هيبتهم على أكتاف رسلهم ومبعوثيهم ، فيمتد الإحترام إليهم كذلك والحصانة والهيبة. . ؟ في عالم اليوم ، السفراء يحملون سِمت "السيادة" ، أما المترجمون ، على سموّ وكبر عكوفهم على ما يترجمون ، تجدهم يذكٌرونك بما ينقصك ، إذ هم يأتونك من الآخرين بما ليس عندك ، بل وبما هو أفضل مما عندك ، وهم بعد ذلك عاطلون عن أيّ حصانة . لربما يكون جمال مُحقاً في ملاحظته ، أنّ معظم الناس لا يرون للمترجم مقدارًا و مقاما ، أو أنهم يرون أنّ النقصان عند المترجم ، والزيادة عند السفير . . تلك مقارنة طريفة أخذنا إليها الراحل جمال ، غير أني وقد أكون من بين الذين عناهم جمال - مترجماً وسفيرا ، فإني أرى الظلم قد حاق بالمترجم، فما أنصفناه بقدر سمو فعله وجميل بذله وعظم اجتهاده . . أحب إليّ أن أكون سعادة المترجم ، إن خيّرت. . ! الخرطوم – 9 سبتمبر 2014